1 - معرفة الله تعالى
دون الدخول في عمق التفاصيل الفكرية, يمكن أن نقترب من تبسيط هـذه المعرفة كي نعي قيمتها وأثرها في العقل والوجدان الإنساني, وتأثيرها في إعادة بناء شخصية الإنسان.
تستلزم معرفة الله عز شأنه التفكر في مصدر الوجود أولا ثم معرفة الهدف من خلق الإنسان ثانيا.
أ- التفكر في مصدر الوجود
إن أي إنسان سـوي الفطرة يدرك بعقله أنه لم يأت من العدم, كما يدرك بوجدانه أنه لم يوجد نفسه في هـذا العالم أو وجده صدفة, وأنه لا بد من خالق خلقه وخلق الكون من حوله؛ وفي القرآن الكريم دعوة مستمرة للتفكر في مصدر الوجود,
يقول تعالى:
( وفي الأرض آيات [ ص: 35 ] للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) (الذاريات:20-21) وبسط لقضية المعرفة بالله والإيمان بوحدانيته من خلال عرض لمظاهر الحياة بكل ما فيها من حيوية واستمرار وقوة,
يقول تعالى:
( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) (البقرة:164) ,
ويقول في آية أخرى:
( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) (الأنعام:95-99) .
وتمثل هـذه الآيات نموذجا لكثير من الخطاب القرآني الذي يدعو العقل الإنساني إلى التفكر والتدبر والتعقل لكل ما في الكون من ظواهر
[ ص: 36 ] وموجودات تتحرك وتتجدد, وتقدم مادة حية مستمرة تنبئ عن الخالق الأعظم الذي خلقها وأوجدها, وتؤكد أن العلم وطريقه يوصلان الإنسان إلى اكتشاف الخالق ومعرفته من خلال اكتشـاف خلقه في الكون. وإذا لم تسم العلوم الكونية والمادية بالإنسان في مدارج الإنسانية الحقة, وترفعه إلى درجات المعرفة بالله تعالى والتيقن بجلاله وعظمته, وتبصره بتجلياته سبحانه في الكون والنفس تصبح عبثا يفسد حياة الطمأنينة والسلام, وعبئا يهوي بالبشـرية إلى مراتـب حياة البهيمة والأنعام,
يقول تعالى:
( ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ... ) (التين:5-6) ,
ليعيش الإنسان في ظلمات الظلم والجهل, يقـول تعالى عن هـذا الإنسان:
( ... إنه كان ظلوما جهولا ) (الأحزاب:72) .
وكلما ازداد علما ومعرفة وتبصرا كلما ازدادت معرفته بالله وخشيته منه وامتثاله لأوامره,
يقول تعالى:
( ... إنما يخشى الله من عباده العلماء ... ) (فاطر:28) ،
إلا الذين لا يريدون الهداية, فيصبحون كما أخبر عنهم عز وجل :
( ... لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هـم أضل ... ) (الأعراف:179) ؛
لأن العلم وخاصة الذي تمتد جذوره في عمق الحياة يكتشف الصلة بين الكون وما يوجد فيه من خلق وبين الله تعالى، ويصل إلى المعرفة الحقة به تعالى، والله تعالى جعل في كل شيء دليلا عليه ما على الإنسان إلا اكتشافه.
[ ص: 37 ] وإحصاء أولي للآيات، التي تعرف الله من خلال كونه وخلقه، تدفع الإنسان إلى تمثل دلالات
( اقرأ ) التي فصلت بين العلم وبين الجهل والخرافة, بين الجمود والاتباع وبين التطوير والإبداع.
والناظر لحال الأمة يدرك أنها ابتعدت منذ قرون عن هـذه الدعوة الربانية لفعل القراءة, وممارستها علما ومعرفة وسلوكا إيمانيا بالخالق العليم، وأن حقيقة الدعوات المتكررة في القرآن الكريم للنظر في الكون والإنسان والآفاق والتاريخ لم تعد تنبض في وجداننا وعقولنا قوية حية تحرك سلوكياتنا وتتجه بنا نحو تربية الجناحين، اللتين طارتا بهما الحضارة الإسلامية نحو قيادة البشرية، وهما جناح العلم وجناح العمل الصالح. وطبيعي أن تقبل هـذا المفهوم يحتاج إلى وعي إنساني عميق للكون والطبيعة، وفهم عقائدي لكيفية سير الحوادث والوقائع على مسرح الحياة للتعرف على أثر القوة والإرادة الإلهية في هـذا العالم.
من هـنا كان تفعيل الإيمان في حياة كل مسلم قضية أساسية, تخرج الدين من كونه مسألة شخصية محدودة، إلى اعتباره منهجا متكاملا يتغلغل في نسيج الممارسات الإنسانية المتعددة، فتصبح مدار حياة الإنسان لا تخرج عن دائرة قوله صلى الله عليه وسلم :
( ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان: من كان يحب المرء لا يحبه إلا لله؛ ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر [ ص: 38 ] بعد أن أنقذه الله منه ) >[1] . وهذا الطعم الإيماني ينبع عنه سلوك عملي وأخلاقي يتميز به المسلم عن غيره. ولن يتم تذوقه وتفعيله إلا بالحب الرباني, وربطه بأصل الانبعاث الإسلامي في قوله صلى الله عليه وسلم :
( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ) ، وبالاستجابة لعوامل الإحياء،
يقول تعالى:
( ... استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ... ) (الأنفال:24) .
والاستجابة للحياة الصحيحة المستقيمة تقوى أو تفتر أو تضمحل حسـب سعة التعرف إلى الله تعالى أو ضيقه. وقد تكون هـذه المعرفة فطرية، لكنها تنمو بالتربية والتوجيه، ومجاهدة النفس على التخلق بأخلاق الإسلام. وبدون تفعيل الإيمان الحق في حياة الأمة لينسحب على واقعها فإنها تجنح عن الصواب، ولن يفيدها آنذاك أي نظام أو غيره لتغييرها.
ومن شأن هـذه المعرفة أن تساهم في بناء شخصية مؤمنة بالله عز وجل ، مرتبطة به في كل شأن من شئونها؛ لأنها تعي وتدرك أن كل شيء بيد الله، يتصرف فيه كيفما يشاء، فهو القوي القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير الذي يتصرف في كونه وخلقه من خلال سنن وقوانين تضبط التوازن في حركة الوجود، وهو الرب الرحمن الرحيم الكريم المحسن المشع بالأمن والأمان مهما تخبط الإنسان في مزالق الفوضى أو ابتلاءات الحياة، فيقف أمامها في هـدوء عقلي وسكينة نفسية؛ لأنه يوقن أن كل
[ ص: 39 ] شيء خاضع للتخطيط الإلهي:
( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) (القمر:49) ،
وأن هـذه الشخصية مدعوة لأداء مهمتها في الحياة حسب المنهاج الذي ارتضاه ربها لها. ومن ثم تكون معرفة الله تعالى وتوحيده قاعدة البناء العقائدي والفكري للتصور الإسلامي، يرسو عليه فهم خاص لكل العبادات، ومن ضمنها الدعاء.
كما تكون معرفته سبحانه مفتاح الحب الإلهي. وتجربة الحب الإلهي تجربة إنسانية رائعة، لا يذوق لذتها ومتعتها ولا يدرك أبعادها ويعي مضامينها سوى من توصل حقا لمعرفة الله، وعاش مشاعر الاستغراق والشوق الإلهي العميق، وانطلقت ذاته من أسوار أنانيتها وغرورها وجحـودها، تبحث عن مرسى مفعم بالأمن والطمأنينة، تحقق فيه حالات الحضور والانشراح بذكر الله والثناء عليه وتعظيمه ودعائه ومناجاته، وتتطلع إلى التنعم بظل الله تعالى،
( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) >[2] ،
( ويقول: صلى الله عليه وسلم «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) >[3] . فمن يعرف الله تعالى تتجلى أمامه عظمة صفاته، وجمال تجلياته في الكون، فيبدأ عقله ووجدانه يتذوق
[ ص: 40 ] حـلاوة القرب والمعية، ويعـيش العـلاقة الطبيعـية الصحيحة مع خـالقه،
يقول تعالى:
( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) (البقرة:152) ؛
حب متبادل بين الإنسان وربه، وذكر مستمر للنعم التي متعه بها خالقه.
ب- الهدف من خلق الإنسان
يؤكد الله عز وجل أن الهدف من الوجود الإنساني هـو العبادة، بمفهومها الشامل للحياة, ولمختلف النشاط الذي يستغرق هـذه الحياة,
يقول تعالى:
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) ،
وهو كذلك مفهوم قوله جل شأنه:
( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ... ) (البينة:5)
وواضح منطوق قوله تعالى:
( ... إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ... ) (يوسف:40)
والعبادة، كما يقول
ابن تيمية , اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، وهو الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة
>[4] . والمسلم مدعو إلى تجديد ميثاق العبودية لله مرات عديدة في اليوم, وذلك في بداية كل صلاة:
( إياك نعبد وإياك نستعين ) , فلا عـبادة إلا لله ولا استعانة إلا به سبحانه, والعبادة هـنا
[ ص: 41 ] بمعنى العبودية المطـلقة لله, المتعـالية والمستغنية عن كل ما سواه, كي يصل الإنسان إلى مطـلق التحرر من كل العبوديات، مهما كانت، ويمارس حقيقة الاستخلاف, يقول تعالى مبينا طبيعة وجود هـذا الإنسان في الأرض:
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ... ) (البقرة:30) .
والخلافة تسـتلزم ألوانا من النشـاط الحيوي والمستـمر في عمارة الأرض, واستـكشاف قواها وطاقاتها من أجل استخدامها في تنمية أسـاليب الحياة وترقيتـها وتطويرها لخدمة الإنسان المستخلف فيها «ومن ثم يتجـلى أن معنى العـبادة، التي هـي غاية الوجود الإنساني أو التي هـي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر، وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا، وأن حقيقة العبادة تتمثل في أمرين رئيسيين:
الأول: هـو استقرار معنى العبودية لله في النفس، أي: استقرار الشعور على أن هـناك عبدا وربا، عبدا يعبد وربا يعبد، وأن ليس وراء ذلك شيء، وأن ليس هـناك إلا هـذا الوضع وهذا الاعتبار، رب واحد والكل له عبيد. والثانى: هـو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وبكل حركة في الجوارح وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله»
>[5] .
[ ص: 42 ] وحين يدرك الإنسـان معنى العبودية يعي عن تبصر أن الله تعالى، كما أخبر عن نفس
( ... بيده ملكوت كل شيء ... ) (المؤمنون:88)
وبذلك يصـبح الإيمان قوة عظمى يستعلي بها المؤمن على كل قوى الأرض، وكل شهوات الدنيا، لا يتطلع لأحـد غيره، ولا يتعـبد لأحد سواه, فلا يخـاف إلا من الله، ولا يذل إلا لله، ولا يطلب إلا من الله، ولا يأمل إلا في الله، ولا يتـوكل إلا على الله، ويتحرر قلبه وروحه من كل أشكال وأنواع العبوديات.
هذه الصلة العميقة والواعية، التي تنشأ بين الإنسان وبين ربه تجعله يتطلع خفافا إليه تعالى ويستشعر وجوده معه في كل لحظة من لحظات حياته, فيسعى إلى اكتشاف حقائق المعرفة الربانية وتجلية عظمة الصفات وجمال الذات الإلهية, وتمتلئ النفس بحقيقة وجوده تعالى, وتتطلع إلى تذوق لذة قربه في كل لحظة من لحظات حياتها:
( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هـذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) (آل عمران:191) ,
ويصبح ذكر المؤمن ودعاؤه تعبيرا صادقا عن ارتباطه وتعلقه بمولاه سبحانه وشوقه إليه, كما يصبح دليل الافتقار إليه تعالى دليل رجوع وتوبة يتيحها الله لعبده كلما زاغ عن جادة الصواب, أو ابتعد عن المنهج القويم:
( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هـم مبصرون ) (الأعراف:201) .
[ ص: 43 ] وإذا بلغ الإنسان درجة التبصر والإقرار بأن الله خالق كل شيء ومالكه, وتجاوز الدعاء اللفظ واللسان, وتناغم الوجدان مع دلالات الكلمات أدرك أن العزة منه سبحانه والذل من سواه, وأن انشغاله بهموم الدنيا وصغائرها، مهما عظمت في عينيه, وتألمه من أجلها تفاهة وصغار، وأدرك أن التربية الربانية تحد من استعلاء العبد وطغيانه.
من هـنا ندرك أهمية ابتعاد الإنسان, بين الحين والآخر عن صخب الحياة ومشكلاتها للاختلاء بالله عز وجل , من أجل التأمل المثمر في ملكوته وملكه, وحمد نعمه, والغوص في أعماق النفس وتنظيم خلجاتها, والتفكير الهادئ في تجاربه الحياتية, وإعادة تقييم مواقفه وأفكاره وسلوكياته, والاستغفار منه تعالى عن ذنوبه وأخطائه, والاستعانة به من أجل شحن النفس بطاقات إيجابية تحفزها على الانطلاق في طريق الاستقامة والخير والحق والعدل, بدل التقوقع في السلبية والانهزامية, وتثبيت منظومة القيم والأخلاقيات, وتحويلها إلى ممارسات سلوكية, وعبادات حية, بدل التشتت والعادات الجامدة والشعارات الفارغة.
هذا التوقف، لا يعني الابتعاد عن الممارسة الحياتية، وإنما يعني مداومة استصحاب الله عز وجل كل حين, خاصة إذا وعى الإنسان جيدا أن أي عمل يقوم به، مهما كان، إذا ابتغى به وجه الله فهو عبادة, الأمر الذي يؤكد أن المؤمن لا يقف عند الحد التعبدي, وإنما تترشح منه آثار أخلاقية
[ ص: 44 ] تساهم في تصحيح مساره, واقتلاع جذور الفساد الأخلاقي من أعماقه، فيصبح آنذاك يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه سبحانه يراه.
و «إحساس المسلم أن الله بكل شيء محيط، وبكل شيء بصير, وعلى كل شيء شهيد, وأنه يجير ولا يجار عليه, ويحكم فلا معقب لحكمه..إلخ، هـذا الإحساس يترك أثره على قوله وفعله, وجده وهزله, ورضاه وغضبه, أو بإيجاز يخط له خطا واضحا في شئون الحياة كلها»
>[6] ، وبذلك يكون الإيمان «قدرة على الحياة في جميع دروبها, قدرة علمية ومادية يصحبها تطويع كل شيء لإرضاء الله وابتغاء وجهه»
>[7]