الفصل الثاني: البعد الاجتماعي
المبحث الأول: مفهوم الأمة في الإسلام
وردت لفظة «الأمة» في القرآن الكريم أربعا وستين (64) مرة بصيغ مختلفة
>[1] ، كما استعملت في اللغة العربية بمعان متباينة
>[2] ، وجماع ذلك ثمانية وجوه، جردها رضوان السيد من كتب اللغويين، وهي كالآتي:
1- الرجل الأمـة، الأوحد في معناه الذي لا يداخله فيه أحد،
( قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده ) >[3] فمعناه: يبعث منفردا بدين.
2- وتكون الأمة الجماعة، كما قال الله عز وجل :
( ... وجد عليه أمة من الناس يسقون ... ) (القصص:23) معناه: وجد عليه جماعة.
3- وتكون الأمة أتباع الأنبياء، كما تقول: نحن من أمة محمد، أي من أتباعه على دينه.
[ ص: 81 ] 4- وتكون الأمة الدين، كما قال الله عز وجل :
( ... إنا وجدنا آباءنا على أمة ... ) (الزخرف:23) معناه: على دين.
5- وتكون الأمة الرجل الصالح الذي يؤتم به، كمـا قـال تعـالى:
( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ... ) (النحل:120) .
6- وتكون الأمة الزمان، كما قال تعالى:
( ... وادكر بعد أمة ... ) (يوسف:45) ،
وقوله تعالى:
( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ... ) (هود:8) .
7- وتكون الأمة القامة، يقال: فلان حسن الأمة.
8- وتكون الأمة الأم، يقال: هـذه أمة فلان، أي أم فلان.
>[4] يتضح من هـذا العرض المقتضب لمعاني لفظة (الأمة) في كلام العرب أن ستة منها وردت في القرآن والحديث النبوي الشريف وأن المعنيين السابع والثامن فقط وردا بغير شواهد من القرآن.
وهكـذا نجـد لفظة (الأمة) متجذرة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وكلام العرب ومعاجمهم اللغوية، في حين أن هـناك من المستشرقين من يزعم أنـها ليست مشتقة من الكلمة العربية (أم) بل هـي كلمة دخيلـة مأخوذة من العبرية (أما) أو من الآرامـية (أميثا) ، ولذلك
[ ص: 82 ] فلا صـلة بينها وبين كلمة (أمة) التي تدل على معـاني أخرى مثل: حين من الزمن (سـورة هـود، آية 8) أو الجـيل (سورة الزخـرف، آية 22 وما بعـدها) ؛ وقد تكون الكلمـة الأجنبية دخلت لغة العرب في زمن متقـدم بعض الشيء، ومهما يكن من أمر فإن
محمـدا صلى الله عليه وسلم أخذ هـذه الكلمـة واستعملها وصـارت منذ ذلك الحين لفظـا إسـلاميا أصـيلا. أما الآيات التي وردت فيها كلمة (أمة) وجمعها (أمم) في القرآن فهي مختلفة المعنى
>[5] .
لقد ذهب صاحب هـذا الرأي إلى ذلك؛ لأنه لم يعط الموضوع حقه من الدراسة المتأنية فيما يتعلق بلفظة (الأمة) في اللغة وتحديد معناها في القرآن الكريم، الأمر الذي جعله يصدر حكما جازما على أنها لفظة أجنبية دخيلة على اللغة العربية، وهو ما اعتبره أحد المحققين المسلمين من المزاعم الاستشراقية التي تفـتقر إلى الصحـة
>[6] ؛ لأن الله عز وجـل يقـول في كتابه العزيز:
( إن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) (الأنبياء:92) ،
فالمقصود هـنا بالأمة أولئك الذين يعبر عنهم القرآن غالبا
[ ص: 83 ] بالناس. فالرسـول صلى الله عليه وسلم أرسـل للناس كافة، فالعالم إذا كله هـو أمته، بالمعـنى الواسـع للكلمة. العالـم كله هـو مجـال الدعوة، والناس في العالم هـم بالتالي أمة
محمد صلى الله عليه وسلم
>[7] ،
قال تعالى :
( وما أرسلناك إلا كافة للناس ... ) (سبأ:28) ،
وقـال تعالى :
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) ..
وفي ضوء هـذه الشواهد، يتأكد لنا أن كلمة (الأمة) في القرآن الكريم واضحة في معناها كوضوح الشمس في رابعة النهار.
- التعريف الاصطلاحي للأمة الأمة مجموعة من الأفراد، يشعرون أنهم متحدون تربطهم صلات مادية ومعنوية وتجمع بينهم الرغبة المشتركة في العيش معا. فالرابطة بين الفرد والأمة رابطة نفسية تنشأ نتيجة العديد من العناصر المتداخلة المعقدة مثل الجنس، واللغـة، والدين، والتاريخ، والمصالح المشتركة التي تؤدي إلى زيادة الروابط بينهم
>[8] .
- الأمة من خلال بنود «الوثيقـة» هـي كيان اجتماعي سياسي، تقوم على أساس الفكر والعقيدة لا على أساس الدم أو على أسس بيولوجية، لا تحدها لغة أو جـنس أو وطن، ولا تصادر الأفكار والعقائد الأخرى،
[ ص: 84 ] بل لها من الرحابة ما تستوعب بـه العناصر الأخرى دون صهر أو تذويب، قابلة للتوسع والتقلص تبعا لعدد من ينضم إليها أو يتركها باختياره
>[9] .
«فوثيقة» المدينة تعتبر دعوة إلى التحرر من رواسب الماضي وفي طليعتها النـزعة العصبية والثارات الجاهلية، وامتصاص الصراع التقليدي بين الأوس والخزرج، حيث تنص على أن «المؤمنين والمسلمين سواء كانوا من (مكة) أو (يثرب)
>[10] يشكلون مجتمعا موحدا»؛ وفكرة الوحدة فيه ترتكز على وحدة الانتماء إلى العقيدة الجديدة، التي هـي رسالة الأمة، وشرط تكونها الجديد «الوحدة»:
( إن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) (الأنبياء:92)
>[11] . والفرق هـنا بين الإسلام والإيمان: أن الإسلام هـو انقياد ظاهري ونطق بالشهادتين، أركانه وأعماله ظاهرة، كالخضوع لأحكامه وفرائضه، بخلاف الإيمان، فإن التصديق بالقلب ركن من أركانه، وهو أمر غيبي لا يعلمه إلا الله. ويتضح لنا الفرق بين الإسلام
[ ص: 85 ] والإيمان في قوله تعالى :
( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ... ) (الحجرات:14) ،
ويتميز الصنفان في أهل يثرب فقط لظهور النفاق فيهم، أما المهاجرون فليس فيهم مسلم إلا وهو مؤمن مصدق بقلبه
>[12] ، وهذا التمايز هـو ما قصدته «الوثيقة» في البند رقم (1) الذي نص في إحدى فقراته على أن المؤمنين والمسـلمين - الذين كانوا النواة الأولى لتأسيس الأمة والدولة النظامية في يثرب، التي أنشأها النبي صلى الله عليه وسلم على أساس دستوري - من قريش وأهل يثرب «أمة قامت على أساس الفكرة والعقيدة».
لقد بينت «الوثيقة» -البند رقم (2) - الانتظام الاجتماعي الجديد للمؤمنين والمسلمين: «أنهم أمة واحـدة من دون الناس» لا تتلفع بالعصبية ولا تتسم بالعنصرية ، ولا تأخذ من الطبقية ، فالمؤمنون والمسلمون من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بـهم وجاهد معهم «أمة واحدة»، والجديد في هـذا المبدأ أنه الجذر الأساسي للاعتـراف بتكوين «الأمة» للمرة الأولى في تاريخ جزيرة العرب السياسي، وأنها وحدة واحدة لا تتجزأ... وهنا
[ ص: 86 ] نشـعر بالانتقال الكبير في حياة العرب من حياة الفرد والقبيلة إلى حياة الأمة الواحدة
>[13] .
لقد حـددت مواد هـذه «الوثيقـة» الأعضـاء الذين يتكون مـنهم ما اصطلح عليه فيها بـ «الأمة الواحدة من دون الناس» وهم: المؤمنون بالدين الجديد من المهاجرين والأنصار (من
قريش ويثرب ) ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم: (كالأعراب، والمنافقين، والمؤلفة قلوبهم الذين يحاربون للأجر لا للعقيدة، واليهود) .. والطريف أن هـذه «الوثيقة» التأسيسية استطاعت أن تستقطب وتقود كل هـذه الأمشـاج وهذا الشتات المجموع جمع توليف لا تعسف وفق تصور جديد قائم بالأساس على مفهوم «الأمة» ذي الطابع السياسي والمدني لا العقيدي الديني
>[14] ، ولهذا جاء النص في البند رقم (1) من «وثيقة» المدينة على أن نصوصها منطبقة على أطرافها الأصلية «ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم» دون تخصيص لطرف من الأطراف دون الآخر، وتكرر ذلك أيضا في البند رقم (16) مستهدفا اليهود بصفة خاصة، حيث ينص على «أنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة»، وعلى هـذا الأساس يعتبر دستور المدينة هـو أول وثيقة في التاريخ تقرر مبدأ
[ ص: 87 ] جواز الانضمام إلى المعاهدات بعد التوقيع عليها. وذلك المبدأ الذي أصبح من مسلمات قواعد المعاهدات الدولية في العصر الحديث
>[15] .
ومن هـنا يتبين لنا «أن المجتمع السياسي ، الذي أنشأته الوثيقة، هـو مجتمع تعاقدي متنوع في انتمائه الديني»
>[16] ؛ لأنها لم تكتف بالإعلان في البند رقم (2) عن أن كل الأطراف الموجودة في يثرب أمة واحدة، بل أعلنت صراحة في البنود من رقم (25إلى35) أن اليهود الذين حالفوا المسلمين (أمة مع المؤمنين) ، «وليسوا جماعة سياسية منفصلة، فهم يشكلون أمة بالمعنى السياسي وليس العقدي (لليهود دينهم وللمسـلمين دينهم) ، فيكـون المجتمع الجديد أمة واحدة بالمعنى السياسي وأمتين بالمعنى العقدي»
>[17] .
وعلى هـذا الأساس فتحت «الوثيقة» المجال لكـل من يريد الالتحاق بالأمة ولو من خارج حدود المدينة؛ لأن «كلمة الأمة هـنا، ليست اسما للجماعة العربية القديمة التي تربطها رابطة النسب بل هـي تدل على الجماعة بالمعنى المطلق»
>[18] ، «فدخلت بناء على هـذه القاعدة طوائف وأعراق متعددة دون أن يضع الرسول صلى الله عليه وسلم أية حواجز أو عقبات تمنعها أو تحول بينها وبين
[ ص: 88 ] المشاركة في حياة العالم الإسلامي؛ لأن الحدود القبلية أصبحت غير معترف بها رسميا في الدولة الجديدة»
>[19] .
ولأن الإسلام دعوة شاملة، والعالم كله -وليس يثرب فقط- هـو مجال تحققه، لذا أمكن إدخال اليهود، باعتبارهم جزءا من أمة الدعوة، ضمن الكيان السياسي والاجتماعي للأمة، فإذا هـم مع المؤمنين من قريش ويثرب (أمه من دون الناس) .
إن هـذا العيش في إطار سياسي واحد يمكن أن يكون مقدمة لانضمام اليهود إلى أمة الإجابة، وهو أمل راود النبي صلى الله عليه وسلم على ما يبدو بقوة في السنة الأولى لمقامه بيثرب
>[20] .. وفي اعتقـادي أن ما ذهب إليه
أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتابه «الأموال» عن اليهود حينما قال: «فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال: لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم»
>[21] ، يندرج تحت مفهوم الأمة بالمعنى السياسي لا المعنى العقدي.
وفي ختام هـذا المبحث أود أن أشير إلى مفهوم «الأمة» من وجهة نظر المستشرق «
مونتجومري واط» حيث يقول:
[ ص: 89 ] «إن فكرة «الأمة» كما جاء بها الإسلام هـي الفكرة البديعة التي لم يسبق إليها، ولم تزل إلى هـذا الزمن ينبوعا لكل فيض من فيوض الإيمان يدفع المسلمين إلى «الوحدة» في «أمة» واحدة تختفي فيها حواجز الأجناس واللغات، وعصبيات النسب والسلالة، وقد تفرد الإسلام بخلق هـذه الوحدة بين أتباعه فاشتملت أمته على أقوام من العرب
والفرس والهنود والمغول والصينيين
والبربر والسود والبيض على تباعد الأقطار، وتفاوت المصالح، ولم يخرج من حضرة هـذه «الأمة» أحد لينشق عليها، ويقطع الصلة بينه وبينها»
>[22] ؛ لأنها قائمة على أساس أيديولوجي عالمي جديد.
والسـؤال الذي يطرح هـنا: إذا كان انضمام الفرد إلى المجتمع الإسلامي لا يتم -في إطـار ما عالجتـه الوثيقـة- إلا عن طريق القبيلة أو العشـيرة، فهل يعـني هـذا أن مسـئولية الفـرد المدنية والأخـلاقية والدينية لا تكون إلا عـبر القبيلـة والعشـيرة؟ هـذا ما سنتناوله في المبحث التالي.
[ ص: 90 ]