المطلب الثاني: حرية الإنسان أمام المجتمع
ومن أشد الأمور غرابة أن الإنسان هـو الكائن الوحيد الذي ظل يطالب بالحصول على الحرية الأساسية من قبل الإنسان نفسه. أما غيره من المخلوقات التي تعيش على ظهر الأرض، فإن الفطرة هـي التي وضعت لها الحقوق والحريات ومنحتها إياها بصورة تلقائية دون أن تبذل لها الكثيـر أو القليل من الجهد فالإنسان هـو الكائن الوحيد الذي أثار السؤال عن الحريات في فترات مختلفة، وصارت الحاجة ماسة إلى تحديد حريات له من آونة إلى أخرى.
[ ص: 54 ] يرى الفقهاء المسلمون أن الأصل في الأشياء هـو الإباحة ما لم يقم دليل يقيدها
>[1] . ولذا يسوق بعض الفقهاء المسلمين مبدأ المسئولية الشخصية كدليل إثبات الحرية المدنية، قائـلين: إن جميع الأديان السـماوية تؤكد هـذا المبدأ، ولأن الناس يتمتعون بقدر معين من الحرية، يمكن اعتبارهم بموجبها مسئولين عن أفعالهم، ولكن في غياب الحرية لا يكون هـناك مكان أو إمكانية لتحمل المسئولية
>[2] .
وإلى جانب ذلك، ينص الحديث النبوي على أن الإنسان هـو خليفة الله في الأرض، ليحافظ بذلك على كرامة الإنسان نفسه، كمبدأ أساسي، خاصة فيما يتعلق بحقوق جميع البشر وحريتهم، بصرف النظر عن أجناسهم أو معتقداتهم... إلخ.. وبالتالي فإن الرق أمر مكروه ومقيد، لأن الرق عائق يحرم الإنسان من واجبه الأساسي ومهمته الرئيسية في خلافة الله في الأرض، وهو ما سنحاول معالجته بالإجابة عن السؤال: هـل ضمنت السنة النبوية الحريات الأساسية للإنسان، وما موقفها من هـذه القضية الحقوقية؟
لذلك نعرض هـنا لمسألتين أساسيتين من الحقوق الأساسية للإنسان:
1- مسألة الرق في الحديث النبوي.
2- حرية المعتقد في الحديث النبوي.
[ ص: 55 ] - الفرع الأول: مسألة الرق في الحديث النبوي
إن السنة النبوية رغبت أيما ترغيب في تحرير الرقاب، إذ قد اعتبرته عملا ينقذ صاحبه من النار، فعن
أبي هـريرة رضي الله عنه
( قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار.. قال سعيد بن مرجانة : فانطلقت به إلى علي بن حسين ، فعمد علي بن حسين رضي الله عنهما إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه ) >[3] .
وهذا الترغيب في التحرير لم يقتصر على الرجل فحسب، ولكن كان شاملا للذكور والإناث معا. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم الحريص على تحرير الرقاب، لم يترك هـذا الأمر لرغبة الناس إن شـاءوا حرروا، وإن شاءوا امتنعوا، بل ربطه بأمور من شأنها أن تتكرر في حياة البشر، فينتج عن ذلك كثرة الرقاب المحررة
>[4] .
من ذلك أنه جعل كفارة من لطم مملوكه أن يعتقه. فإن
( ابن عمر رضي الله عنهما ، دعا بغلام له فرأى بظهره أثرا، فقال له: أوجعتك؟ قال: لا.. قال: فأنت عتيق.. قال ثم أخذ شيئا من الأرض، فقال: ما لي فيه من [ ص: 56 ] الأجر ما يزن هـذا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ضرب غلاما له حدا لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه ) >[5] . هناك نصوص كثيرة تدعو إلى التحرير، وليس هـناك نص واحد في كتاب الله ولا في السنة يأمر بالاسترقاق، بل نهى الإسلام عن تصيير الأحرار عبيدا، فهذا جرم فظيع يستحق فاعله أن يكون الله خصما له يوم القيامة.
( فعن أبي هـريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره ) >[6] .
قد يسأل سائل: إذا كان الإسلام دين حرية ومساواة فكيف أباح نظام الرق؟ ولأي سبب لم يقرر الشارع الإسلامي نفي الرق في الإسلام كما نفى كثيرا من العادات التي تحرم الإنسان متعة الحرية ؟
ونرد على هـؤلاء بإيضاح الظروف التي أدت إلى الرق، حيث ظهر الإسلام في مجتمع تعددت فيه طوائف الأرقاء زنجا، وروما وفرسا... إلخ.
والرق تعددت روافده وطرقه عندما وجدت الحروب القبلية التي جعلت الرقيق مصدرا للغنيمة، ووجد الفقر المتفشي، فكان مصدرا آخر من مصادر الرق، فظهر وضع اجتماعي واقتصادي سائدا في أنحاء الأرض، وقائم على تجارة الرقيق. والمعلوم أن الرق وجد قبل الإسلام في المجتمعات السابقة
[ ص: 57 ] كالمجتمع الروماني وغيره. فالفيلسوف
أفلاطون قد اعتبر نظام الاسترقاق ملازما للجمهورية الفاضلة وللحكومة الإنسانية في مثلها الأعلى، وحرم على الرقيق حقوق المواطنة والمساواة. والفيلسوف
أرسطو جعل الرقيق نظاما من الأنظمة الملازمة لطبائع البشرية، فلا يزال في العالم أناس مخلوقين للسيادة وأناس خلقوا للطاعة والخضوع، ولما ظهرت المسيحية في
بلاد اليونان كتب
القديس بولس البندقي إلى أهل إقسس رسالة يأمر فيها العبيد بالإخلاص في الطاعة للسادة كما يخلصون في طاعة السيد المسيح، وجرت الكنيسة على منهجه وقبلت نظام الرق
>[7] .
وإذا كان نظام الاسترقاق أصلا معترفا به منذ القديم وممارسة جائرة فاشية في كل مكان، فكيف عالج الإسلام هـذه القضية؟
لما جاء الإسلام أنقذ الرقيق من تلك المظالم والمصائب والبلايا، وسواه الشارع الحكيم في كثير من الحقوق والأحكام بغيره من المسلمين، وقد أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم خيرا وأوجب معاملته بالحسنى.
( فعن أبي هـريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي مولاي؛ ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي ) >[8] ،
( وعن أبي ذر الغفاري قال: ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 58 ] ... فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه ) >[9] .
إن الشارع الإسلامي حكيم، يضع الأشياء في موضعها. من أجل ذلك لايفاجئ الناس بمحو عادة تأصلت فيهم من القدم. فإذا ما فوجئوا بمحوها دفعة واحدة كثر المجادلون والمعارضون، مما قد يؤدي إلى توقف عجلة الحياة نفسها
>[10] ، فالشارع الحكيم لم يشأ محوها دفعة واحدة، بل جعلها في طريق فيه مصلحة لمن يسترقون ولغيرهم.
الفرع الثاني: حرية المعتقد في الحديث النبوي
لعل من أبشع ما عرفته البشرية في تاريخها الطويل ظاهرة الاضطهاد الديني وإكراه الناس على ترك معتقداتهم، فقد ذاق الناس الويلات من جراء التعصب الديني، وسلطت عليهم كل أشكال التعذيب الوحشي من أجل التخلي عما اعتقدوه صوابا واعتناق ما اعتقدوا بطلانه
>[11] .
ولما ظهر الإسلام بمكة عدا المشركون على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة.
وكان المسلمون إذا اشتد اضطهاد المشركين لهم يلجأون إلى
[ ص: 59 ] الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه أن يستنصر الله لهم، فكان صلى الله عليه وسلم يهون عليهم الذي يلقونه من قريش بما يقص عليهم من أخبار الأمم السابقة وصبر المؤمنين رغم ما كانوا يلقونه من أقسى أنواع التعذيب.
( فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه ، يقول: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله.. فقعد وهو محمر وجهه، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هـذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ) >[12] .
" وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: كانت المرأة تكون مقلاتا
>[13] فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصـار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنـزل الله عز وجل :
( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة:256 "
>[14] .
ولعل أول الأمثلة على التسامح الديني قد ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال كتاب الموادعة الذي أبرمه مع
اليهود بالمدينة ونص فيه على كفالة حرية المعتقد، ودعا فيه إلى التعايش السلمي وحسن الجوار، ومما جاء فيه:
( أنه من [ ص: 60 ] تبعنا من يهود فإنه له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم... وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته. وأن ليهود بني نجـار... وبني الحـارث... وبني ساعـدة... وبني جشم... وبني الأوس... وبني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته... وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم... وأنهم إذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونهم ويلبسونهم، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين... ) >[15] .
ولقد كانت عهود النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه للذميين دليلا قاطعا على كفالة الحرية الشاملة لهم وخاصة حرية الاعتقاد، وذلك كما نرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران
>[16] . وقد صور ذلك أيضا
( رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه ، قال: نـزلنا مع النبي خيبر ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلا ماردا منكرا، فأقبل إلى النبي فقال: يا محمد ، ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا؟ فغضب [ ص: 61 ] - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - وقال: يا ابن عوف اركب فرسك ثم ناد: ألا إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة.. قال فاجتمعوا ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام فقال: «أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هـذا القرآن، ألا وإني والله قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله عز وجل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم ) >[17] .
( ومر هـشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية.. فقال هـشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ) >[18] .
وتأسيسا على هـذا، أرسى الإسلام ركنا آخر في هـذه السياسـة من شأنه أن يبلغها غايتها، وهو حرية الدين، حتى لا يكون الإكراه في الدين أو الاختلاف فيه عقبة في سبيل تحقيق غايته السياسية والحضارية من الصلاح والإصلاح العالمي. واعتقادا من الإسلام أن «الإكراه» في الواقع لا يؤسس عقيدة، إذ لا وزن لعقيدة ما، إذا كانت تقليدا أو ناشئة من إكراه، بل ينبغي
[ ص: 62 ] أن تكون أثرا للتفكير الحر، ووليدة النظر الصحيح والاستدلال العلمي، الذي يكون الاقتناع الذاتي، ولكون العقيدة عنصرا نفسيا لا يتصور أن يكون للإكراه والقسر بجميع صوره سبيل عليها
>[19] .
ذلك ما تقتضيه طبائع الأشياء، والإسلام في تشريعه لم يقر خلاف ذلك، فالإكراه لا يؤسس عقيدة ولا يرسخ مبدأ، ولا يكون قناعة، ولا ينتج أثرا، لذلك كان الإكراه في الدين محرما في الإسلام.
استفادة من هـذا كله، فإن الحرية الإنسانية متكونة بالدرجة الأولى من جانبها الأصولي التشريعي، حيث الحرية تقابل «الإلزام» أو «التكليف». وبالدرجة الثانية من جانبها السياسي الاجتماعي، حيث الحرية تقابل «الاستبداد» أو «القهر». ثم أخيرا من جانبها الكلامي «الميتافيزيقي»، حيث الحرية تقابل «الجبر» أو «الحتمية».
إن الحرية الإنسانية تملك أساسا نصيا قرآنيا وحديثيا. وذلك على شتي مستويات النظر إليها، فلسفيا وسياسيا وتشريعيا؛ لأن الإسلام -كما سبقت الإشارة- ينكر الجبر ويحرم الاستبداد، ويثبت على سبيل الأصالة حق الإنسان في الحركة بحرية خارج دائرة الإلزام، الذي يعني ما هـو أصولي تشريعي وقانوني.
[ ص: 63 ]