المطلب الأول: الصلة الدائمة بين القلب البشري وبين الله
لم ينل الإنسان من حقوقه وحرياته خلال عصور التاريخ الطويلة إلا شيئا ضئيلا، ذلك أن القضية كما ندرك ليست في إعداد المواثيق والاتفاقيات، وجلها لم يزل حبرا على ورق دون تنفيذ، وعلى مستوى الكلام دون العمل، وإنما القضية أساسا تكون في معالجة الروح وإحياء الضمير الإنساني بالدين، لما له من سلطان على القلوب في إيقاظ نوازع الخير بل والتوجيه إلى المكارم والفضائل والحث على اتباع الحق، ولن يكون ذلك بغير إيمان.
وحقيقة الإيمان إنما تتجلى في اليقظة الروحية، التي هـي مظهر رضى الله وإرادته الخير بالإنسان، كي يسعى إليه ويحرص عليه.
وهذه اليقظة الروحية مهتدية إلى الله بفطرتها من نفحة الملك، التي أودعها في قبضة الطين.
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح... ) >[1] ، ومن ثم فهي بذاتها تهتدي إلى خالقها وتتصل به على طريقتها.
ونفهم من هـذا الحديث كذلك أن الروح هـي مركز الكيان البشري ونقطة ارتكازه، إنها القاعدة التي يستند إليها الكيان كله ويترابط عن طريقها، إنها المهيمن الأكبر على حياة الإنسان.
[ ص: 103 ] لذلك لاضمان للخير الحقيقي في هـذه الأرض إلا بعقد الصلة الحية الواصلة بين القلب البشري والله. ولا ضمان لإقامة الحق والعدل إلا بالتقاء البشر كلهم عند خالقهم، ومن ثم استشعار الرابطة الإنسانية الحقيقية التي تربط الجميع، لأن الصلة الدائمة بالله الواحد الأحد وتوحيده وعبادته تقوي الناحية الروحية في الإنسان، وتطلق فيه طاقات روحية هـائلة تؤثر في جميع وظائف الإنسان البدنية والنفسية. ويمكن أن نستدل على مدى تأثير القوة الروحية في البدن مما روته كتب الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه كان يواصل صيامه ولكنه كان ينهى أصحابه عن الوصال.
( عائشة رضي الله عنها ، قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل! قال: إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقين ) >[2] .
ويقول
ابن قيم الجوزية في تعليقه على هـذا الحديث:.. ومعلوم أن هـذا الطعام والشراب ليس هـو الطعام الذي يأكله الإنسان بفمه وإلا، لم يكن مواصلا ولم يتحقق الفرق، بل لم يكن صائما... وأيضا، فإنه فرق بينه وبينهم في نفس الوصال، وأنه يقدر منه على مالا يقدرون عليه، فلو كان يأكل ويشرب بفمه لم يقل: «لست كهيئتكم»
>[3] .
ويفهم من هـذا الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتلقى من الله تعالى غذاء روحيا يمده بقوة تجعله يتحمل الجوع والعطش بضعة أيام، دون أن يضعف جسمه أو يمرض. وفي هـذا دليل واضح على تأثير القوة الروحية في البدن.
[ ص: 104 ] إن الوظيفة الكبرى للروح هـي الاتصال بالله في كل لحظة، ولكن رحمة الله واسعة لا يريد البشر على المستحيل، وهو يعلم أن إطلاق الطاقة الروحية الدائمة الكاملة بالنسبة إلى البشر مستحيلة، فقبضة الطين ثقيلة، ودفعة الشهوة لها قوة، والمادة لها ضغطات ثقيلة.
( فعن حنظلة الأسيدي، رضي الله عنه ، قال: ... فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما ذاك»؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ) .. ثلاث مرات»
>[4] .. وفي هـذا إشارة إلى أن التقرب إلى الله والصلة الدائمة به تحدث في الإنسان حالة من الصفاء والشفافية وتحرر طاقته الروحية من القيود البدنية والمادية.
لكن من أين يبدأ الإنسان بإصلاح نفسه؟
( عن النعمان بن بشير رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) >[5] .
[ ص: 105 ] ويفيد هـذا الحديث أن إصلاح الإنسان يبدأ بإصلاح النفس من داخلها، وهو القلب، وذلك عن طريق الاتصال بالله والتقرب إليه، فإذا صلح قلب الإنسان وامتلأ بالإيمان بربه صلح الإنسان، واستقام سلوكه، وحسن خلقه، وأصبح إنسانا سويا متكامل الشخصية.
من هـنا نفهم أن الصحة النفسية تعتمد أساسا على الالتزام بفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، وهي عقيدة التوحيد، والاتصال الدائم بالله، واتباع المنهج الذي وضعه للإنسان في الحياة.
فما دام قلب الإنسان على الفطرة السليمة المكملة بالشريعة المنـزلة يكون الإنسان سويا متمتعا بالصحة النفسية.
( فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا >[6] لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هـواه ) >[7] .
فالإنسان السوي المتمتع بالصحة النفسية هـو الإنسان ذو القلب الأبيض السليم الذي لم تؤثر فيه الفتن، أما الإنسان المريض نفسيا فهو ذو القلب الأسود الذي أثرت فيه الفتن ومالت به عن الفطرة السليمة.
[ ص: 106 ] إن الاتصال بالله سبحانه يؤدي إلى الاستقامة في السلوك، وفيه وقاية وعلاج من الانحراف والمرض النفسي.
( فعن أبي هـريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ) >[8] .
وهكذا فالاتصال بالله، بأداء الواجبات، يجعل الإنسان يفوز بحبه ورضاه سبحانه، وإذا أحب الله تعالى عبدا أحاطه بعنايته ورعايته وكان عونا له في جميع أموره.
( فعن أبي هـريرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ) >[9] .
إذا كان الأمر كذلك، فإن العبد لا يخشى إلا الله وحده، ولا يسـأل إلا الله وحده، كما يتضح من توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم
لابن عباس رضي الله عنهما ، حيث
( قال: يا غلام: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك [ ص: 107 ] احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعـت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعـوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) >[10] .
فالمنهج الإسلامي منهج عبادة، حيث يجعل الإسلام هـذه العبادة هـي القاعدة الكبرى، التي يستمد منها نظام الحياة كله.
والفرد في خلوته، والناس في جمعهم، في وقت العمل وفي وقت التعامل في تجارة أو صناعة أو حرب أو سلم، وفي وقت المودة والخصومة، وفي كل لحظة من هـذه اللحظات، يربي الإسلام الفرد على أن تكون صلته بالله، وتعامله مع الله، وخشيته من الله، وحبه لله، ورجوعه إلى منهج الله، لأن ذلك هـو أصل الخير كله
>[11] . يشير إلى ذلك حديث
صهيب بن سنان الرومي النمري رضي الله عنه ، قال:
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) >[12] .
هـذه هـي العبادة في مفهوم الإسلام؛ وهذه هـي عملية اتصال الروح بالخالق، وهو محور العقيدة الإسلامية كلها ومحور منهجها التربوي كله، ومنه تتفرع التشريعات كلها.
[ ص: 108 ] وبإدراك هـذه الحقيقة، يمكننا الحصول على النتائج العملية الآتية، على مستوى الاعتقاد والممارسة:
1- التسليم بأن الله وحده صاحب القوة والحول، وصاحب الجبروت والسلطان، فلا يتطلع الناس لأحد غيره، ولا يتعبدون لأحد سواه، ومن ثم تتحرر قلوبهم وأرواحهم وينطلقون خفافا إلى الله.
2- الاهتداء بهدى الله، والسير على منهجه، والإعراض عن اتباع نهج آخر أو الخضوع لقوة أخرى من قوى الأرض، لأنها كلها ضعيفة هـزيلة، كلها ضائعة مضيعة، كلها زائلة فانية، والقوة الحقيقية هـي قوة الله، والسلطان الحقيقي سلطانه، والمنهج الصحيح منهجه، ومن ثم تصلح نفوسهم وتصلح حياتهم على الأرض.
3- إحساس المسلمين بقوتهم إزاء كل قوى الأرض، لأن قوتهم يستمدونها من قوة الله، فإذا هـم قوة فاعلة موجهة مريدة، قوة تبني وتنشئ وتعمر وتستغل ما سخر لها من الأرض، فلا يقعدها العجز ولا تضعف بها الوسيلة، وإنما تظل تحاول حتى تصل، مستمدة عزيمتها من الله.
4- الإحساس بأن الله هـو المنشئ وإليه المصير كلهم نشأوا من قدرته القادرة وكلهم صائر إليه ومن ثم يتطلعون إليه وحده في كل أمر ولا يلجأون إلى أحد سواه.
5- الإحساس بالمشاركة في الإنسانية، فهم جميعا قد صدروا عن إرادة الله، ثم هـم جميعا خلقوا من نفس واحدة، ومن ثم تصلح نفوس بعضهم تجاه
[ ص: 109 ] بعض، وتقوم بينهم أواصر للإنسانية والتعاون والمحبة، ولا يقوم بينهم النـزاع والشقاق.
ويمكن أن يطرح سؤال هـنا مفاده: أنه إذا كان الاتصال بالله، وهو العقيدة الإسلامية نفسها، التي هـي الأساس المكين الذي ترتكز عليه فروع هـذا الدين كله، فما علاقة هـذه العقيدة بالشريعة؟