المبحث الثالث: مساواة الجميع أمام القانون
كانت حياة الناس قبل هـجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة قائمة على أساس التفاضل بالمال والجاه، والشرف، والتفاخر بالآباء والأمهات، والقبائل والأجناس، بل اصطلحوا على «أن الناس فيهم ثلاث طبقات: سادة، وسوقه وموالي عتق، وكانوا يجعلون دية القتيل من السادة مضاعفة لدية السوقة، ويسمونه التكايل في الدماء، فيقدر دم السيد بعشرة من السوقة أو الخمسة أو اثنين، فجاء الإسلام بإبطال ذلك»
>[1] مما أدى إلى تصادم الطبيعة البشرية الميالة لنـزعة التعالي وحب السيطرة والاضطهاد مع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوة إلى المساواة. لذا واجه عليه السلام الكثير من المتاعب والمشاق في سبيل دعوته إلى تحقيق هـذا المبدأ بين الناس جميعا، حيث وقف السادة من
قريش له بالمرصاد في هـذا الشأن. وفي ذلك يقـول
طه حسين : «... وكان أغيظ ما أغاظ قريشا من النبي ودعوته، أنه كان يدعوها إلى المساواة، ولم يكن يفرق بين السيد والمسود ولا بين الحر والعبد، ولا بين القوى والضعيف ولا بين الغني والفقير،... ولا يستعلي بعضهم على بعض، وقد سخطت قريش أشد السخط وأعنفه على النبي صلى الله عليه وسلم لما أظهر من ذلك حتى لأكاد أعتقد أنه لو دعاهم إلى التوحيد دون...أن يمس نظامهم الاجتماعي والاقتصادي لأجابته كثرتهم من غير مشقة ولا جهد أو لأجابه من قريش من أجاب وامتنع عليه من امتنع دون أن يلقى من ذلك مشقة أو عنتا، ومهما يكن من شيء فقد سخطت قريش على النبي لأنه عرض لنظامها الاجتماعي وفرض عليها نوعا من العدل لا يلائم منافع ساداتـها وكبرائها»
>[2] .
[ ص: 149 ] وهكذا فإن من أعظم ما حققته الدولة الجديدة في المدينة، أنها حطمت التفرقة العنصرية والتمايز بين جميع المتعاقدين في الحقوق والواجبات العامة، فلليهود والوثنيين من الحقوق ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات ما على المسلمين إلا فيما يتصل بدينهم، فلا يقام عليهم الحد فيما لا يحرمونه، ولا يدعون للقضاء في أعيادهم، وكل هـذه المعاني تبرز في «دستور» الدولة.
>[3] ولنا أن نتساءل: ماذا نعني بالمساواة أمام القانون؟ وما هـي المفاهيم التفسيرية لذلك انطلاقا من مضمون الوثيقة؟
إننا نقصد بالمساواة أمام القانون: أن يكون الأفراد جميعا متساوين في الحقوق والواجبات العامة، فلا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، بحيث يتمكن كل شخص من التمتع بنفس
[ ص: 150 ] الحقوق التي يتمتع بها الآخرون ويخضع لجميع التكاليف التي يفرضها القانون على الأفراد
>[4] .
أما القانون فهو مجموعة القواعد التي تقيم نظام المجتمع فتحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم فيه، والتي تناط كفالة احترامها بما تملك السلطة العامة في المجتمع من قوة الجبر والإلزام
>[5] .
لذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبث أن عقد مع مختلف الأطراف في المدينة «وثيقة» مكتوبة أقرت مبدأ مساواة المخالفين بالمسلمين أمام القانون دون هـضم لحقوقهم وواجباتهم، وهو الأمر الذي لم تصل إليه شريعة من الشرائع السماوية السابقة ولم يسبق له مثيل في تاريخ أي أمة من أمم الأرض، ولم يرق له قانون وضعي لا في القديم ولا في الحديث.
فالناس جميعا سواسية أمام القانون الإلهي، غنيهم وفقيرهم، شريفهم ووضيعهم، المسلم والذمي، قال تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هـو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8) .
[ ص: 151 ] وقد طبقت «وثيقة» المـدينة هـذا المفهوم عمليا في صـدر الإسلام في المجتمع الذي أنشأه
محمد صلى الله عليه وسلم فحطمت بذلك التفرقة العنصرية والتمايز بين أعضاء المجتمع المديني لما اعتبرت جميع الأفراد المتعاقدين في يثرب متساويين في الحقوق والواجـبات العامة. وليس في القانون أي تمييز لأي فئة كيفما كانت أمام مغانـم الحياة العامـة ومغرمها في المدينة؛ لأن «المبدأ الإسلامي العادل هـو الغرم بالغنم ، وإن كان الله تعالى قد حمل المسلمين عبء التضحية والفداء والموت لإقامة دولة الإسلام»
>[6] . لذلك نجد أن «وثيقة» المدينة قد جسدت في بنودها رقم (24 و25إلى35 و37 و38 و39 و41 و43 و44 و45 و45ب و47) التحام (الآخر) (اليهودي) بالمسلم الذي «أصبح جزءا أصيلا في الأمة والرعية المتحدة لهذه الدولة الإسلامية»
>[7] التي قامت على أساس العدل والإنصاف الذي يحكم عـلاقة الناس بعضهم ببعض، قال تعـالى على لسـان سيدنا محمد (:
( وأمرت لأعدل بينكم ... ) (الشورى:15) .
( وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية [ ص: 152 ] كاملة، فسـوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ) >[8] . هـذا فيما يتعـلق باليهود، أما فيما يتعلق بالمسلمين فقد جاء الإسلام واضعا لأساس المساواة بقوله تعالى:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ... ) (الحجرات:13) ،
( وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ) >[9] .
وبهذا القانون الجديد تحطمت كل الموازين –الوضعية– الأرضية وحل محلها الميزان السماوي الأوحد:
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، فبلغت المساواة بين الناس غايتها، عندما أمر عليه السلام بها بين المرء وخادمه فقال:
( ... إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) >[10] . وهكذا جاء القرآن ليختط أصولا جديدة، وجاءت «الصحيفة» مؤكدة معنى المساواة شاجبة للطبقية، حيث ينص البند رقم (15) على
( أن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس ) .
[ ص: 153 ] أما فيما يتعلق بالمسلم و (الآخر) - اليهودي، والوثني - فالمساواة قائمة بينهم على أساس القيمة الإنسانية المشتركة، فالناس جميعا متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسئولية، وأنه ليس هـناك جماعة تفضل غيرها بحسب عنصرها الإنساني وخلقها الأول،
قال تعالى:
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ... ) (النساء:1) .
فالكـل سـواء، لا فوارق ولا طبقية بينهم وبين بعضهم إلا طبقا للمعايير الموضوعية التي قررها الدستور الإسلامي والمتمثلة بالإيمان والعمل الصالح، وهذا ما أكدت عليه «وثيقة» المدينة في بنودها التي ساوت بين جميع سكان المجتمع المديني وفق المعطيات الجديدة.
إن مبدأ المساواة أمام القانون بين كل من شملتهم «الصحيفة» يمكن إجماله في الآتي:
أولا: المساواة في النفقات المالية نصت «الوثيقة» في البندين رقم (24 و38) والفقرة الأولى من البند رقم (37) على دفع كل طرف قسط نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة على حد سواء بدون تمييز لأي طرف على الآخر.
ثانيا:المساواة في العمليات الحربية الدفاعية عن المدينة من أي عدوان خارجي أكدت «الوثيقة» في الفقرة الثانية من البند رقم (37) والبندان رقم (44 و45ب) على وجوب التناصر بين أهل هـذه «الصحيفة» على كل من دهم يثرب، كل من جانبه الذي قبله.
[ ص: 154 ] ثالثا: المساواة في واجب منع إجارة العدو ومن نصره عملت «الوثيقة» على إبطال حق الجوار من جميع المتساكنين في المجتمع المديني للعدو الخارجي ومن نصره، حيث منع البندان رقم (41 و43) الإجارة للعدو ولو كان ولد أحدهم. فالمسلمون واليهود والوثنيون أمام هـذا الإجراء القانوني متساوون.
رابعا: المسـاواة في الانتسـاب إلى الأمة يبرز هـذا المبدأ في البنود من رقـم (25 إلى 35) التي كفـلت (للآخر) - اليهودي - انتسابه للأمـة، حيث أصبح المجتمـع الجـديد في
يثرب يشـكل أمـة واحـدة - بالمعنى السياسي - متساوية عناصرها أمام القانون؛ وأمتين بالمعنى العقدي، حيث تنص هـذه البنود عـلى أنـهم «أمة مـع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم». وبهذا أقرت «الوثيقة» كل طرف من المتعـاقدين على دينه، له عقيدته وحريته فيما يعبد، الجميع في ظل هـذا القانون السياسي المنظم لشئون الحياة في المجتمع المديني سواء، وكل واحد من الأطراف المتعاقدة مسئول عن دينه ومعتقداته أمام الله عز وجل بمفرده لا يشاركه في ذلك أحد.
خامسا: المساواة في معاملة كل طرف من المتعاقدين لحلفاء (الآخر) تضمن البند رقم (45) أن المسلمين إذا دعوا اليهود إلى الصلح مع حليف لهم فإنـهم يصالحونه، وإن اليهود إذا دعوا المسلمين إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين مثل ذلك، وهذا دليل واضح وصريح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم
[ ص: 155 ] عامـلهم معاملة الند للند بدون تمييز تأكيدا للوحدة التي أرادها لعناصر مجتمع المدينة.
وقد استثنى عليه السلام في الفقرة الأخيرة من البند نفسه من حارب الدين «إلا من حارب في الدين» لأنه لا ينبغي للمسلمين أن يصالحوا من حارب دينهم، بل ليس لليهود أن يصالحوا أعداء الإسلام ثم يدعوا المسلمين إلى مصالحة من صالحوا
>[11] .
كما ساوت «الوثيقة» بين جميع الأطراف المتعاقدة على اختلاف أعراقها وانتماءاتها الدينية في العيش داخل حدود الدولة الإسلامية آمنين على أموالهم وأنفسهم من أي اعتداء قد يهددها بالخطر، حيث ينص البند رقم (39) على «أن يثرب حرام جوفها لأهل هـذه الصحيفة»، فالنص صريح في تحريم الحروب والقتال بين القبائل والعشائر، وتثبيت السلم في المدينة، التي رسمت حدود حرمها ببعض العلامات البارزة في أطرافها.
[ ص: 156 ]