الفصل الثالث: البعد الأمني
المبحث الأول: ضمان الأمن لطوائف المجتمع
إن من أبرز القضايا التي كانت تؤرق المجتمع المديني أثناء الهجرة وقبل كتابة «الوثيقة» قضية انعدام الأمن وسيادة ظاهرة الثأر، حيث كان المجتمع منفرط العقد، وكان نظام القبيلة يقوم مقام الدولة، والعصبية هـي القانون الأساس الذي تتفرع عنه كافة الأحكام واللوائح المطاعة، شعارهم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، بالمفهوم الجاهلي، أو كما قال شاعرهم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
>[1] وبذلك بلغ أمر الأخذ بالثأر من القداسة في نفوسهم درجة القيم الدينية... فما على الثائر إلا أن يدرك ثأره أو يموت دونه
>[2] ، لأنه كان من أشد العار على الرجل أن يترك قاتل بعض أهله يتنعم بالحياة، وادعا، حتى أنهم كانوا يعتقدون أن القتيل إذا قتل -مهما كان سبب قتله - يخرج من رأسه طائر يدور حول قبره، يظل يصـيح قائلا: اسقوني... اسقوني... ولا يكف عن هـذا الصياح حتى يأخذ قومه بثأره، كما يرضى ويرضون
>[3] ولهذا يقول ذو الإصبع العدواني مهددا عدوا له:
[ ص: 127 ] يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حتى تقول الهامة اسقوني >[4]
فلما جاء الإسلام آخى بين الناس، وأزال ما بينهم من العداوات، وسل ما في قلوبهم من السخائم، وقضى على خرافة الهامة، وعدها من أباطيل الجاهلية،
( قال صلى الله عليه وسلم : « لا عدوى ولا طيرة ولا هـامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد ) >[5] .
وقال عن الذحل:
( إن أعـدى الناس على الله من قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية ) >[6] ، كما وضع «صحيفة المدينة لتغير القانون الذي كان سائدا قبل كتابتها، فعمل على محاربة البغي والظلم، وحرم الثأر، وبين أن القتل «بالقود»
>[7] إلا أن يرضى ولي المقتول بالعقل، وبذلك لم يصبح الثأر أمرا يتحول إلى ثأر يجر ثأرا كما كانت الحال في القبيلة العربية من قبل، حيث لم تكن هـناك سلطة لها قوة القهر.
أما في المدينة فقد نفذ مبدأ العقاب بالمثل تنفيذا صارما؛ لأن حكم الله ورسوله في المدينة فوق رابطة الدم
>[8] ، ولما كان من المحتمل أن يشذ أحد المسلمين عن قواعد العدل، ويلجأ إلى البغي، جعلت «الصحيفة» جماعة
[ ص: 128 ] " المسلمين كلها متضامنة على الباغي، ولها وحدها حق الرعاية والتنفيذ، حتى ولو تعارض ذلك مـع عـلاقة الأبوة والبنوة وحقوقـها
>[9] ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشكل قوة منظمة كالشرطة لتعقب الجناة ومطاردتهم، وإنما خص في البندين: (13 و21) المؤمنين بتحمل المسئولية في الأخذ على يد البغاة والمعتدين والمفسدين، كما جاء في البند رقم (13) ، و «أن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسـيعة ظلم
>[10] أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم»؛ وفي البند رقم (21) : «وأنه من اعتبط
>[11] مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول بالعقل وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه».
- منع البغي
فالبغي في البند (13) يقصد به الظلم والتعدي والتكبر: «بغى الرجل علينا بغيا: عدل عن الحق واستطال»، و «فلان يبغي على الناس إذا ظلمهم وطلب أذاهم». وأصل البغي: «مجاوزة الحد, وبغى عليه بغيا، علا عليه وظلمه» وبغى الوالي : ظلم، وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هـو حد
[ ص: 129 ] الشيء- بغي، وبغى بغيا : كذب،
قال تعالى:
( ... يا أبانا ما نبغي ... ) (يوسف:65) ،
كما جاء في لسان العرب
>[12] .
ويقول الشوكاني عن البغي: «الباغي أحد رجلين إما رجل بغى على جميع المسلمين أو بعضهم بنهب أموالهم وسفك دمائهم وهتك حرمتهم، فهذا قد جعل الله له حدودا مذكورة في كتابه العزيز. وإما رجل بغى على إمام من أئمة المسلمين بعد اجتماع كلمتهم على دخولهم تحت طاعته، سواء كانوا قليلا أو كثيرا فهذا تجب مقاتلته»
>[13] ؛ لأن الله تعالى حرم الإثم والبغي في كتابه العزيز،
قال تعالى:
( ... خصمان بغى بعضنا على بعض ... ) (ص:21)
ومعنى «بغى بعضنا» تعدى وظلم وجار،
وقال تعالى:
( إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ) (الأعراف:33) .
لقد أكد هـذا البند على مسئولية الأمة المدينية، كمجتمع سياسي قائم على السلم الأهلي، بما يعنيه من الوقوف في وجه الظلم والإثم والفتن السياسية التي تحصل بين أفراد هـذا المجتمع، فأيديهم جميعا عليه
>[14] ، «ولو كان ولد أحـدهم» وهذا يعد تطورا هـائلا في التاريخ البشرى حينما عدل
[ ص: 130 ] الرسول صلى الله عليه وسلم شعار العرب في جاهليتهم من «نصر الأخ ظالما أو مظلوما» إلى «نصره ظالما بردعه عن ظلمه فذلك نصره».
وكان لا بد من النص على هـذا الموضوع والتأكيد عليه؛ لأن البناء القبلي هـو الذي يجعل للظالم سندا وسطوة من قبيلته، وطالما أن «الوثيقة» أقرت البناء القبلي في المجتمع، فـلا بد من سـلبه كل شروره وآثامه وأن لا وجود للقبيلة أمام الشرع في تأييد الظالم ونصره
>[15] «ولو كان ولد أحدهم»؛ لأن أول غاية للأمة في المدينة هـي منع نشوب حرب في الداخل، فإذا تعكر السلام في الداخل بسبب القتل أو الفساد الناجم عن الظلم والبغي وجب ليس على المجني عليه أو على قبيلته أو كل أفراد المجتمع أن يقفوا في وجه الظالم فحسب، وإنما يتوجب على أقرباء الجاني نفسه أن يهبوا متكاتفين عليه وأن يسلموه لصاحب الثأر، لكن يقتاد منه بالعدل
>[16] ، فوحدة الأمة وتماسكها يتجلى في مواقفها من الجرائم المخلة بالأمن.
لذا نجـد أن «الوثيقة» أكـدت على إبراز دور المؤمـنين في البند رقم (21) حيث ينص على أنه من «اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة... وأن المؤمنين عليه كافة....» أي أن من قتل بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله فإن القاتل يقاد به ويقتل إلا إذا اختار أهل القتيل أخذ الدية بدل القصاص أو وقع منهم العفو
>[17] .
[ ص: 131 ] قال
ابن تيمية في كتابه «السياسة الشرعية»: «قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغـيظ، حتى يؤثروا أن يقـتلوا القاتل وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل، بل يقتلوا كثيرا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة، فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، وتعدى هـؤلاء في الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية و.... وغيرهم، وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول فيفضي ذلك إلى أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف هـؤلاء قوما واستعانوا بهم، وهؤلاء قوما، فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة، وسبب ذلك خروجهم عن سنن العدل الذي هـو القصاص في القتلى وهو المساواة والمعادلة في القتلى؛ لأنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين»
>[18] .
- حق الحياة
لقد استطاعت «الوثيقة» القضاء على الفتن والعداوات وصيانة المجتمع المديني حينما قررت في البند رقم (21) أن القصاص نازل بالجميع، وأن القود من القاتل أمر لا مفر منه، وأن الحيلولة دون الجريمة أيا كان نوعها واجب، ولا يحل للمؤمنين إلا القيام على الجاني ولو كان ولد أحدهم «وهذا ضرب من إيجاب التكافل تشريعا لاستئصال شأفة الجريمة في المجتمع عملا على استقرار الأمن في الداخل»
>[19] ، وتثبيت لسيادة القانون الإسلامي الجديد
[ ص: 132 ] الذي حرم قـتل النفس إلا بالحـق، فأصبح القتل من الكبائر،
قال تعالى:
( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) (النساء:93) .
وبالتالي ألغى هـذا البند ذاك العرف الجاهلي الداعي للثأر، وحفظ الحياة
( ولكم في القصاص حياة ... ) (البقرة:179) ،
وحرم الاقتتال بين ذوي القاتل والمقتول؛ لأن تنفيذ القانون أصبح ساري المفعول يسهم الجميع في تحقيقه لمصلحتهم وتنفيذا لقانون القود (القصاص) العادل لا الثأر الجامح والقتل الباغي، فجعل العقاب على قدر الجريمة، وجعل كل مرئ مأخوذا بذنبه وحده، ولا يجوز لأحد حمايته أو مؤازرته بالدفاع عنه أو السعي في تخليصه، مهما بلغت درجة قرابته له، وهذا ما تناوله البند رقم (22) حيث ينص صراحة على:
- منع إيواء المجرمين
«وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هـذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو يأويه، وأن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل»
>[20] ، والمحدث كل من أتى حدا من حدود الله عز وجل فليس لأحد منعه من إقامة الحد عليه
>[21] .
[ ص: 133 ] هذا القانون الذي لم يعرف النور إلا في القرون المتأخرة في التشريعات الوضعية، عرفته الدولة الإسلامية الأولى قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، فمنعت إيواء المجرمـين والدفاع عنهم وحمايتهم باسـم قرابة أو سلـطان أو صداقة، وذهبت إلى أبعد من ذلك، فاعتبرت إيواء المجرمين جريمة كبيرة تخرج صاحـبها من دائرة الإيمـان بالله واليوم الآخر، لا يقبل من صاحبها لا فريضة ولا نافلة
>[22] ، بل ويعتبر من الذين يضادون الله في أمره،
( قال صلى الله عليه وسلم : «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله ) >[23] ،
( وقال: «...فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ) >[24] ، «لأن هـذه الجريمة تؤدي إلى اضطراب المجتمع، واختلاله والطمع في النجاة من العقوبة، وإذا كان المجتمع محتاجا إلى الطمأنينة في حالات السلم فإنه إليها في حالات الحرب أحوج»
>[25] .
- منع الغدر
يقرر البند رقم (36 ب) «أنه لا ينحجز
>[26] على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هـذا».
[ ص: 134 ] والفتك «ركوب ما هـم به من أمور ودعت إليه النفس»، ورجل فاتك: جريء، وفتك بالرجل فتكا انتهز منه غرة فقتله أو جرحه، وقيل: هـو القتل أو الجرح مجاهرة، والفتك أيضا: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل حتى يشد عليه فيقتله، وإن لم يكن أعطاه أمانا قبل ذلك، وهو: الاغتيال: وهو أن يخـدع الرجل حتى يخرج به إلى موضع يخفي فيه أمره ثم يقتله
>[27] ،
( قال صلى الله عليه وسلم : «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به ) >[28] . وقد كانت العرب ترفع للوفاء راية بيضاء وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف
>[29] .
إن هـذا البند يعد استمرارا للبندين رقم (13 و21) فيما يتعلق بالبغي والفساد والغدر والقتل والثأر الجامح لأتفه الأسباب، فهو يقرر أن حق الثأر مرتبط فقط بالقتل، أما ما عدى ذلك من جروح فعلاجه هـين لا يرقى إلى سفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل؛ لأن دماء البشر أغلى من أن تهدر ظلما نتيجة إرادة ظالمة وقوى متغطرسة، فالقضاء وحده هـو الذي يقرر
[ ص: 135 ] العقوبة المناسبة ضد الجاني، بحيث إنها لا تسري إلى الأقارب والعشيرة،
كما قال تعـالى:
( ... ولا تزر وازرة وزر أخرى ... ) (الأنعام:164)
والذي لا يلتزم بهذا القيد يكون قد أهلك نفسه وأهل بيته وأصبح مهدور الدم إلا إذا كان مظلوما.. فالمدعى الحقيقي في القانون الإسلامي في قضايا القتل سواء كان اعتباطا عن بينة أو اغتيالا عن طريق الغدر أو حتى الجروح، ليس الحكومة بل أولياء المقتول، فهم الذين يقبلون العفو أو الدية بدلا عن القصاص، فالقرار الأول والأخير بيد ولي المقتول،
قال تعالى:
( ... ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) (الإسراء:33) .
( وقـال صلى الله عليه وسلم : «ومن قتل له قتيل فهـو بخـير النظرين: إما يودى وإما يقاد ) >[30] .
وإذا كانت الطريقة التي يتم بها تمكين ولي المقتول أو مساعدته غامضة وغير معروفة، فإن «الوثيقة» التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم وطبقها وفق الحكم الجديد للمجتمع المديني تقرر أن سند ذلك إلى الحكومة ونظام قضائها، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، فليس لأحد أن يثأر بالقتل من تلقاء نفسه، وإنما القضاء هـو الذي يصدر الحكم وتنفذه الدولة تحقيقا للعدالة،
قال تعالى:
( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ... ) (المائدة:45) .
[ ص: 136 ] وهذا بخلاف ما كان عليه حكام اليهود، فقد كان
بنو النضير يفضلون على
بني قريظة في الدماء، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملهم على الحق فجعل الدية سواء
>[31] . والملاحظ أن هـذا الإجراء من الرسول صلى الله عليه وسلم المتمثل في جعل المحافظة على الأمن -مبدئيا- مسئولية جماعية، تبدي نحوه المحافل الدولية في هـذا العصر اهتماما كبيرا، وقد ظهر هـذا الاهتمام جليا في مؤتمر الأمم المتحدة الثالث لمنع الجريمة ومعاملة المذنبين الذي انعقد في استكهولم سنة 1965م، حيث تناول البحث دور الجمهور، والأسرة، والمدرسة، في الوقاية من الإجرام.
أما المؤتمر الرابع للأمم المتحدة الذي انعقد في «كيوتو» سنة 1970م فقد خصص القسم الثاني منه لبحث هـذا الموضوع المهم تحت عنوان «مساهمة الجمهور في منع الجريمة والسيطرة عليها»، حيث أكد المؤتمر «أهمية المساهمة الجماهيرية في مكافحة الجريمة، وعلى الحكومات أن تؤيد المساهمة الشعبية في ذلك وتدعمها، كما اهتم المؤتمر بتوعية الجماهير بأخطار الجريمة ومسئوليتهم عن منعها»
>[32] .
والموضوع نفسه بحث في المؤتمر العربي الذي انعقد بالكويت سنة 1970م، الذي تلاقت وجهات النظر فيه حول بعض الاتجاهات الرئيسة، ومن ذلك مثلا ما رآه المؤتمر من أن في أحكام الشريعة الإسلامية وفي التقاليد
[ ص: 137 ] العربية الأصيلة خيرا معينا على قيام الجمهور بدور فعال في مساندة القانون لمنع الجريمة وضبطها. كذلك رأى المؤتمر وجوب توعية الجمهور بمساندة القانون وأجهزته والاهتمام برفع مستوى رجال الشرطة حتى يقبل الجمهور على التعاون معهم
>[33] .
وهذه الدعوة الدولية إلى الاهتمام بمساهمة الجماهير في كفاح الجريمة تعد إحياء وتنمية وبعثا لتلك السنة التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تبين للعالم «أن أي جهود رسمية لمكافحة الجريمة يمكن أن تفشل ما لم تلق مساندة الجمهور»
>[34] ، وهذا واضح في خطاب «وثيقة» المدينة في بنودها الآنفة الذكر، حيث اعتبرت الجمهور الأساس في حفظ الأمن في المجتمع المديني الجديد.
إن تفويض حق التأديب إلى الجماعة بدلا من الفرد يعتبر انتقالا حاسما له دلالته في المجتمع العربي الجديد، وهو مرحلة متوسطة في قانون العقوبات بين العقوبة على المستوى الفردي في المجتمع القبلي والعقوبة على مستوى تشريعات والقوانين في مجتمع الدولة، وكان لذلك التنظيم أعظم الأثر في تفادي الحروب الداخلية والاضطرابات
>[35] .
يبرز في البند رقم (14) استعلاء المؤمنين على الكافرين، فينص صراحة أنه لم يعد من الجائز أن يثأر مؤمن من مؤمن آخـر إذا قتل قريبا له كافرا: «ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن»، وكذلك لم يعد
[ ص: 138 ] من الجائز أيضا مناصرة المؤمن للكافر حتى ولو بالمودة؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه العزيز:
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ... ) (المجادلة:22) .
وعلى هـذا النحو خرج الاعتداء على المشرك من دائرة المطالبة بالثأر، وأصبحت المسألة في هـذه الحالة من ضحايا الحرب لا يجوز الثأر لدمه
>[36] ، وكم كان هـذا البند ضروريا والمسلمون يخوضون معارك دامية ضد الوثـنيين، ولو لم يكن هـذا القيد لقتلوا بعضهم حمية وثأرا لآبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشائرهم، وهذا ما جعل
عبد الله بن عبد الله بن أبي يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا رسول الله، بلغني أنك قاتل أبي... فمرني به فأحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت
الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري بقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل (رجلا) مؤمنا بكافر، فأدخل النار»
>[37] .
«وهذا دليل آخر على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن، وتأكيد على الترابط الوثيق بين المؤمنين وموالاتهم لبعضهم وقطع صلات الود والولاء
[ ص: 139 ] القديمة مع الكافر»
>[38] ، لأن الترابط الذي تقتضيه القرابة بالدم، وكذلك الروح القبلية يقف عند حد الإيمان ولا يتعداه.
يذكر حسن إبراهيم حسن، نقلا عن نولدكه (NoeldKe) قوله: «إن الأثر الوحيد الجدير بالذكر الذي تركه الإسلام في العرب في القضاء على الأخذ بالثأر، حتى أن كل قبيلة كانت تخضع للإسلام أو تدين له وتعتنقه، تنـزل عن حقها في الأخذ بثأر من سفكت دماؤهم في الوقائع والحروب، مع أنا كنا نجد العربي في غير تلك الظروف يرى ترك الأخذ بالثأر أو دية الدم من أحط مظاهر الذلة والعار. ولكن اتخاذ العرب الرسول زعيما لهم، وذلك الأمر الذي كان شاقا على نفوسهم وصعبا عليها، أن يدينوا لواحد منهم، قد هـيأ الشعب العربي لقبول تلك الحالة الجديدة، فألان قناتهم، وأسلس قيادهم، فأتمروا بأمره، حتى إنه لم يعد هـناك عربي إلا دافع دفاع المخلصين في الذود عن ذلك الدين الجديد، ومن ثم يتضح لك كيف استطاع عرب ذلك العصر نشر دينهم في جميع الربوع والأرجاء»
>[39] .
وأخيرا، إذا كانت «الوثيقة» قد خصت المؤمنين بالحفاظ على الأمن التام بين جميع سكان المجتمع المديني بمختلف أجناسهم ومعتقداتهم، فكيف عالجت قضية الدفاع عن المدينة وحمايتها من أي عدوان خارجي؟
[ ص: 140 ]