المبحث الثاني: علاقة الفرد بالمجتمع
تمتد جذور فكرة الصـراع بين الفرد والجماعة إلى
أرسطو وأفلاطون ، إذ يظهر في فكر أرسطو عامل الصراع الطبقي في دولته الفاضلة والتي يتمثل أساسها الاجتماعي في طبقات ثلاث متصارعة: غنية، وفقيرة، ومتوسطة، بشرط أن تكون الطبقة الأخيرة قوية، وهي تتألف من أولئك الذين ليسوا بالأغنياء حد الغنى، ولا الفقراء حد الفقر، هـذه الطبقة هـي التي تكفل للدولة الارتكاز على أساس شعبي، بينما يرى أفلاطون في كتابه «الجمهورية» أن المدينة الواحدة مدينتان الأولى للأغنياء، والثانية للفقراء، وهما في صراع دائم، وكان يرى إلغاء الملكية الفردية لعلاج ذلك الصراع، أو على الأقل إزالة الفروق الشاسعة بين الغنى والفقر
>[1] .
أما قبل دستور دولة المدينة فقد كانت شخصية الفرد ذائبة في إرادة القبيلة العربيـة (أو إرادة رئيس القبيلـة بمعنى أدق) ، ولم يكن له «حرية» أو «حق» ولم يكن له اختيار؛ لأن مناط الحقوق والواجبات في مسائل الرعاية والقصاص والخصومات على الإجمال هـي من حقوق القبيلة وحدها، إضافة إلى ذلك أنها لم تكن تختلف في وضعها الاجتماعي كثيرا عما كان عليه الوضع أيام أرسطو وأفلاطون من حيث تقسيم أفراد المجتمع، فالقانون
[ ص: 91 ] العرفي السائد في القبيلة يصنفها إلى طبقات ثلاث مرتبة بحسب أهميتها وتفوقها عن بعضها من حيث المكانة والشرف، وهذه الطبقات هـي:
1- طبقة الأحرار.
2- طبقة الموالي: القائمة على اعتبارات ثلاثة:
أ- ولاء الجوار.
ب - ولاء الحلف.
ج - ولاء العتق.
3 - طبقة الأرقاء.
كان الفرد قبل الإسلام يكسب للقبيلة، وكان يقترف الإثم والجريمة وتؤدي عنه القبيلة، فهو يدور في حلقة من التبعية لها، شرفه لها ووزره عليها، وتبعاته مطلوبة منها، وعليها عقوبات الجرائم التي يقترفها.. ومع بزوغ فجر الإسلام وقيام دولته الإسلامية في المدينة على أساس دستوري مكتوب، تحرر الفرد من سلطان القبيلة وسلطان السادة والكبراء بذوبان القبيلة في الأمة، وهو الأمر الذي أدى إلى بروز ذاتية الفرد ومسئوليته، ووقفت الآثار في أحيان كثيرة عند أهل بيته (فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته) وبعد أن كانت القبيلة تلحق إثم الحليف بحليفه جاء هـذا التطور الذي قننه هـذا الدستور عندما نص على (أنه لا يأثم امرؤ بحليفه) وكذلك الحال
[ ص: 92 ] مع «الجار» (وأن الجار كالنفس، غير مضار ولا آثم) وهكذا برزت ذاتية الفرد المسئول المكلف
>[2] .
وهنا يتأكد لنا أن «دستور» الدولة الإسلامية قد اعتنى بالفرد اعتناءه بالجماعة على حد سواء، فبينما حدد مسئولية الفرد أمام المجتمع، نجده يدمج بينها وبين مسئولية المجتمع عن الفرد في مسئولية مشتركة كي تصبح كلا لا يتجزأ، لأن كل ما يخص الفرد يفضي في النهاية إلى المجتمع إيجابا أو سلبا، إذا المجتمع، في آخر المطاف، هـو هـذا الفرد الذي يشكل الأساس لقيامه على أسس سليمة ومتماسكة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»
>[3] فكل فرد في المجتمع مسئول عن أداء واجب معين، ومسئول مسئولية شخصية، ومن روائع الأمثلة التي ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم في تحديد الدور الذي يجب أن ينهض به الفرد
( قوله عليه السلام : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ) >[4] . فالفرد راع وفي الوقت عينه يرعى المجتمع هـذا الراعي، فالمجتمع ليس وحدة متناقضة
[ ص: 93 ] مستقلة عن الفرد، بل يشكل مجموعة كاملة متراصة؛ لأن الفرد عضو وقائد في الوقت عينه، ولذلك لا يمكن نشوء طبقات اجتماعية.
فالأمة يرتبط أعضاؤها برابطة العقيدة، ويشتركون بحقوق وواجبات تعبر عن وحدتهم وتقوي من تماسكهم، ولكنها ليست طاغية، فهي تهدف إلى تنسيق حرية الفرد مع مصلحة الجماعة، وأن وجود الأمة لا يعني القضاء على كيان الفرد ومكانته، فالمسئولية المدنية والأخلاقية والدينية فردية
>[5] .
إن المسئولية والحرية ترتبطان في منظور «الصحيفة» بالكرامة الإنسانية ارتباطا وثيقا، فالله سبحانه وتعالى - الذي كرم بني آدم - هـو الذي جعل الإنسان مسئولا عن عمله، فردا وجماعـة، لا يؤاخذ واحد بوزر واحد، ولا أمة بوزر أمه
( ... كل امرئ بما كسب رهين ) (الطور:21) وهذا ما عنته «الوثيقة» في الفقرة قبل الأخيرة من البند رقم (46) التي نصـت على أنه «لا يكسب كاسب إلا على نفسه»، كل فرد يحمل هـم نفسه وتبعتها، ويضع نفسه حيث شاء أن يضعها، يتقدم بها أو يتأخر، يكرمها أو يهينها، فهي رهينة بما تكتسب، مقيدة بما تفعل. فهي إذن كرامة إنسانية مسئولة تنبع من إحساس المرء بوجوده الحر، وبذاتيته المتفردة، تترتب عنها تبعات إن نهض بها صاحبها على النحو الذي يرضي الله أولا ثم يرضي ضميره
>[6] ،
[ ص: 94 ] فالعقوبة تلحق من ارتكب جرما دون غيره، وهو المبدأ المعروف في الفقه الجنائي المعاصر بمبدأ «شخصية العقوبة».
- فردية المسئولية (شخصية العقوبة)
يقصد بفردية المسئولية أو (خصيصة الشخصية) أن العقوبة الجنائية تقتصر في آثارها على شخص المذنب المحكوم عليه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تمس هـذه العقوبة شخصا آخر غير المحكوم عليه، مهما كانت صلة قرابته من المحكوم عليه
>[7] .
والمقصود بعدم مساس العقوبة بغير المحكوم عليه، ألا تنصرف آثارها القانونية إلى غيره، لكن هـذا لا يمنع أحيانا من التأثير الفعلي للعقوبة على أقارب المحكوم عليه. ولهذا قيل: إنه يندر أن تتحقق في العمل ضمانة شخصية العقوبة على نحو مطلق، حيث إن توقيع العقوبة على شخص يصيب في الغالب ذويه ودائنيه وسائر من يعتمدون عليه بالأضرار. ومع ذلك فمن المسلم به أن هـذه الآثار لا تخل بشخصية العقوبة، وإنما هـي آثار غير مباشرة لها بل وغير مقصودة
>[8] .
وهذا ما صرح به «دستور» الدولة الإسلامية قبل أربعة عشر قرنا ونيف من الزمان حينما نص في الفقرتين (3و4) من البند رقم (25)
[ ص: 95 ] والفقرتين (2 و3) من البند رقم (31) والفقرة (2) من البند رقم (36) والبند رقم (37ب) والفقرة (3) من البند رقم (46) والفقرة رقم (1) من البند رقم (47) التي نصت على شخصية العقوبة الجنائية، وأنها تقتصر على الجاني وحده ولا تتعدى غيره، لكن هـذا لا يمنع أن تشمل العقوبة الجنائية أهل بيت الجاني حسبما تقتضيه الحالة (فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته) . وهكذا أعلنت «الوثيقة» بكل جلاء ووضوح ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح. ولا يدع المجرم يمضي ناجيا إذا ألقى جرمه على سواه، «فليس في القانون الإسلامي أن يترك المجرم ويقبض على البرئ»
>[9] .
كانت الجريمة الشخصية في الجاهلية تشمل العشيرة، وربما القبيلة بأكملها، و «الوثيقة» ركزت إلى حد بعيد على توضيح المسئولية الشخصية، وحضت الجميع على الإقلاع عن ثارات الجاهلية وحميتها، كما حظرت التقاتل وسفك الدماء بدون وجه حق شرعي، فقد أكدت الفقرات الآنفة الذكر على تحمل كل شخص لما يصدر عنه من أفعال غير سوية، فالعقوبة أصبحت منحصرة بشخص الآثم لا تتعداه إلى غيره؛ (وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه) فلم يعد الحليف يتحمل وزر ما يرتكبه حليفه؛ (وأن النصر للمظلوم) ؛ والنصر هـنا يكون للمسلم ولغير المسلم إذا كان مظلوما
>[10] ؛ «وأنه
[ ص: 96 ] لا يحول هـذا الكتاب دون ظالم أو آثم»، يقول ظافر القاسمي: «معنى ذلك في لغة اليوم أن العقوبة منحصرة في شخص من ارتكب الجرم، لا تتعداه إلى غيره»
>[11] ، فكعب بن الأشرف النضري الذي أقذع في هـجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وشبب في أشعاره بنساء الصحابة وآذاهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء وتأليبه الأعداء، باتصاله بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام ذلك العهد بينهم وبينه مما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يأذن بقتله، ولم يؤاخذ أتباعه من أفراد قبيلته
>[12] تطبيقا للفقرة (3) من البند رقم (46) التي تنص عـلى أنه (لا يكسب كاسب إلا على نفسه) وغيرها من الفقرات التي سبق أن ذكرناها في طيات هـذا المبحث، فخطيئة الحليف لا يحملها الحليف الآخر، فكل فريق حالف يحمل مسئوليته الشخصية ولا يحمل مسئولية غدر الحلفاء الآخرين، وقد ترجم الرسول صلى الله عليه وسلم هـذا على أرض الواقـع في غزوة بني قريظة مع عمرو ابن سعد القرظي الذي رفض أن يدخل مع
بني قريظة في غدرهم برسول الله قائلا: «لا أغدر
بمحمد أبدا»، ونتيجة لوفائه ذلك خلى سبيله وقال عليه السلام : «ذاك رجل نجاه الله بوفائه» ثم قتل الناكثين بالعهود
>[13] ، بمفردهم، بعكس ما كان واقعا في الجاهلية، لأنه ليست هـناك خطيئة موروثة في الإسلام:
( ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ... ) (النساء:111) .
[ ص: 97 ] فالإنسان في دستور المدينة لا يسـأل إلا عن أفعاله وجرائمه فقط، ولا يجوز القبض عليه بسبب جرائم اقترفها الآخرون؛ (وأنه من فتك فبنفسه..) فلا يؤخذ الفرد بجريرة الجماعة، ولا تؤخذ الجماعة بجريرة الفرد،
قال تعالى:
( ولا تزر وازرة وزر أخرى ... ) (فاطر:18) ،
فالله لا يحاسب الناس جملة بالقائمة، وإنما يحاسبهم فردا فردا، كلا على عمله، وفي حدود واجبه، ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الإصلاح غاية جهده، فإذا أقام بقسطه هـذا فلا عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها فإنما هـو محاسب على إحسانه. كذلك لا ينفعه صـلاح الجماعة إذا كان هـو بذاته غير صالح، فالله لا يحاسـب عباده بالجملة،
( فعن أبي رمثة - واسمه رفاعة بن يثربي، وقيل غير ذلك – قال: «انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي: ابنك هـذا؟ قال: إي ورب الكعبة. قال: حقا؟ قال: أشهد به.. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا من ثبت شبهي في أبي ومن حلف أبي علي، ثم قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) ) (النجم:38) »
>[14] .
[ ص: 98 ]