المبحث الثالث: الأخلاق الاجتماعية
حين قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وجد فيها جماعات متفرقة، متناحرة، فكون منها مجتمعا جديدا موحدا يختلف في جميع مناحي حياته عن المجتمع الجاهلي، ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العالم الإنساني حينئذ، لأنه ارتكز في بنائه على الإسلام الذي حارب العصبية وهدم المبادئ الفاسدة، والنـزاعات الضارة، وقضى على المشاحنات، والعداوة التي ولدتها، وأقام بناء المجتمع على أسس واضحة ودعائم قوية، سقطت معها القيم الاجتماعية الجاهلية التي كانت سببا في التناحر والظلم، وجمع بين المسلمين برباط وثيق هـو الإيمان.
فالبند الأول من «وثيقة» المدينة ينص على أن الإسلام هـو وحده الذي يجعل منهم أمة واحدة، وعلى أن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب وتضمحل ضمن نطاق هـذه الوحدة الشاملة، التي ظهرت جلية وواضحة في قوله صلى الله عليه وسلم : «المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس»، وهو أول أساس لا بد منه لإقامة مجتمع إسلامي حضاري متماسك من أهم سماته ظهور معنى التكافل والتضامن فيما بين المسلمين وغيرهم بأجلى صوره وأشكاله، فهم جميعا مسئولون عن بعضهم في شئون دنياهم وآخرتهم
>[1] .
[ ص: 99 ] لذا نجد أن أول خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة كانت دعوة إلى التعاون والتكافل..
( روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم: فحمد الله وأثنى عليه بما هـو أهله، ثم قال: «أما بعد، أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) >[2] ، ثم تلت هـذه الخطبة العامة الموجهة لكل الناس بدون استثناء خطوة أخرى، ذكرت القبائل والعشائر بصورة خاصة، مؤكدة على التعاون والتكافل بين أفراد كل عشيرة من عشائر القبيلة وطوائفها على حدة.
أولا: التكافل بين العشائر والطوائف من خلال بنود الوثيقة
خصص النبي صلى الله عليه وسلم الجزء الأول مـن «وثيقة» المدينـة مـن البنـد رقم (3إلى 11) للكيانات العشائرية، واعتبرت
المهاجرين كتلة واحدة لقلة عددهم، حيث ينص البند رقم (3) على «أن المهاجرين من
قريش على
[ ص: 100 ] ربعتهم
>[3] ، يتعاقلون
>[4] بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين»، أما الأنصار فنسبتهم إلى عشائرهم فتقول -الوثيقة-: «وبنو... على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة
>[5] تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين» وذكر العشـائر لا يعني اعتـبارها الأساس الأول للارتباط بين الناس، ولا يعني الإبقـاء على العصبية القبلـية والعشائرية، فقد حرم الإسـلام ذلك.
( قـال صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من دعـا إلى عصبـية ) >[6] ، وإنما للاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، وجعل الإسلام العقيدة هـو الأصل الأول الذي يربط بين أتباعه، لكنه اعترف بارتباطات أخرى تندرج تحت رابطة العقـيدة وتخدم المجتمـع وتساهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه
>[7] .
[ ص: 101 ] وعلى هـذا الأساس نجد أن بنود «الوثيقة» من رقم (3إلى11) اقتصرت على العشائر الداخلة في الإسلام، وهو ما يؤكد لنا مدى سعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحقيق التكافل الاجتماعي بين المؤمنين على المستوى الأضيق، أي على مستوى القبائل والعشائر التي كانت تشكل عصب الحياة الاجتماعية آنذاك، يتضح لنا ذلك جليا من تأكيده عليه السلام في كل بند من البنود التسعة على بعض الأعراف القبلية المتأصلة في العادات الجاهلية والتي لا تتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي الجديد مثل دفع الديات، وفداء الأسرى، باعتبارها التزامات مالية يؤديها أفراد كل عشيرة، وطائفة من المؤمنين بالمعروف والقسط
>[8] ، لأن نظام خزانة الدولة لم يكن قد وجد بعد.
نلاحظ هـنا إذا أن «نشوء الدولة الإسلامية لم يؤد وفق هـذه النصوص إلى الإلغاء التام لوظائف القبيلة الاجتماعية، وذلك أنها لم تكن شرا كلها، فأبقت «الوثيقة» لها بعض وظائفها التي تحمل معاني التعاون في الخير والتواصي بالـبر، وقد كانت تلك طريق الإسلام في تشريعاته كلها، يبقي ما كان من أعراف العرب صالحا ويلغي أو يعدل ما كان فاسدا أو متعارضا مع مبادئه الأساسية»
>[9] .
وهنا نستطيع القول: إن «الصحيفة» لم تفقد العرف قيمته كلية، بل أقرته، وذلك في العبارات التالية:
[ ص: 102 ] الأولـى: «على ربعتهم» التي تكررت في «الوثيقة» تسع مرات، في البنود من رقم (3 إلى 11) ، وهي تفيد بقاء الوضع الذي كان سائدا قبل الإسلام في التركيب الداخلي للقبيلة من ناحية الزعامة والعادات والملكية، وشبكة العلاقات، كذلك من حيث الديات وتسوية المنازعات، حيث بقي العرف هـنا هـو المحدد وهذا ما أوضحته العبارة الثانية: «يتعاقلون معاقلهم الأولى» التي تكررت أيضا في بنود «الوثيقة» تسع مرات.
أي أنه يتعين على أفراد العشـيرة إذا قتـل فرد منها أحـدا خطأ، فإنها تدفع دية القتيل -بالتضامن بين أفرادها- تفرض على العاقلة من قرابة القاتل للأخذ بخاطر المصابين وتخفيفا لواقع المصيبة عليهم، وفي نفس الوقت تعد للجاني بغير قصد تخفيفا عنه ورفقا به، فناسب إيجابها على من عادتهم القيام بنصرته عند الشدائد وهم عاقلته ففرضت في أموالهم على وجه المساعدة والصلة الواجبة بحق القرابة، وإن كانت لا تخلو من حكمة التضييق على الجـاني ليأخذ حـذره ولا يتسـاهل في إهدار الدماء المعصومة
>[10] ، فبقيت بذلك فسحة كبيرة للاستقلال الداخلي لكل عشيرة؛ لأنه لم يكن بعد قد نزل تشريع ينص على تغيير التركيب الداخلي، ولا حكم خاص بالديات والمنازعات.
إلا أن التوجه الآني كان يهدف إلى إخضاع العرف إلى القيم الإسلامية ومبادئها التي ساوت بين المسلمين في الدماء، فالدية عليهم واحدة، بعكس
[ ص: 103 ] الحال في الجاهلية، حيث كانت دية الأفراد تختلف حسب مكانتهم الاجتماعية، فدية الشريف تختلـف عن دية الوضيع، ودية الحر تختلف عن دية العبد، وهذا ما ركزت عـليه «الوثيقة» في العبارة الثالـثة: «بالمعروف والقسط بين المؤمنين» وهي العبارة التي ختم بها كل بند من بنود «الوثيقة» من رقم (3 إلى11) فالقبيلة لم تحافظ على سـلطتها التي كانت لها قبل الإسـلام، ومن ناحية أخرى لم يحطمها الإسلام ولا أنكرها مطلق الإنكار
>[11] «بل أدمجها في جسم الأمة الواحدة بعد أن جردها من كل مضمون سياسي»
>[12] سلبي.
أما فيما يتعلق بالفداء فقد تكررت عبارة « وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين» في بنود «الوثيقة» عشر مرات من البند (3إلى12) مؤكدة أهمية التعاون والتكافل بين أبناء المجتمع المديني بصفة عامة وأبناء كل طائفة من طوائف المسلمين بصفة خاصة، في إطلاق سراح أحد أعضـائهم إذا وقع في الأسر، وقد ذكر الله تعالى الفداء في كتابه العزيز مؤيدا لهذا الخلق الاجتماعي العظيم،
فقال:
( ... حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ... ) (محمد:4) ،
( وقال صلى الله عليه وسلم : « فكوا العاني، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض ) >[13] ، والسؤال الذي
[ ص: 104 ] يطرح هـنا هـو: هـل حددت «الوثيقة» الفداء بالمـال فقط؟ أم أنها تركت الأمر على عمومه؟
حينما نعود إلى بنود «الوثيقة» العشرة التي ذكرت الفداء: «وكل طائفة تفدي عانيها...» نجد أنها لم تقيد ذلك الفداء بالمال فقط، وإنما تركت الأمر عاما لكي تتمكن كل طائفة من فداء أسراها بأي طريقة من الطرق الإسلامية المشروعة، كالفداء بالمال، أو بمقـابل أسرى للعدو بيد المسلمين، أو بمقابل خدمات، أو غير ذلك.
أ- الفداء بالمال
يتجلى هـذا النوع في حادثة الحارث بن أبي ضرار حينما حضر إلى المدينة ومعه الكثير من الإبل ليفتدي بها ابنته جويرية التي وقعت في الأسر في غزوة بني المصطـلق، فقبل الرسـول صلى الله عليه وسلم عرض الحارث الإبل عليه. ولكن لما أسلم القوم تفضل الرسول فمن عليهم جميعا
>[14] . وكذلك
( لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب - بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - في فداء أبي العاص - زوجها- بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص ... فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها، فقالوا: نعم ) >[15] .
[ ص: 105 ] ب - الفداء بمقابل أسرى للعدو بيد المسلمين
وهذا النوع من أهم أنواع الفداء، لأن دم المسلمين لا يعدله شيء من الأموال فالمصلحة هـي تبادل الأسرى، ولئن جاز استبدال أسرى المشركين بمال فمن باب أولى أن نستبدل بهم أسرى المسلمين، ففي سرية
عبد الله بن جحش ، رضي الله عنه ، وقع أسيران وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، فافتدتهما منه
قريش ، فقال: «لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا» يعني
سعد بن أبي وقاص ،
وعتبة بن غزوان «فأنا نخشاكم عليهما، فإن قتلتموهما نقتل صاحبيكم» فقـدم سعد وعتبة، ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم
>[16] بدل الأسيرين. يتضح من هـذه الحادثة أن مبادلة الأسرى أمر جائز، وأن المفاداة بالرجال خير من المفاداة بالمال، كما «فدى رسول الله رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل»
>[17] .
ج - الفداء بمقابل خدمات
كان هـذا بارزا في أسرى بدر، فقد فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرهم بالمال، واكتفى من الباقي بتقديم خدمات للمسلمين، كتعليم صبيان المدينة، فاستفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من جهودهم وأفداهم مقابل خدماتهم
>[18] .
[ ص: 106 ] يقول عبد العزيز سالم، السيد «لقد اعترفت «الصحيفة» بالمجموعات العشائرية التي كانت قائمة، وألقت على كاهلها عبء دفع ديات القتلى وفديات الأسرى على نفس النظام الذي كان متبعا في العصر الجاهلي؛ لأن الاندماج لم يتم إلا عن طريق القبيلة، فكأن القبائل دخلت الأمة بتنظيماتها القبلية القديمة»
>[19] ويرجع إبقاء الرسول ( التكتل العشائري إلى عمق تغلغله في النفوس ومكانته في حياتهم، ومن الطبيعي أن هـذا التنظيم العشائري كان لا بد من زواله بعد تشرب الناس لمبادئ الدين الجديد، الذي يقوم على أساس المسئولية الفردية ويجمع الناس برابطة العقيدة... فالتكتل العشائري إذا يقع ضمن رابطة الأمة وهو خاضع لها، وهو معرض للتفكك على مر الأيام من صميم العشيرة الواحدة، إذ أن من يعتنق الإسلام يرتبط برابطة عامة مع إخوانه في الدين ويبتعد عمن يبقى متمسكا بالشرك
>[20] .
ثانيا: وفاء الدين على الغارمين
أما الالتزام المالي الثالث الذي نظمته «الوثيقة» فيتعلق بالمفرح أي المثقل بالدين، الكثير العيال، والذي ليس له ولاء ولا عشيرة، وهذا يعني الجانب الاحتياطي، حيث يتعاون المؤمنون عند عجز العاقلة من القبيلة أو العشيرة عن الوفاء بالحاجة
>[21] ، وعلى هـذا الأساس اهتمت «الوثيقة» بواجبات
[ ص: 107 ] المؤمنين الاجتماعية نحو بعضهم بعضا اهتماما بالغا، داعية إياهم إلى التعاون والتآزر والتكافل الاجتماعي الشامل الكامل، حيث ينص البند رقم (12) على « أن المؤمنين لا يتركون مفرحـا بينهم أن يعطـوه بالمعروف في فداء أو عقل»؛ والمفرح هـنا المثقل بالدين، الكثير العيال، ورجل مفرح محتاج مغلوب. وقيل هـو الفقير الذي لا مال له. كما جاء في لسان العرب
>[22] ، وأنشد أبو عبيد العذري:
إذا أنت لم تبرح تودي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
>[23] وبما أن الدولة الإسلامية مازالت في مراحل تأسـيسها عند الهجرة، ولم يكن نظام خزانة الدولة قد وجد، ولم تفرض الزكاة بعد، ولا الغنائم والجزية لتتمكن الدولة من دفع دين الغارمين في تلك الفترة، فقد جعلت «الوثيقة» هـذا الالتزام المالي على المسلمين في المجتمع المديني من خلال البند رقم (12) الذي ينص على التراحم والتكافل والتضامن في دفع الديات وفكاك الأسرى، وعلى ألا يتركوا بينهم مثقلا بالدين إلا قضوا دينه بالمعروف، سـواء كان هـذا الدين ناتجا عن فقر وكثرة عيال أو عن فداء،
[ ص: 108 ] أو عقل، وقد عزز هـذا البند قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) >[24] ،
( وقال عليه السلام: « أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى ) >[25] .
يقول
جمال الدين عياد، عن المفرح: إذا كان من أهل الأسير أعانه المؤمنون حتى يشارك في الفداء، وإذا كان من عاقلة المرء الذي جنى خطأ عقلوا عنه، حتى لا يزداد دينه بعجزه عن أداء حصته من الدية أو الفداء، وحتى لا يعجز عن نفقات عياله إذا شارك فيها بما كان يدخره للإنفاق عليهم. والمسلمون إذ يعطون المفرح في فداء أو عقل، أو في غـير الفـداء والعقل، إنما يحققون مبدأ التعاون الاجتماعي الذي تعتز به الإنسانية، ويحاربون الرق والموت في آن واحد. فقد كان المدين في الجاهلية إذا عجز عن وفاء دينه في الموعد المحدد زاد دينه ونما وعظم خطبه وفدح، وأصبح كالعبد الخادم للدائن، لا يكلفه أمرا إلا فعله، ولا ينهاه عن شيء إلا انتهى عنه
>[26] .
[ ص: 109 ] وقد كان صاحب العيال يقتل أولاده عند خوف الفقر والفاقة، فيقبر فلذات أكباده في غير اكتراث أو مبالاة. وقد حارب الإسلام ذلك كله فبدأ بمقدماته فهدمها، وبأسبابه فقطعها، عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يعطوا المفرح ويعينوه، فكان المؤمنون يؤدون عن أخيهم دينه، أو يعطونه في ضائقة كفداء أو عقل .
وهكذا بلغت الإنسانية والتعاون والمحبة غايتها في المجتمع المديني الجديد، الذي استطاع خلال فترة قصيرة القضاء على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي صادفت
المهاجرين حين وصولهم إليها فقراء بلا مال، فقد صادرت قريش أموالهم عقب هـجرتهم، ووصف الله لنا هـذا المجتمع الذي نشأ على الأخوة والتكافل والتراحم بقوله عز وجل:
( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هـم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هـاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هـم المفلحون ) (الحشر:8-9) .
ونخلص إلى القـول: إذا كان يقصد بالضمان الاجتماعي التزام الدولة الإسلامية بتقديم المساعدة للمحتاجين في الحالات الموجبة، ويراد بالتكافل الاجتماعي التزام الأفراد بعضهم نحو بعض، فقد طبقت هـذه العلاقة (مابين
[ ص: 110 ] الضمان والتكافل الاجتماعيين) من خلال بنود «الوثيقة» من رقم (3إلى12) فعندما يكفل أبناء العشيرة الواحدة محتاجهم ويفدوا أسيرهم، فقد حققوا بذلك التكافل الاجتماعي، وعندما يجب على المسـلمين بمجموعهم أن لا يدعـوا بينهم من هـو مثقـل بالديون والعـيال، كائنا من كان، إلا ساعدوه، فهنا يتحقق الضمان الاجتماعي وخاصة عند التزام الأفراد بواجـب (التكافل الاجتمـاعي) الذي يخفف أعـباء الدولـة في واجبها (الضمان الاجتماعي)
>[27] .
ثالثا: مراعاة مبدأ الولاء
أقرت «وثيقة» المدينة الأحلاف التي كانت بين القبائل العربية قبل الإسلام وعملت على تنظيمها وتقنينها وفق النظام الإسلامي الجديد، حيث ينص البند رقم (12ب) على: «وأنه لا يحالف
>[28] مؤمن مولى
>[29] من دونه»، والمقصود بالمولى هـنا «عبد أعتقه سيده، فأصبح حرا وعليه ما عليهم، ولكنه
[ ص: 111 ] يبقى مرتبطا بسيده القديم برابطة مخصوصة تسمى ( الولاء ) ومن مقتضاها أن المولى إذا مات من غير وارث ورثة معتقه، وإذا قتل دفعت ديته إلى معتقه أيضا، وإذا ارتكب المعتق جريمة قتل أو قطع عضو ووجبت عليه الدية وعجز أقرباؤه عن دفعها، فالمولى مطالب بدفعها، وإذا كان المولى أمة فإنها تخطب من معتقها وهو الذي يقبض مهرها.
والمولى فوق هـذا ينسب إلى سيده السابق، فيقال فلان، مولى فلان، وصلة الولاء بوجه عام تسـتوجب التناصر والتعـاون»
>[30] لذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد هـذا المبدأ بقوله:
( ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ) >[31] ، وقد ورد ذكر كلمة (المولى) في القرآن الكريم كثيرا بمعنى النصير، وبمعنى الحليف،
قال تعالى :
( يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير ) (الحج:13) ،
وقوله تعالى:
( ... واعتصموا بالله هـو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ) (الحج:78) ،
ومع هـذا فقد أقرت «الوثيقة» في البند رقم (12ب) بقاء الولاء الذي كانت عليه القبائل والعشائر في المجتمع قبل الإسلام، ولكنه منع المؤمنين من التجاوز على حقوق الولاء التي للسيد على المعتقين من مواليه، حيث ينص على أنه لا يجوز لأحد محالفتهم دون إذن سيدهم، حتى لا تتضرر المصالح؛ لأن مؤسسة الولاء قديمة، وفيها
[ ص: 112 ] منافع للمولى وللعشيرة، فأما المولى فإنه يستطيع ممارسة نشاطه وأعماله بحرية في ظل الحماية التي يوفرها الولاء ، كما أن العشيرة تستفيد من الموالي الذين يزيدون في عددها، ويقدمون لها بعض المساعدات، ولكنها ليست ثابتة كرابطة الدم
>[32] .
وانطلاقا مما أشرنا إليه يتضح جليا أن «الوثيقة» حافظت على التوازنات العشائرية بين قبيلتي (
الأوس والخزرج ) حين منعت انتقال الولاء من عشيرة إلى عشيرة أخرى، لكي لا تضعف الأولى وتقوى الأخرى، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم الاستقرار، وإلى خلق مشاكل اجتماعية وسياسية، ولكن في مقابل إقرار الولاء والحفاظ على التوازنات العشائرية، عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على منع قيام تحالفات جديدة سواء كانت بين عشيرة وعشيرة من الأنصار أو بين العشائر والبطون ومواليها أو بينهم وبين اليهود، حيث
( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا حلف في الإسلام،وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ) >[33] .
فالعلاقات الداخلية بين فئات المجتمع المديني الجديد «يجب أن تكون علاقات تحاب وتعاون، لذلك رفض الإسلام الحلف لأنه ينافي التضامن العام داخل الأمة»
>[34] الذي أكدت عليه الفقرة الأخيرة من البند رقم (15) : «وأن
[ ص: 113 ] المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس»، والموالاة تقتضي المحبة والنصرة، فإذا كان البند رقم (12ب) قد منع انتقال الولاء الذي جاءت «الوثيقة» وهم عليه بين عشائر المؤمنين دون إذن أسـيادهم حفاظا على التوازنات العشائرية، فإن الفقرة الأخيرة من البند رقم (15) اعتبرت المؤمنين جميعهم أولياء بعضهم لبعض،
قال تعالى:
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ... ) (التوبة:71)
فلا يجوز لمؤمن أن يوالي كافرا،
قال تعالى:
( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ... ) (آل عمران:28) ؛
فالترتيب الداخلي بين المؤمنين في الفقرة رقم (12ب) يعتبر حالة طارئة تزول بوفاء آجال تلك الارتباطات؛ لأن الوضع الطبيعي للمجتمع الإسلامي ما قررته الفقرة الأخيرة من البند رقم (15) .
رابعا: المساواة
كان الوضع الاجتماعي بالنسبة للأفراد قبل كتابة «الوثيقة» شديد التفاوت، إذ ينقسم الناس إلا ثلاث طبقات متباينة:
أ- طبقة الأحرار
وهم الأبناء الصرحاء الذين يجمع بينهم النسب المشترك والدم الواحد ويتمتعون بحقوق مدنية ليست لغيرهم كالإجارة مثلا، ولكنه لا يقدر أن ينفصل عنها -القبيلة - لأنها شخصه وفيها حريته وكيانه، يعيش لها وبها، وهذا ما عبر عنه دريد بن الصمة بقوله:
[ ص: 114 ] وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
>[35] .
ب- طبقة الموالي
وهم الذين ينتمون إلى غير قبيلتهم من أحرار القبائل الأخرى عن طريق الحلف أو الجوار، أو التحرر من الرق
>[36] وهؤلاء أدنى مكانة في المجتمع من الطبقة الأولى ولا يحق لهم ما يحق للأحرار الصرحاء كالجوار مثلا، حتى ولو كانوا من أشراف القوم وساداتهم.
ج- طبقة الأرقاء
وهم الذين يؤسرون في الحروب، أو يكونون في القوافل التي يستولي عليها الغزاة أو قطاع الطرق، وهؤلاء فرض عليهم المجتمع الجاهلي وضعا اجتماعيا يسلبهم كل ما يمكن أن يكون لإنسان، ويثقلون كواهلهم بتبعات تحول بينهم وبين ريح الحياة الكريمة
>[37] .
ولما جاء الإسلام حارب الطبقية بكل أشكالها وألوانها، يتضح ذلك من خلال «وثيقة» المدينة، حيث ينص البند رقم (15) على «أن ذمة
>[38] الله واحدة، يجـير عليهم أدناهم...»، والأمان (الإجارة) عقد من العقود الشرعية التي أمر الله بالوفاء بها،
قال تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ... ) (المائدة:1) .
[ ص: 115 ] وينعقد الأمان بأي لفظ من الألفاظ كأمنتك، أو أجرتك، أو لك علي عهد...) ، أو ما شاكل ذلك، كما ينعقد بالإشارة من الرجل أو المرأة، والعبد أو الحر، والغني أو الفقير، بدون تمييز
>[39] ، حطم البند رقم (15) كل موازين الجاهلية وأعلن مبدأ المساواة. فإذا كان الأمان (الجوار) قد عرف قبل الإسلام، وكان من حق طبقة الأحرار الصرحاء في المجتمع (القبيلة) فإن هـذا البند قد جعل «من حق كل مسلم أن يجير وأن لا يخفر جواره»
>[40] ، فكرامة أدنى فرد من المسلمين وكلمته تسري على جميع المسلمين، وإجارته لشخص ينفذها رئيس الدولة وجهاز السلطة ما لم يكن في ذلك ضرر على المجتمع الإسلامي الجديد.
وهكذا تتجلى روح التماسك بين المسلمين في الإجارة، فهم كتلة واحدة تتميز عن غيرها من الكتل، وتقف أمامها جميعا، بعكس ما كان عليه المجتمع الجاهلي، فالحليف وإن كان من أشراف القوم وساداتها لا يحق له الجـوار ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم «لما انصرف عن أهل الطـائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته صار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق (حليف
بني زهرة ) ليجـيره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير؛ فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب؛ فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه»
>[41] .
[ ص: 116 ] نلاحظ في هـذا الشاهد مدى عمق التمايز والطبقية بين أفراد المجتمع قبل كتابة «الوثيقة» وكيف أصبح حال الأفراد في المجتمع القائم على التعاون والتناصر والمساواة (يجير عليهم أدناهم) وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم هـذا المبدأ في الواقع تطبيقا عمليا ولم يكن فرضا خياليا، وعلى هـذا شواهد كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآتي:
1- أمان المرأة
( أجارت أم هـانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها ، يوم فتح مكة ، رجلا مشركا، فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم جوارها وقال: « قد أجرنا من أجرت يا أم هـانئ ) >[42] .
( أجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها العاص بن ربيع الوثني حينما استجار بها فأجارته.. وأعلنت على الناس الخبر وهم يصلون، قائلة: أيها الناس «إني قد أجرت العاص بن الربيع..» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الصلاة: «أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعـتم إنه يجير على المسلمين أدناهم ) >[43] قال الله تعالى:
( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) (التوبة:6) .
[ ص: 117 ] 2- أمان العبد
" عن الفضيل بن زيد الرقاش قال: حاصرنا حصنا على عهد
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فرمى عبد منا بسهم فيه أمان، فخرجوا فقلنا ما أخرجكم، فقالوا أمنتمونا، فقلنا: ما ذاك إلا عبد، ولا نجيز أمره. فقالوا: لا نعرف العبد منكم من الحر.. فكتبنا إلى عمر رضي الله عنه نسأله عن ذلك، فكتب: إن العبد رجل من المسلمين ذمته ذمتكم "
>[44] . يقول
صبحي محمصاني : يصح أمان المـرأة والأعمى، كما يصح أمان العبد في القول السائد، ويستند جواز عهد الأمان إلى نص القرآن الكريم:
( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ... ) (التوبة:6)
كذلك يستند إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ) >[45] وهذا من نتائج المساواة في عصمة النفس بين الناس جميعا بوجه عام وبين المسلمين بوجه خاص»
>[46] .
وهكذا استطاعت «وثيقة» المدينة تحوير عرف الجوار الذي كان سائدا عند القبائل منذ القديم، وجعلته خاضعا للتماسك الإسلامي، الذي حارب العصبية القبلية وحطم كل الموازين التي نصبها البشر، وأقر ميزانا سماويا عادلا
[ ص: 118 ] هو قول الله تعالى:
( ... إن أكرمكم عند الله أتقاكم ... ) (الحجرات:13)
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( ... وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) >[47] .
أما منح الأمان في حالة الحرب فقد قيدته «الوثيقة» في البند رقم (17) الذي قرر «أن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم»، والمراد أن حالهم وصفتهم واحدة، لا تختلف بل هـي على استقامة وعدل بحيث لا يطلب أحد أن يتميز عن غيره
>[48] ، فإذا أعلن طرف ما الحرب على المسلمين فإن سائر المؤمنين يصبحون في حالة حرب مع الخصم ولا يمكن لفرد منهم مهادنته؛ لأنه مرتبط بالسياسة العامة للمؤمنين
>[49] ، وكذلك لا يمكن أن يشترك البعض في الحرب ويبقى البعض الآخر في حالة سلم مع العدو، لأن عقد السلم مسألة جماعية لا يجوز أن تنفرد بها قبيلة دون الأخرى
>[50] . «فالصحيفة» في هـذا البند ألزمت المسلمين بالتضامن والجماعية في حالتي السلم والحرب
>[51] .
وهذا ما أكد عليه البندان رقم (18 و19) اللذان ينصان على أن الغزو في سبيل الله من جميع المؤمنين يكون على شكل مجموعات منظمة متعاونة،
[ ص: 119 ] حيث ينص البند رقم (18) على «أن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا» والمراد هـنا أن عبء الحرب لا يقع على عشيرة دون الأخرى بل إن الجهاد فرض على جميع المؤمنين، وهم يتناوبون الخروج في السرايا والغزوات «فيكون الغزو بينهم نوبا، فإذا خرجت طائفة ثم عادت لم تكلف أن تعود ثانية حتى تعقبها أخرى غيرها»
>[52] حتى يشترك الجميع في الجهاد في سبيل الله، وقد زاد البند رقم (19) الأمر وضوحا وجلاء حينما نص على «أن المؤمنين يبيئ
>[53] بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله».
والبواء هـنا تعني الاعتراف والمساواة، أي «اعتراف المؤمنين بالمسئولية بالتسـاوي فيما نال دماءهم في سـبيل الله»
>[54] فهم يتعاونون ويتناصرون في التعويض عن الخسـائر في الأرواح والأموال ويحملون آلام بعضهم بعضا، مصداقا للآية:
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ... ) (التوبة:71) ،
فالمواساة في المال وكفالة اليتامى ورعاية الثكالى من أبرز سماتهم، وهذا ما أكد عليه البند رقم (20) حيث ينص على «وأن المؤمنين المتقين على أحسن هـدى وأقومه»، فهذا إعلان مدو أن الإسلام وحده هـو خير الهدى وأن المسلمين المنفذين له على أحسن هـدى وأقومه
>[55] .
[ ص: 120 ] خامسا: مراعاة حق الجار
اهتمت «الصحيفة» بتوثيق الروابط بين الناس وتقوية العلاقات بين الجيران إيمانا منها بضرورة التقريب بين الأسر الإنسانية بكل وسيلة من وسائل التقريب، فجعلت صلة الجوار جنبا إلى جنب مع صلة الإنسان لأقرب المقربين إليه وهي نفسه، على أن لا يسبب هـذا الجار ضررا ولا إثما، وقد بلغ الأمر في الإسلام أن جعل إكرام الجار آية من آيات الإيمان الصادق والتدين الأكيد،
( قال صلى الله عليه وسلم : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ) >[56] لكي تسود المجتمع المديني علاقات سليمة، ترتكز في الأساس على التعاون على البر، ورعاية الفضيلة ومنع الأذى، وإقامة الحق بين الناس جميعا، حيث ينص البند رقم (40) على «أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم».. ولنا أن نتساءل: من هـو الجار الذي عنته «الوثيقة» في هـذا البند؟
إن الإجابة عن ذلك تتضح من أن كلمة «الجار» هـنا وردت عامة تشمل -إلى جانب المؤمن- اليهودي والوثني، ولا شك أن جار المرء هـو أقرب الناس إليه بعد عائلته وأهله، وبذلك يتأكد لنا أن «الوثيقة» قصدت في البند رقم (40) كل المتسـاكنين في المجتمع المديني الجديد دون استثناء لأي طرف من الأطراف المتعـاقدة على الطرف الآخـر، كما يعتبر هـذا البند دعوة إلى التحرر من رواسب الماضي -الجاهلي- ومخلفاته ودعوة حضارية إلى التكافل الاجتماعي المقيد في حدود مقتضيات القانون،
[ ص: 121 ] قال تعالى:
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب ... ) (النساء:36) .
وقد ذهب حميد الله في كتابه «مجموعة الوثائق السياسية» إلى القول: إن الجار المقصود هـنا هـو الحليف، يقول: إن حقوق الجار وفرائضه تكون مثل حقوق المجير وفرائضه
>[57] . بينما ذهب ظافر القـاسمي إلى أنه لا يرى ما يمنع من أن ينصرف لفظ «الجار» إلى المعنيين «الجار الحقيقي، والحليف»
>[58] .. وفي اعتقادي أن رأي ظافر القاسمي هـو الأقرب إلى الصواب، لأن أهل المدينة (المؤمنين واليهود) حلفاء، والدليل على ذلك (أن الأنصار يوم أحد قالوا للرسول (: (يا رسول الله) ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال: «لا حاجة لنا فيهم»
>[59] .. هـذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، هـم في الوقت ذاته يسكنون إلى جوار بعضهم، وهنا تحقق المعنيان في سكان المجتمع المديني، فالجار الحقيقي هـو نفسه الحليف، الذي أقره الإسلام على حلفه بل زاده قوة ومتانة.
فما أعظم المشاعر الإنسانية الفياضة بالبر والرحمة والإحسان التي أبرزتها «الوثيقة» فيما يتعلق بحق الجار «وأن الجار كالنفس» بدون تمييز بين مسلم
[ ص: 122 ] وكافر، فقد جعل هـذا البند الأمر عاما
>[60] طبقا لما جاء في الحديث الشريف المرفوع حيث
( قال صلى الله عليه وسلم : «ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) >[61] وهذا كان له انعكاس إيجابي على واقع الحياة العملية في المجتمع الإسلامي من مراعاة للإنسانية والعلاقات الطيبة وسمو العشرة، بينهم وبين غيرهم من غير المسلمين.
إن غاية الرسول صلى الله عليه وسلم الآنية من هـذه «الوثيقة» إيجاد مجتمع موحد تربطه أواصر الأخوة الإنسانية، والمودة والرحمة، والعدالة الاجتماعية في الشئون العامة للدولة الإسـلامية الجديدة، وقد شدد على هـذه المعاني السامية،
( قال عمر ، رضي الله عنه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يشبع الرجل دون جاره ) >[62] ، بل وزاد الأمر وضوحا وجلاء حينما قسم الجيران وحقوقهم إلى ثلاثة أقسام وبين أن للجار الغير المسلم حقا ثابتا في الإسلام، هـو حق الجوار.
ولم يقتصر الاهتمام بالجار على عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقط بل أكد على هـذا الخلق الاجتماعي العظيم الخلفاء من بعده، فقد روى
الإمام أبو يوسف (ت 182هـ) أن " الخليفة
عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر يوما بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخا أعمى، فضرب عمر بعضده، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال الرجل: يهودي، فقال له: وما ألجأك إلى ما أرى؟ فقال: أسأل الجزية، والحاجة، والسن، فأخذ عمر بيده وذهب إلى منـزله وأعطاه شيئا مما عنده، ثم أرسل إلى خازن بيت المال وقـال لـه : انظر هـذا وضرباءه، فوالله ما أنصفنا الرجل، أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم "
[ ص: 123 ] ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... ) (التوبة:60) ،
وهذا من مساكين أهل الكتاب وأرفع الجزية عنه وعن أمثاله
>[63] . كما أكدت «الوثيقة» الكثير من المبادئ الأخلاقية المهمة في العلاقات الاجتماعية بين مختلف سكان المدينة، ففي الفقرة الأخيرة من البند رقم (37) ركزت «الوثيقة» على مبدأ النصيحة بين المتساكنين بناء على قاعدة «الدين النصيحة» حيث نصت الفقرة على «أن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم»؛ ونصح الشـيء إذا أخلص، والنصح نقيض الغش، والنصيحة هـي إرادة الخـير للمنصوح له
>[64] قال تعالى:
( ... وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ... ) (المائدة:2)
وتختتم «الوثيقة» بالفقرة الأخيرة من البند رقم (47) الذي تنص على «أن الله جار لمن بر
>[65] واتقى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم » أي أن الله يحمي من يبر ويتقي ويتخلق بالأخلاق الفاضلة
>[66] فعمل الصالحات كالبر والتقوى توصل العبد إلى رضوان الله، وتقوى الله توصله إلى الفوز بسعادة الدارين، فمن كان عمله لله فإن الله يكون جارا لـه
ومحمد صلى الله عليه وسلم أيضا يكون جارا له.
[ ص: 124 ] لكن الذي حدث بعد قليل من إصدار «الوثيقة» وطيلة سني العصر المدني غير مجرى العلاقات بين المسـلمين واليهود، وجمد البنود المتعلقة بهم، لا لشيء إلا لأنهم اختاروا «النقض» على الوفاء، والخيانة على الالتزام، والانغلاق على مصالحهم القومية، على الانفتاح على الأهداف العامة الكبيرة للأديان السماوية جمعاء
>[67] ، وخاصة بعد أن تبددت أطماعهم بعدم قدرتهم على أن يضموه إلى صفوفهم، وكذلك الخوف من امتداد دعوته إلى اليهود وأن تفشو في عامتهم، على حين تقتضيهم تعاليمهم أن لا يعترفوا بنبي من غير بني إسرائيل...فأجمعوا أمرهم على أن يكيدوا
لمحمد وينكروا نبوته
>[68] .
فقامت حرب جدل بينه صلى الله عليه وسلم وبين اليهود أشد لددا وأكبر مكرا من حرب الجدل التي كانت بينه وبين قريش بمكة، وفي هـذه الحرب اليثربية تعاونت الدسيسة والنفاق والعلم بأخبار السابقين من الأنبياء والمرسلين. أقامتها اليهود جميعا صفوفا متراصة يهاجمون بها
محمدا ورسالته وأصحابه من
المهاجرين والأنصار >[69] .. ليس هـذا فحسب، بل دفعهم العداء المتمكن في نفوسهم نحو النبي الكريم والدين الجديد إلى نبذ المسالمة، بل اضطرهم وهم أهل كتاب إلى تفضيل الوثنية المشركة في مكة على التوحيد الصادق في دعوة الإسلام، مناقضين تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام، والوقوف معهم موقف الخصومة، وقد ندد القرآن الكريم بتصريحهم
[ ص: 125 ] أمـام قريش بأن عـبادة الأصـنام أفضل من التوحيد الإسلامي،
قال تعالى:
( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هـؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) (النساء:51) .
وهكذا بدت البغضاء من أفواههم، فتساهل معهم الرسول حتى انتقل الحقد من القول إلى العمل، فنقضوا صريحا ما عاهدوا الله عليه، ولقوا من جراء ذلك ما يستحقون من جزاء
>[70] .
لقد أخفقت «صحيفة» المدينة في ترويض نوازع الشر ومشاعر العداوة من أنفس اليهود الجامحة أبدا، الظامئة إلى الدسائس دائما.. ولنا أن نؤكد أن هـذا الإخفاق، المشار إليه سابقا، ليس راجعا إلى نصها أو إلى تقصير من المسلمين في حمايتها، وإنما مرده بالدرجة الأولى كون اليهود كانوا على عداوة تتجاوز كل دعوة إلى التآخي، وكان بهم من الحقد ما لم تقدر «صحيفة يثرب» ولا غيرها من استئصاله، لذلك استحال التعايش بين العداوة الكامنة والموادعة المنشودة في نفوسهم، وأن الذي استحثهم على ترجيح الكفة الأولى هـو شعورهم الدائم بأن «المجد التليد والزعامة الدينية التي أوهموا الناس بها قد وقع تقزيمها إن لم نقل حجبها مطلقا»
>[71] .
[ ص: 126 ]