المبحث الثاني: مسئولية الدفاع المشترك
كانت يثرب منطقة خصبة تشتهر بالزراعة، تربطها مع جيرانها من القبائل البدوية الضاربة حولها علاقات مزعزعة تتسم عادة بالحيطة والحذر والتربص، فقد كانت تتعرض من حين لآخر إلى غارات تشنها عليها بعض تلك القبائل لسلب ما تقع عليه اليد من حاصلات ومواشي، ولذلك كثيرا ما كانت تلحق بالمدينة أضرار فادحة من جراء سطو هـؤلاء البدو وغاراتهم منتهزين فرصة الصراع الداخلي والتفكك الاجتماعي بين السكان ومحاولة كل فريق منهم قهر الآخر والسيطرة على ما في يده.
ورغم هـذا النـزاع الداخلي فقد كانوا يصدون تلك الغارات بقوة السلاح، وبالاعتماد على الحصون والآطام، يحتمون بها ويتخذونها مخازن لحفظ محاصيلهم ويحترزون فيها من عدوهم
>[1] . هـذا ما أكده
عبد الله بن أبي حينما أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد بعدم الخروج من المدينة لملاقاة
قريش فقال: يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هـذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة ونشبك
المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك، يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو قط إلا نال منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه... يا رسول الله أطعني في هـذا الأمر واعلم أني ورثت هـذا الرأي عن أكابر قومي وأهل الرأي منهم، فهم أهل الحرب والتجربة
>[2] .
[ ص: 141 ] لقد هـاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهي تموج بالفتن والحروب والأحقاد الداخلية والخارجية، فاستطاع من خلال «وثيقة» المدينة القضاء ولو بصورة مؤقتة، على تلك الخلافات، وحول المدينة إلى وطن آمن للمسلمين واليهود والمشركين، وللنازحين إليها من أي قبيلة كانوا ولأي عنصر انتسبوا، عربا أو عجما، فظهر لأول مرة معنى الوطن، يتساوى فيه جميع الناس من غير نظر إلى الأحساب والأنساب والعصبيات والعقائد.
وحدت «وثيقة» المدينة بين أهل الأديان والأجناس، وجعلتهم جميعا مواطنين مكلفين بالدفاع عن الوطن أمام أي اعتداء يفاجئ المدينة من الخارج، فالبنود رقم (24 و37 و38 و44 و45 و45 ب) تنص صراحة على تحمل أهل «الصحيفة» مسئولية الدفاع عن المدينة «وتؤكد على توحيد الموقف السياسي الدفاعي الداخلي ضد العدوان الخارجي»
>[3] .
فإذا ضم الجيش معسكرين، واحد للمسلمين وآخر لليهود، كان على كل معسكر أن يتكفل بنفقاته، فيبتاع الأسلحة ويطعم الجند من ماله الخاص. أما أن ينفق المسلمون على اليهود إذا هـم وقفوا معهم لقتال عدوهم، فذلك ما نفته «وثيقة» المدينة في البندين رقم (24 و38) اللذين ينصان على «أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين» ينفقون من
[ ص: 142 ] أموالهم على مقاتليهم كنفقة المؤمنين على مقاتليهم، سواء بسواء، مهما بلغ حبهم للمال وحرصهم الشديد على عدم إنفاقه، فقد أكدت «الوثيقة» وبإلحاح على اليهود المشاركة الإيجابية في تحملهم أعباء نفقات دفاعهم عن الأرض التي يعيشون فيها، والوقوف مع المؤمنين جنبا إلى جنب ضد أي عدوان خارجي يهدد أمن المجتمع المديني وسلامته.
وعلى الرغم من سيطرة اليهود الغالبة على الناحية الاقتصادية في المدينة، في بداية الأمر، حيث كانوا يسيطرون على السوق التجارية ويتصرفون بخيرات
المدينة وأموالها، ويتحكمون بالسلع فيحتكرونها ليرفعوا الأسعار، ويستغلون حاجة الناس فيرابون أضعافا مضاعفة، رغم هـذا كله نجد أن «الوثيقة» تؤكد المساواة بينهم وبين المؤمنين في عملية الإنفاق ماداموا محاربين، وتنص على الاستقلال المالي لكلا الطرفين، حيث يقرر البند رقم (38) «أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم..».
وقد ذهب
أبو عبيد إلى أن التزامات اليهود المالية لا تقتصر على الحرب الدفاعية، فهو يرى أن اليهود كانوا يغزون مع المسلمين أيضا، وفي ذلك يقول: «فهذه النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له على عدوه، وإنما كان يسهم لليهود إذا غزو مع المسلمين بهذا الشرط الذي شرطه عليهم من النفقة، ولولا هـذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم... وإنما كان هـذا الكتاب قبل أن يظهر الإسلام ويقوى، وقبل أن يؤمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب»
>[4] واستدل على رأيه بحديث مرسل يرويه
الزهري قال فيه :
[ ص: 143 ] ( كان اليهود يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسهم لهم ) >[5] ، ولـم يوافق النقاد
أبا عبيد على الاحتجاج بهذا الحديث المرسل
>[6] .
وقـد
( روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة أحـد حتى انتهى إلى رأس الثنية، التفت فنظر إلى كتيبة خشـناء لها زجـل >[7] خلفه، فقال: «ما هـذه؟» قالوا يا رسول الله هـؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود، فقال صلى الله عليه وسلم : «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك ) >[8] .. وروى ابن إسحاق
( عن الزهرى ، أن الأنصار يوم أحد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال: لا حاجة لنا فيهم ) >[9] .
يتبين من خلال هـذه النصوص أن التناصر بين من شملهم العقد يقتصر على المدينة فقط ولا يمتد إلى خارجها، فالبند رقم (44) يحدد بجلاء ووضوح موطن الدفاع المشترك بين المتعاقدين، حيث ينص على «أن بينهم النصر على من دهم
يثرب ». هـذا التناصر لا يقتصر على الاشتراك بالأموال فقط كما ورد في البنود رقم (24 و38 و37) وإنما يؤكد ضرورة بذلها لتوفير العتاد الحربي لكل القادرين على مواجهة أي عدوان خارجي قد يدهم المدينة من قبلهم، طبقا لما ورد في البند رقم (45ب) حيث ينص أنه «على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم» من بذل الأموال والأنفس.
[ ص: 144 ] فإذا كانت الفقرة الأولى من البند رقم (37) تنص على الاستقلال المالي لكل طرف من أطراف «الوثيقة» في النفقات على الحرب الدفاعية عن المدينة، فإن البند رقم (44) يؤكد أن حدود المسئولية الدفاعية لا تتجاوز حدود المدينة فحسب بل خصص البند رقم (45ب) مكانا محددا لكل طرف من الأطراف المتعاقدة يتولى مسئولية حماية الدولة الجديدة من جانبه الذي من قبله، بدون تجاوز من أحد على الآخر. وهو ما يجعلنا نجزم أن اليهود لم يشتركوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في أي غزوة من الغزوات خارج
المدينة ، وأن ما ذهب إليه
أبو عبيد من اشتراكهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم خارج المدينة يفتقر إلى الدليل؛ لأنه ليس هـناك أي إشارة أو دليل على قتالهم مع المسلمين خارج حدود المدينة.
لقد أدرك اليهود قيمة الفرق بين الحرب في سبيل الله والحرب في سبيل الوطن، فهم لم يلزموا بالحرب مع المؤمنين دفاعا عن دينهم، ولكنهم ملزمون بالحرب إذا هـاجم المدينة مهاجم يريد هـلاكها، فإن المنفعة مشتركة حينئذ ولا يمكن أن يتخلوا عنها، وهكذا يكون موقف المشركين.
فحدود التحالف السياسي بين المسلم والآخر «اليهودي والوثني» يقتصر على من دهم يثرب، فلا دخل لهم في حرب العقيدة ولكنهم مطالبون بالحرب دفاعا عن الأمة
>[10] فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى بأس
قريش ، ويتوقع أن تهاجم المدينة يوما مـا، فـلم يكن يعتقد أن الأمر قد انتهى بينه وبينها بهجرته، ولم يكن يرى في المسلمين، أول عهدهم بالمدينة، من القوة ما يمكنهم من القيام وحدهم في وجه قريش أو غير قريش ممن يكيد له ويعاديه، لذا نجده قد ترك كلمة «النصر» عامة في البند رقم (37) : «وأن
[ ص: 145 ] بينهم النصر على من حارب أهل هـذه الصحيفة...» وأكد ذلك في البند رقم (44) «وأن بينهم النصر على من دهم
يثرب »
>[11] .
وهذه قرائن نصية صريحة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان في موقف المدافع لا الغازي والفاتح، بل إنه كان بهذه «الوثيقة» يريد أن يعزل قريش في مكة وألا يعزل هـو وأتباعه في المدينة، مدركا بذلك قيمة التحالف السياسي في درء كيد قريش وشد أزره في هـذه المرحلة المبكرة من تأسيس الدولة «فاعتبر اليهود مواطنين بصريح نصوص هـذه «الصحيفة» وأنهم «أمة مع المؤمنين» ولكن لم تفرض عليهم جميع الواجبات المترتبة على المسلمين، وأخصها القتال؛ لأنهم لا يؤمنون بالشعار الذي يمكن أن يقاتل المسلمون تحت لوائه، وكان ذلك تخفيفا عنهم، ولكن لا بد أن يسهموا في نفقات الدفاع، وفي أيام الحرب فقط»
>[12] ماداموا محاربين، وحيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن لهم حرية دينهم في البند رقم (25) وسكناهم في المدينة فمن باب أولى تحملهم أعباء نفقات دفاعهم عن وطنهم ومقدراتهم التي يمتلكونها، ويخلص من هـذا البند أسمى آيات العـدالة الاجـتماعية، فهم لا يتحملون نفقات الجيش عندما يكون مهاجما، بل عليهم أن يوفروا جزءا من حمايتهم لأهاليهم وأرضهم في المدينة
>[13] .
فالأرض يوم تحكم بشريعة السماء، فسوف ينعم بها المسلمون وغير المسلمين؛ لأنه ليس من الحكمة أن تكون دماء المسلمين وأعراضهم وأرواحهم
[ ص: 146 ] وأموالهم مستباحة مهدورة وأموال غيرهم وممتلكاتهم وأعراضهم مصونة.. إن المبدأ الإسلامي العادل هـو الغرم بالغنم، فإذا كانت «الوثيقة» قد حملت المسلمين عبء التضحية والفداء والموت لإقامة دولة الإسلام فإن هـذا لا يعفي أبدا الحلفاء السياسيين من مسئولياتهم المالية حتى يكتمل دفع أرواح الشهداء بدفع أموال الحلفاء، وليس هـذا تفضلا منهم ولا كرما، بل هـو واجب أصلي عليهم، حتمته «الوثيقة» التي تنظم حياة جميع أهل المدينة
>[14] .
إن مبدأ النصيحة من المبادئ المهمة التي ركزت عليها «وثيقة» المدينة من أجل إتاحة الفرص لكل المتعاقدين في التجمع السياسي المديني على المشاركة الفعالة في المشاورات السياسية الدائمة والتخطيط الدائم والاستفادة من الخبرات والطاقات، والثقة المتبادلة، بين الأعضاء في تعاملهم من خلال مفاهيم جديدة في التناصر والتفاهم والتعاون على «البر دون الإثم»
>[15] .
إن الذي يعيش في ظل الإسلام لا بد أن يرفعه الإسلام إلى مستوى الثقة والتعامل الحضاري المميز، فالمسلمون يضمنون إحلال الأمن والسلام الداخلي ومنع نشوب أي حرب داخلية في المدينة عن طريق تشكيل دوريات أمن عسكرية هـدفها حماية الدولة والاستكشاف وضمان الأمن ودفع الأذى الذي قد يأتي من الخارج، وكذلك منع تجارة قريش من المرور في أراضي الدولة الجديدة.
أما اليهود الذين ضمنت لهم «الوثيقة» حرية العقيدة والإقامة وحرية الاشتغال والكسب مادام ضمن حدود الله، وضمان الحماية في بيعهم وشرائهم فيما بينهم وبين المؤمنين، فإن عليهم عدم التعامل التجاري مع
[ ص: 147 ] قريش، وعدم السماح لها بترويج منتجاتها داخل
المدينة عن طريقهم، وعدم السماح لها بالحصول على مكاسب التجارة الدولية ، بمعنى أدق إعلان المقاطعة للعدو اقتصاديا، وسياسيا تطبيقا لما نصت عليه «الوثيقة» في البند رقم (45) الذي ينص على جواز عقد الصلح مع حلفاء المتعاقدين إذ دعا إليه أحد الطرفين باستثناء المحارب في الدين: «وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين»، يقول العلي: «وقد وضعت هـذه المادة تالية للمواد المتعلقة بالدفاع عن المدينة، لذلك يمكن اعتبارها مكملة لها ومرتبطة بها، وأن الصلح الذي تشير إليه هـذه المادة يتعلق بالأخطار التي تهدد المدينة»
>[16] .
فأعطت الحق لليهود أن يجابوا إلى صلح يطلبونه مثل ما اشترطت عليهم قبول هـذا الصلح؛ لأن المصلحة المشتركة للحلفاء تدرس وتقرر في ضوء هـذا الصلح. وإنما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك توثيقا لعرى التضامن الحربي بين المسلمين واليهود، وتأكيدا للوحدة التي أرادها لعناصر الأمة البشرية، غير أنه وضع قيدا خاصا استثنى به عليه السلام قريشا «إلا من حارب في الدين» لأنهم كانوا في حالة حرب معهم
>[17] .
وخلاصة القول: إذا كانت «الوثيقة» قد جعلت مسئولية الدفاع المشترك واجبا على جميع متساكني المدينة فإنه وبالمقابل منحتهم حقا لا يقل أهمية عن ذلك الواجب، وهو مساواتهم جميعا أمام القانون، دون النظر إلى الدين أو العرق، وهذا ما نجده واضحا في بنود «الوثيقة».
[ ص: 148 ]