المبحث الثالث: نظام الدولة
كانت
يثرب قبل قيام الدولة الإسلامية مقسمة إلى خمسة أجزاء، كل جزء منها تسيطر عليه قبيلة من القبائل، سواء كانت عربية أو يهودية، ويعيش على ذلك الجزء مختلف البطون والعشائر للقبيلة الواحدة، وكانت كل قبيلة تشكل وحدة الحياة الاجتماعية، وفي مضمونها وحدة الحياة السياسية المستقلة بنفسها. وقد كان الخلاف بين مختلف القبائل مستحكما، فيهود
بني النضير وقريظة نكلوا بيهود
بني قينقاع وأخرجوهم من ديارهم ومزارعهم وسفكوا دماءهم، جريا وراء مصالحهم الشخصية، وقد ندد القرآن الكريم بأعمالهم
>[1] .
وبعد الهجرة كانت قبائل اليهود وبطونها في حالة واضحة من التفكك، وكان إحساسهم بالترابط منعدما، فلم يبد أي بطن من بطونهم أي إحساس بالعطف نحو الآخر حين وقعوا في خلاف مع النبي عليه السلام
>[2] .
أما العرب - الأوس والخزرج- فقد تمكن اليهود، عن طريق الدسائس والمؤامرات، أن يلقوا العداوة والشحناء بين الفريقين، فكانوا يعيشون دائما في حروب دامية متواصلة، كان آخرها حرب (بعاث) قبل الهجرة بخمس سنوات.. فالتنافر بينهم مستحكم، والعداء مزمن، منذ أمد بعيد. وقد
[ ص: 71 ] وصف حالهم هـذا للنبي صلى الله عليه وسلم نفر من
الخزرج حينما عرض عليهم نفسه فآمنوا به، قائلين له: إنا قد تركنا قومـنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك
>[3] . فلم تكن لهم قبل ظهور الإسلام دولة لها سلطان مستقل يخضعون له على اختلاف قبائلهم، ولا هـيئة منظمة يوظفونها للرجوع إليها والنـزول عند حكمها، كما لم يكن لهم عرف في جزيرتهم على حدود وثغور لـها جيشـها المنظم وارتباطاتها وعلائقها... وإنما كان كيان العرب الاجتماعي الطبيعي ينمو وتتشابك أغصانه، وتلتف فروعه، وترسو جذوره في إطار القبيلة فقـط
>[4] الذي يرأسها «شيخ» هـو لها بمقام الملك؛ لأنه هـو المرجع المسئول في السلم وفي الحرب، يقصده أفراد القبيلة من ذوي الحاجات، ويتولى الشئون العامة، ويفصل في المنازعات، لكن كثرة الخلافات وعمقها بين القبائل والبطون أو بين أفرادهما تظل عالقة بينهم، لأن اللجوء إلى حلها حلا قبليا أو عشائريا لا ينتهي إلى الحسم في الغالب بل تظل له صفة التراضي
>[5] .
أما بالنسبة لمفهوم الأمة في العرف العربي فلم يكن يتجاوز الأسرة الكبيرة التي تمسكها رابطة الرحم القريبة، وتجمع أفرادها في أسرة واحدة،
[ ص: 72 ] وتتقدس فيما بينها -تلقائيا- قرابة الدم دونما حاجة إلى شيء خارج عنها... فوحدة الدم هـي التي تسود روح الجماعة، وفي ظلها قام قانونها العرفي، الذي ترسي على أساسه علاقاتها بأفرادها وسياستها مع غيرها
>[6] ، لذلك «كان طبيعيا أن يضع العرب في مطلع القرن السابع (الميلادي) مفهوم «القبيلة» في مركز الصدارة في تفكيرهم السياسي، إذ لم يكن لدى غالبية العرب هـيئة سياسية أخرى غير القبيلة»
>[7] .
- المبدأ «الأيديولوجي» للدولة
1- يرى «
فلهاوزن » أن النظام الذي أدخله
محمد صلى الله عليه وسلم وسط تلك الفوضى كان على كل حال سببا في توحيد القوى والعناصر، ولم يكن معروفا حتى ذلك الحين، وقد بدأ كأنما قد ابتلعت الجماعة القائمة على أساس الدين تلك الجماعات القديمة المقدسة القائمة على رابطة الدم، ولكن تلك الجماعات بقيت في الحقيقة كما هـي، وإن كان الشأن الأول قد انتقل منها إلى الجماعة الكبرى، فدخلت الطوائف التي كانت موجودة حتى ذلك الحين، ونعني بها القبائل والبطون والعشائر، في الجماعة الكبرى الجديدة، واحتفظ لها «دستور» المدينة بشخصيتها، ولكنه نقل منها اختصاصاتها
[ ص: 73 ] كوحدات قبلية إلى الدولة، وإن أبقى لها كل ما من شأنه أن يحفظ على الناس الروابط فيما بينهم
>[8] .
2- ورد في ديباجة الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم: هـذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش و (أهل) يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس»، وفي هـذا إعلان صريح -حسب اللغة المعاصرة- للأساس (الأيديولوجي) العالمي للدولة الجديدة... إنها دولة الفكرة والعقيدة «من دون الناس»، باب الولوج إليها هـو الإيمان، ويستوي في الانتماء إليها أهل (مكة) ، قبيلة (قريش) ، وأهل (يثرب) وغيرها ممن تابع وجاهد
>[9] .
3- لقد أحاط «دستور» المدينة إحاطة شاملة بأمور الدولة الإسلامية، من تنظيمات وعلاقات داخلية وخارجية، فهو يعتبر أول نظام مكتوب قامت على أساسه دولة منذ أول تكوينها، كما يمثل تطورا كبيرا في مفاهيم الاجتماع والسياسة، فهذه جماعة تقوم لأول مرة في الجزيرة العربية على غير نظام القبيلة، وعلى غير أساس رابطة الدم، حيث انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، ثم ترابطت هـذه الجماعة المسلمة مع اليهود، الذين يشاركونهم
[ ص: 74 ] الحياة في المدينة إلى أمد، كنوع من الاتحاد الكونفدرالي -حسب المفهوم المعاصر- ولأول مرة يحكم القانون حيث ترد الأمور إلى الدولة، ويرجع بالرأي الأخير إلى رئيسها. وبذلك بدأ قيام مجتمع جديد على مفاهيم جديدة بعيدا عن القيم القبلية
>[10] .
- هـيكلة التنظيم السياسي للمجتمع
1- ضمت الدولة طوائف المدينة كلها، ولكنها لم تكن تتألف من أفراد، وإنما كانت تتكون من جماعات، فالفرد لا ينتمي إلى الأمة إلا عن طريق العشيرة والقبيلة، فقد جاءت بنود «الصحيفة» من رقم (3 إلى 11) المتعلقة بالمؤمنين مبقية التشكيل القبلي كما هـو وأن يدخل أفراد الأمة على التشكيل نفسه، وكذلك البنود من رقم (25 إلى 35) المتعلقة
باليهود ، فقد تعاملت معهم أيضا عن طريق القبائل والعشائر لا عن طريق الأفراد، وبذلك أبقت الدولة التشكيل الاجتمـاعي كما هـو، لأن نظـام القبيلة والعشيرة لم يكن شرا كله، فما كان مفيدا أبقت عليه الدولة كإغاثة الملهوف مثلا، وكل ما كان يتعارض مع الانتماء الاجتماعي الجديد استغنت عنه ونبذته، كالعصبية والثأر مثلا، كما تركت رؤساء القبائل والعشائر كما هـم ولم يحل محلهم موظفون دينيون
>[11] .
[ ص: 75 ] 2- إن انصهار الكيانات القبلية والعشائرية في كنف الدولة المركزية القائمة على الفكرة والعقيدة بدلا من رابطة الدم لا يعني أن دور القبيلة قد انتهى، إذ بقي لها دور اجتماعي وسياسي إسلامي فاعل في تطبيق سياسة الدولة الجديدة في المدينة، حيث أبقت عليها واجبات النفقات التي ليست ذات صبغة خاصة محضة، وخصوصا فيما يتعلق بدفع الديات ، وفداء الأسرى، وهذا ما نصت عليه «الوثيقة» ابتداء من البند رقم (3) إلى البند رقم (11) ، ذلك أنه لم تكن قد وجدت بعد خزينة للدولة. وكذلك أبقت للعشيرة والقبيلة مسألة الولاء ، كما ورد في البند رقم (12ب) ، فلا يجوز لأحد أن يحالف مولى دون مولاه، وكذلك أبقت حق الإجارة لكل المتعاقدين بدون تقييد فلكل فرد الحق في أن يجير شخصا غريبا وهو بذلك يلزم الجماعة كلها، ولكنها استثنت من هـذا إجارة
قريش ومن نصرها
>[12] مؤكدة ذلك الاستثناء في البندين رقم (20ب و43) من دستور الدولة الجديدة.
أما شيخ القبيلة الذي كان له الدور السياسي الأول في قبيلته يتقدمها في حروبها، ويبرم المعاهدات والصلح باسمها، ويتولى تقسيم غنائمها، ويأخذ المرباع
>[13] من كل غنيمة حرب، والصفايا
>[14] ، والنشيطة
>[15] ، وكذلك الفضول
>[16] ، كما عبر عنه الشاعر العربي بقوله:
[ ص: 76 ] لك المرباع فينا والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول >[17]
3- هـذا الشيخ باعتباره رئيسا للقبيلة التي تعد أعلى إطار سياسي، قد عملت الدولة المركزية الجديدة على سحب تلك المسئوليات السيادية منه، وأبقت له دورا سياسيا واجتماعيا بروح إسلامية جديدة، فهو مسئول أمام الدولة عن أفراد قبيلته أو عشيرته برعايتهم وتفقد أحوالهم وخاصة فيما يتعلق بأمور دينهم ودنياهم، حتى لا ينحرفوا عن الجادة، وهكذا تغير الوضع في المجتمع المديني الجديد، حيث أصبحت القبائل والعشائر تمثل تكتلا إسلاميا واحدا تحت مسمى جديد هـو (الأنصار) تربطهم قيم دينية جديدة مع تكتل آخر اسمه (المهاجرون) يحكمهما قانون:
( إنما المؤمنون إخوة ) (الحجرات:10) ،
وهو مبدأ قيمي جديد حطم كل المبادئ والقيم الجاهلية القديمة، وجعل
بلالا الحبشي ،
وصهيبا الرومي ،
وسلمان الفارسي ،
وأبا ذر الغفاري ،
وسعد بن معاذ ،
وسعد بن عبادة ،
وأبا بكر ،
وعمر وعليا ،
وحمزة، وعبد الرحمن بن عوف ، أمامه سواء تجمعهم أخوة الإسلام والعقيدة، وكان القرآن لا يكف عن تذكيرهم بالوضع القبلي الذي كانوا عليه ويكشف لهم أوزاره، ولما تزل آثاره قريبة منهم فيقول:
( واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ ص: 77 ] وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) (آل عمران:103) . يقول المستشرق (
فون كريمر ) : «جمعت فكرة الدين المشترك تحت زعامة واحدة شتى القبائل في نظام سياسي واحد، ذلك النظام الذي سرت مزاياه في سرعة تبعث على الإعجاب، وإن فكرة واحدة هـي التي حققت هـذه النتيجة، تلك هـي مبدأ الحياة القومية في جزيرة العرب، فقد قضت الوحدة الدينية الجديدة على الشعور القبلي القديم، وكان الإسلام هـو الذي مهد للائتلاف القومي الذي لم تعرفه القبائل العربية من قبل».
ويضيف قائلا: «أدى الإسلام إلى إضعاف القوة الرابطة للفكرة القبلية القديمة، تلك الفكرة التي أقامت بناء المجتمع العربي على أساس قرابة الدم، وكان إسلام العربي ودخوله في المجتمع الجديد هـدما لأهم قوانين الحياة العربية الأساسية التي أدت إلى تفتيت النظام القبلي وتركه ضعيفا أمام حياة قومية شديدة التماسك»
>[18] .
ويمكن القول إجمالا: إن ما هـدفت إليه الدولة الإسلامية - في مجال التنظيم السياسي - من خلال «الصحيفة» يتلخص في ما يأتي:
1- احتواء الجماعات القديمة القائمة على أساس رابطة الدم (القبائل والبطون والعشائر) .
[ ص: 78 ] 2- احتواء الجماعات القائمة على أساس الدين (أهل الكتاب) .
3- هـدم النظام القديم القائم على العصبية القبلية والتفرقة العنصرية وإيجاد أمة مؤلفة من جميع عناصر يثرب على أساس مبادئ الحق والخير والمساواة وتحقيق المصالح المشتركة.
- سلطة القانون وسيادة الدولة
1- استطاعت الدولة الجديدة أن تجعل من المدينة، التي تضم عددا كبيرا من الأحياء العربية واليهودية المختلفة المتنافرة، التي حكمتها الفوضى وأنهكتها العصبية القبلية، مدينة موحدة، وحدت السكان جميعا على اختلاف دياناتهم وخصائصهم وأعرافهم حول إعلان دستوري مركزي هـو «الأول من نوعه في تاريخ الإنسانية»
>[19] يخضع له الجميع، تسهر على تنفيذه حكومة مركزية تملك السلطة العليا في المدينة، للحاكم فيها حقوقه ومسئولياته، وللمواطنين حقوقهم ومسئولياتهم، وللقانون كلمته وسيادته
>[20] ، وهذا ما جعل كل أحياء المدينة التي كانت تعيش في فرقة كالجسد الواحد، حيث ينص البند رقم (40) على «أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم».
[ ص: 79 ] 2- وبالنسبة للقيادة والرئاسة، فقد تم تحديد هـذا العنصر خطيا في «دستور المدينة»
>[21] بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هـو الحاكم الأعلى لهذه الدولة، له فيها سلطان الحكومة كاملا، فهو صاحب الولاية العامة، وصاحب القرار الأول والأخير في الإذن أو المنع بالدخول إلى المدينة والخروج منها، وله القضاء، وإليه التنفيذ في حل أي نزاع ينشأ بين مواطني «الدولة» استنادا إلى أحكام القرآن الكريم وسنة النبي عليه السلام .
وقد تأكدت سيادة الدولة من خلال هـيمنتها الكاملة على الأمن داخل المدينة، وذلك باستئصال شأفة الجرائم التي تعبث بسلامة المجتمع وأمنه، أيا كانت طبيعة هـذه الجرائم، وأهمها وأعظمها جريمة (القتل) والمساهمة فيها، وقد كانت هـذه الجريمة واسعة الانتشار بحيث قوضت دعائم الأمن في الجزيرة كلها، على أثر الحروب المستعرة والدائمة بين القبائل الجاهلية
>[22] ؛ وقد وقع التحكم في هـذا الأمر استنادا إلى بنود «الوثيقة»
>[23] ، التي تنطق برغبة المسلمين في التعاون الصادق مع اليهود من أجل الوصول بالمجتمع في المدينة إلى حالة من الطمأنينة والأمن، والضرب على أيدي العادين ومدبري الفتن أيا كان دينهم، أو جنسهم، دون تفرقة أو تمييز.
[ ص: 80 ]