مقدمة
الحمد لله العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، تذكرة لأولي القلوب والأبصار.
والصلاة والسلام على رسوله الكريم
محمد بن عبد الله ، النعمة المسداة، الهادي إلى صراط مستقيم، والداعي إلى الله بإذنه، والسراج المنير، وعلى سائر النبيين، وآل كلهم وصحبهم وسائر الصالحين.
أما بعد؛
فالخطو قدما باتجاه صحيح، لوضع منهج علمي متسم بالوسطية والاعتدال بين مدرستي أهل الرأي وأهل الأثر، يزود الأجيال الصاعدة بقواعد البيانات اللازمة، العامة منها والخاصة، بهدف استصحابها أثناء تفهم النص الشرعي وتفقهه، وأثناء تنزيله وتطبيقه، ويسد الباب ويؤصده بوجه الأدعياء الحدثان المتظاهرين بمظهر العلماء، والطفيليين على مائدة أهل البصر الشرعي من أن ينفذوا إلى منصة الاجتهاد والإفتاء، والتوقيع عن رب العالمين، فيصدروا بلا وجل تفسيرات جديدة، وشروحا بعيدة حول النص الشرعي، أو حول تنزيله من غير هـدى ولا كتاب منير؛ كان من الأسباب والحوافز التي دفعت
بالإمام الشافعي محمد بن إدريس (ت 204هـ) ، رحمه الله، بادئ ذي بدء إلى إخراج أول مصنف أصولي إلى عالم الوجود، والذي اشتهر من بعد بكتاب «الرسالة».
[ ص: 31 ] وحقيق بالذكر، لم يكن العالم المسلم إلى أمد غير بعيد في حيرة من أمره، أو أزمة فكرية، أو مأزق منهجي عصيب للتعامل مع النص الشرعي فهما وتنزيلا، واستنباطا واستدلالا، وأنهم لم يكونوا يوما من الأيام عاجزين مكتوفي الأيدي عن التعامل مع الأحداث، والتقنين لما ينزل بساحة المكلفين من وقائع ومستجدات، بل كانوا قادرين على تزويد المكلفين بالحكم الشرعي في كل ما يحتاجونه في صورة أحكام جزئية خاصة بهم، أو في صورة قوانين فقهية، تنظم سلوك الفرد والمجتمع، والدولة ومؤسساتها المتعددة الوظائف والخدمات.
وجاء من بعد
الإمام الشافعي أصوليون آخرون، أثروا هـذه المسيرة المباركة بإضافة لبنات إلى الصرح الأصولي، أو بتعديل بعض القواعد الأصولية بحذف كلمة، أو عبارة منها، أو بتبديلها بأحسن منها، أو بمثلها، أو بتوضيحها والتفريع عليها.
وبما أن هـؤلاء العلماء لم تتحد وجهات نظرهم في تبني منهج أصولي واحد في تداول المسائل وتناولها، واستقاء الحكم الشرعي لها، وكان لهم مواقف متباينة في جملة منها، فقد ظهرت أربعة مناهج رئيسة: منهج الحنفية ، وهو ما سمي بمنهج الفقهاء، ومنهج الشافعية ، وهو ما سمي بمنهج المتكلمين ، ومنهج الجمع والتوفيق بين المنهجين السابقين، ومنهج
الإمام الشاطبي (ت 790هـ) ، المؤسس على مقاصد التشريع في تفقه الحكم الشرعي، والاستدلال عليه، وفي تنزيله على المكلفين والوقائع.
[ ص: 32 ] وهذا التنوع والتعدد في المناهج والمنطلقات البحثية والدراسية لم يسفر عن نتائج شاذة وغريبة عن نصوص التشريع، ومقاصده ومعاقده في الخلق والتكليف. وأن اختلاف الأصوليين في قاعدة من القواعد الأصولية لم يؤد دوما إلى اختلافهم في الفرع الفقهي بالضرورة، فإنهم قد يتفقون على حكم المسألة، وإن كان منهج الاستدلال والاستنباط فيه متعددا، ويمكن أن يضرب المثل بالاختلاف الدائر بين الحنفية وغيرهم من الأصوليين في تقرير قاعدة الاعتداد بمفهوم المخالفة . فقال الحنفية بعدم حجية مفهوم المخالفة، بينما قال الجمهور بحجيته.
وهذه القاعدة الأصولية المختلف فيها لم تفض إلى اختلافهم في حكم زكاة الغنم المعلوفة، وهي التي يتحمل صاحبها مؤنة تغذيتها من ماله معظم السنة، فقد ورد في الحديث
( وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة ) >[1] ، والسائمة هـي التي ترعي الكلأ المباح أغلب العام.
فهل يدل الحديث المذكور على حكم الغنم المعلوفة؟
فقال الحنفية : لا يدل الحديث على أن في المعلوفة الزكاة، فليس لتخصيص الغنم بالسائمة فائدة شرعية، وإنما خرجت الكلمة مخرج الغالب في حال الغنم، والحديث ساكت عن حكم المعلوفة، وحكم المعلوفة مستنبط
[ ص: 33 ] من قاعدة الاستصحاب الأصلي الذي بموجبه تسقط الزكاة عنها. وذهب الجمهور في حكمها إلى ما ذهب إليه الحنفية ، معتمدين في ذلك على مفهوم المخالفة، بناء على أن الأصل في الألفاظ الشرعية الإفادة
>[2] .
نعم، أفضى هـذا التعدد المنهجي إلى تباين النتائج، وإصدار مخرجات فقهية متغايرة في أحايين، لا مطلقا، ومع هـذا التباين المنهجي ظلت تلك النتائج والآراء مصطبغة بالصبغة الإسلامية، وموصولة بأهداف التشريع الإسلامي وروحه، ودائرة في مدارها وفلكها الرحب، من غير أن تطغى عليها، أو تحيد عنها قيد أنملة ذات اليمين، وذات الشمال.
وما فتىء علماء الإسلام في عصرنا الحاضر على هـدي أولئك الأوائل سائرين غير صارفين ولا مصروفين عنه يمنة ولا يسرة، إدراكا منهم بأن عدم التفاعل مع مناهجهم بإطلاق، ينبىء بانتحار حضاري ماحق للأمة، يهلك الحرث والنسل، ويسوق إلى سلبيات مدمرة لا يمكن تجاوزها وتداركها، فضلا عن أنها تنكر لجهود علمية جبارة بذلت وتراكمت عبر العصور والدهور.
بيد أن ثمة تفسيرات متعسفة، وتأويلات مطوعة، وتحويرات خطيرة لبعض أحكام الشريعة، مرة من لدن المناوئين للإسلام وأهله، وهذا أمر ليس بغريب، بل هـو متوقع. ومرة أخرى من لدن مسلمين منبهرين بـ (الآخر)
[ ص: 34 ] المختلف، مستسلمين لهم طوعا أم كرها، متبعين مناهجهم في الدراسة والبحث حذو القذة بالقذة
>[3] ، فأخضعوا الخطاب الشرعي كسائر الخطابات لتلك المعايير، سواء بسواء، من غير تأمل في خصوصيات النص الشرعي، وعصمته وتعاليه عن الزمان والمكان والأشخاص، وعدم عصمة وتعالي ما سواه.
فأسقطوا على النص الشرعي ما يخضع له - بل حتى ما لا يخضع له- سائر النصوص البشرية من الإسقاطات، ووضعوه تحت محك النقد والمراجعة، مما أدى بهم الحال إلى التردد والتشكيك في صحة النص وصدقه الذاتي، وأخيرا رفع الثقة عنه، والاعتقاد بأنه السبب الرئيس عن تأخر المسلمين، وحرمانهم من التمتع بالحياة المادية المعاصرة، وأن العالم الغربي لم يحرز تقدمه الذي أذهل الناس في المجالات الحياتية إلا بعد هـدر عقلائهم ومفكريهم حرمة النصوص الدينية، وتجاوزها باتخاذها ظهريا، حيث قطعوا صلتهم بها كليا إلى الأبد، وعدوا تلك النصوص من إفرازات التأريخ، أو من صنع العلاقات والظروف الاجتماعية بين الناس أيامئذ، وأنها لا تمت إلى الحاضر والمستقبل بصلة رحم، ولا تنسجم مع متطلبات الحياة الحديثة، وكيما لا تعرقل السير نحو الأمام فيتوجب طمسها وطيها وتناسيها
>[4] .
[ ص: 35 ] هذا وأن ما بذل من جهد بغية إقصاء المسلم وتنحيه عن دينه من خلال رشقه بتهمة عدم فاعليته في الحياة؛ قد باء بالفشل الذريع، ولم يلق آذانا صاغية، بل زادهم إيمانا وتسليما؛ ولذلك بدأوا بالتفكير في تغيير خططهم بطرح بديل آخر، ماثل في توجيه الجهد لإعادة تفسير تلك النصوص تفسيرا يضمن لهم تعطيل العمل بها، والتعامل معها بوصفها جزءا من التراث العتيق، كما هـم فعلوه مع نصوصهم الدينية في عهديه: القديم اليهودي والجديد المسيحي.
بالإضافة إلى ما سبق أن ثمة مجموعة أخرى من المسلمين، لم يتخصصوا في حقل الدراسات الشرعية، وشرعوا يقتحمون حمى النصوص بتفسيرها واستخراج المعاني والأحكام منها، ظانين أن حق الخوض في تفسير النصوص حق عام لجميع المسلمين، فلا يمكن حصره واحتكاره على فئة محددة، ذات أوصاف معينة، كحاملي شهادات الدراسات الإسلامية، وخريجي المدارس والحلقات الدينية.
وقالوا: إذا كان بالأمس قد انتزع هـذا الحق لهؤلاء؛ فإن ذلك اليوم قد ولى أدباره من غير رجعة، وبزغ فجر يوم جديد، أعيد فيه الحق إلى أصحابه، فأصبح الجميع من غير استثناء ملاكا لحق تفهمه وتفسيره، ولا مكان للكهنوتية الشاملة في الإسلام. وكانت النتيجة الحتمية والطبيعية لهذه الرؤى ولادة فهوم جديدة، الكثير منها لم يدل لها الدين بشهادة الاعتبار، ولم يختمها بختم التصديق، بل جاءت شهادته ضدها، ونفت انتماءها إليه قطعا.
[ ص: 36 ] هذه الأسباب وغيرها، شكلت المبرر والدافع لدراسة منهج الأصوليين السوي في تفقه النص الشرعي، ذلك لأن العمل الصحيح والصالح بالنص؛ يتوقف على حسن فهمه، وأن سوء الفهم لا يثمر إلا عملا سيئا، أو عملا غير سائر على درب الشريعة، وآفات كثيرة قد حصدت رؤوس عدد كبير من الأبرياء، ما كانت تنزل بهم لولا الفهم السقيم.
ومن أجل الإشادة بموقع حسن الفهم، وما يترتب عليه من نتائج إيجابية في حياة الناس، ورد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) >[5] . ويقول
ابن القيم (ت751هـ) في هـذا الصدد: «صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هـما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما... وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدي والضلال، والغي والرشاد»
>[6] .
على أن الالتزام بمنهج رصين مقبول من لدن جميع المتصدرين لتفسير النصوص ينشىء فهما واحدا، ووجود فهم واحد حول النص يساعد على جمع شمل المسلمين، ويحافظ على وحدة صفهم، ويحميهم من التمزق والتشرذم، والدخول في هـذا الميدان بلا منهج منير يسبب في صناعة أفهام
[ ص: 37 ] متعددة، ومتعارضة في أغلب الأحايين، تحولهم إلى فرقاء متشاكسين متناحرين، فتذهب ريحهم.
وستكرس هـذه الدراسة صفحاتها -بإذن الله تعالى- لتسليط الضوء اللامع على مرتكز منهجي معتمد في تفسير النص الشرعي وتوجيهه الوجهة السليمة، ألا وهو البعد المصدري للنص، وتدرس أهمية استحضاره وجدواه إبان تفهم النص، وتبين كيف أن غياب هـذا المرتكز، أو تغيبه بالجملة، أو في الجملة، سيؤثر سلبا في ذلك الفهم، وكيف تغدو النتائج والاستنباطات بمنأى عن حقائق الأمور، وبدهيات الدين، ومسلمات التدين السليم!
وتستهدف الدراسة شريحة المفسرين والمستنبطين لأحكام التشريع من النص، حيث تقدم لهم بيان هـذا المرتكز المنهجي الأصيل والعظيم، حتى لا يعدلوا عن الصواب إلى غيره. كما تستهدف أولئك الذين أضحوا فريسة للمناهج المستوردة من الخارج في الفهم والتفسير، بغية إفاقتهم والعودة بهم إلى خطيرة مناهجنا الإسلامية ودفئها، بقلب واثق مطمئن غير متزعزع بأحكام الشرع، وهذه الثقة بها تحملهم على ترك صفوف المعارضين والمغرضين، وتعيدهم إلى صف أهل الذكر والفكر من الذائدين عن حنيفية هـذا الدين.
أما الذين لم يصدقوا بهذا الدين، وكذبوا تعاليمه الغراء، واستبدلوا الذي هـو أدنى بالذي هـو خير:
( أتستبدلون الذي هـو أدنى بالذي هـو خير ) (البقرة:61) ،
وأعلنوا عليه من طرف واحد حربا شرسة، لا هـوادة
[ ص: 38 ] فيها ليلا ونهارا، سرا وجهارا؛ فلا يعنينا، وليس لهم محل من الاكتراث والاهتمام، لذلك لم نتصد لهم بالرد، وأن جدال هـؤلاء يتطلب عرض مقدمات كلامية ومنطقية عليهم تارة، ونفسية وكونية وعلمية تارة أخرى، لإثبات أركان الإيمان، ومن ثم الخوض في نصوص التشريع ومحاكمته:
( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ) (سورة الملك: 22) .
ولإبراز هـذا البعد المصدري للنص، فهما وتأصيلا وتفعيلا؛ تم توزيع مفردات الموضوع على أربعة مباحث، وهي:
المبحث الأول: مفهوم البعد المصدري للنص.
المبحث الثاني: التأصيل الشرعي للبعد المصدري في تفقه النص الشرعي.
المبحث الثالث: حضور البعد المصدري في المقررات الأصولية.
المبحث الرابع: أثر غياب البعد المصدري إبان تفقه النص الشرعي.
هذا وأرجو أن يكون الحديث الآتي عن هـذه المباحث الأربعة سائقا لتعبيد العقبات والصعوبات، ومكللا بالتوفيق والصواب، ومثمرا للقاريء الفاضل، بعيدا عن السراب، فإن كان الأمر كذلك فلله الحمد، وله الفضل، وهو أعلم حيث يجعل مواقع فضله، ومن يختص برحمته، وإن كان فيه شيء على خلاف ذلك؛ فإنه مني، وإلى الله المآب والمتاب، وأستدعي الأحباب في بيان الحق والصواب، ولهم مني الشكر، وناهيك عما عسى أن يدخر لهم من الأجر والثواب، يوم يأتي الحساب.
[ ص: 39 ]