- التقنيات الحديثة.. رموز وإشارات
هل تحولت التقنيات الحديثة إلى مجرد رموز وإشارات؟
أجل لقد تحولت أجزاء كبيرة من التقنيات الحديثة إلى مجرد رموز وإشارات، وعلى سبيل المثال تكاثرت رموز الإلكترونيات ورموز المصطلحات العلمية، وتحولت الثقافة هـي الأخرى إلى منظومة للرموز والإشارات كما هـي السمة الطاغية للشعر الحر وبعض أنماط القصص القصيرة. لقد شجعت أجهزة الفاكس والحاسوب والإنترنت عبثية الثقافة الحديثة، أما التقنيات الحالية فقد سجنت الفكر في سجن انفرادي وحجبت اكتشاف الذات، وهكذا أصبح التفكير في حد ذاته اصطناعيا. وبهذا المفهوم تشكلت الثقافة والحضارة في فترة ما بعد الحداثة وبدأت تظهر بوضوح مع نهايات القرن العشرين؛ وهي للأسف عملية لظهور الوعي المشوه لثقافة مشوهة، وليست مصادفة أن يتزامن مع ذلك انتشار الأعضاء الاصطناعية التي هـي دون جسد! وحتى الأعضاء الطبيعية أصبحت تنقل إلى جسد آخر غريب عنها! هـكذا اختلط الناس ببعضهم ولم يعد للجسد هـوية تميزه. وقد يقاوم الفرد الطبيعي هـذا الاتجاه بشدة؛ لأن جهاز المناعة عنده يرفض إيواء الغرباء، وغالبا ما تفشل زراعة أو نقل الأعضاء إلا إذا عولج الفرد بالكثير من المضادات الحيوية وأدوية الكورتيزون المهمشة لدور الجهاز المناعي.
ولن ننسى الأخطاء والتقنيات الطبية التي قتلت الكثير، أما المعلومات الخاطئة فقد شوهت الكثير من المجالات التطبيقية، وعطلت الكثير من الاستخدامات، ثم ثبت أن العكس هـو الصحيح؛ ومما زاد الطين بلة صدور
[ ص: 97 ] بعض المعطيات العلمية بطريقة غير مقصودة أو بغباء أو نتيجة لأخطاء غير متعمدة، ولكنها أسهمت في تشويش معادلة التوازن النفسي والعقلي للإنسان
>[1] ؛ وفي آخر تقرير طبي نشر في
المملكة البريطانية وجد أن ثلث المرضى يعانون من تشخيصات طبية غير سليمة.. وفي عام 2003م أعلنت السلطات البريطانية وفاة أكثر من أربعة آلاف فرد بسبب الممارسات الطبية الخاطئة.
هكذا يعاني الفرد المعاصر من تشويش كثيف نتيجة لما يحدث من تفكك في فكره وأعضائه، ولابد لصدمة التفكك أن تصـل للذروة في يوم ما وعندها تبدأ في خلق الآلام العضوية للتفكير الإنساني، ولن يستطيع القيام بعمليات المتابعة إلا شخصيات منفردة استثنائية من عباقرة الفكر التي قد تكون لها القدرة على متابعة حضارة ما بعد الحداثة. ولكن حتى هـذه النماذج الفريدة سوف تعجز في مرحلة لاحقة عن اللهاث وراء سيول المعلومات وربما تغرق في فيضان المعرفة، والنتيجة الحتمية هـي إصابة المجتمعات بالشلل! وسوف تفشل الحكومات في قيادة الشعوب المتفككة فكريا والمتناثرة عضويا بل قد يتوقف تماما التوجه الإنساني للحضارة حيث تفقد الصلة تماما بين الفرد والإنسانية نظرا لبعدهما الشاسع في التوجه والمقصد، وهذا ما نراه واضحا اليوم وللأسف الشديد
>[2] .
[ ص: 98 ]