3 - التغيير والتجديد
إن عمليات التجديد والتغيير نسيج متلاحم في طبيعة الفكر الإنساني, انبثقت عن فطرة الإنسان من أجل معايشة الواقع البشري وتحسينه والارتقاء به. لذلك شغلت قضية التغيير العقل المسلم منذ وقت مبكر في تاريخ الفكر الإسلامي, واستخدمت مصطلحات متعددة للتعبير عن دلالاته، كالتجديد والإحياء، والبعث، والإصلاح، والتحديث، وغيرها، لتدل على المفهوم نفسه، أو على مفاهيم قريبة منه. فهو ضرورة حضارية لارتباطها بآليات التفكير والتصور في إعادة بناء الأمة حضاريا ومراجعة مناهج تفكيرها وأدائها، وقضية مشروعة وردت بالنص في القرآن الكريم والسنة النبوية للتطلع نحو واقع أفضل وأحسن, والسعي من أجل تربية النفس وتهذيب غرائزها وتوجيهها نحو الرقي والسمو,
يقول تعالى:
( ... إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ... ) (الرعد:11) .
وإذا كان
الطبري ، رحمه الله، وغيره من المفسرين القدامى الذين فسروا هـذه الآية قد قالوا: « إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض, فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره» فإنه يمكن القول أيضا: بأن الله لا يغير ما بقوم من فتن وتمزق وهبوط وتخلف فيزيل ذلك عنهم وينقذهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من
[ ص: 53 ] " أمراض ورذائل, ويكدحوا إلى ربهم كدحا, حينئذ يحل بهم نصره وعزه وتغييره،
يقول تعالى مخبرا عن الطريق إلى النصر:
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) (البقرة:214) ..
فالنصر والنجاح في أي أمر من الأمور, لا يأتي بشكل عفوي, وإنما له طريق, تمتحن فيه الأمة عن مدى ثباتها وصمودها وإرادتها على تغيير الخلل الذي بداخلها
( ... ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (الحج:40) .
والتجديد «ظاهرة تاريخية دورية تبرز كلما اعترى المسلمين ذبول في دوافع الإيمان، وخمول في الفكر، وجمود في الحركة، واستفزهم التحدي الخارجي»
>[1] . وقراءة متأنية لنصوصنا الشرعية تجد مشروعية التجديد فيها, من مثل قوله صلى الله عليه وسلم يؤصل للتجديد , ويخبر عن كونه سنة ربانية:
( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) >[2] . وهذا يعني العمل على زحزحة العقل المسلم من حالة الاجترار والتكرار والسكون إلى حالات التحدي والابتكار والحركة.
[ ص: 54 ] والدعوة التجديدية يجب أن تمس عمق الظواهر والأشياء, وعدم الاكتفاء بالتجديد الظاهري المادي, يقول
مالك بن نبي ، رحمه الله: «فمنذ قرون مضت, كان الفكر الإسـلامي عاجزا عن إدراك حقيقة الظواهر, فلم يكن يرى منها سوى قشرتها، وأصبح عاجزا عن فهم القرآن, فاكتفى باستظهاره, حتى إذا انهالت منتجات الحضارة الأوروبية على بلاده اكتفى بمعرفة فائدتها إجمالا, دون أن يفكر في نقدها؛ وإذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال فإن قيم هـذه الأشياء قابلة للمناقشة, وجدنا المسلم لا يكترث بمعرفة كيف يتم إبداع الأشياء, بل قنع بمعرفة طرق الحصول عليها. هـكذا كانت المرحلة الأولى من مراحل تجديد العالم الإسلامي، مرحلة تقتني أشكالا دون أن تلم بروحها، فأدى هـذا الوضع إلى تطور في الكم زاد في كمية الحاجات دون أن يعمل على زيادة وسائل إشباعها, فانتشر الغرام بكل ما هـو (مستحدث) في جميع طبقات المجتمع»
>[3] .
يقول
طه عبد الرحمن : «فإن حق للمسلم أن يتعجل التجدد الحضاري , فلا يحق له أن يطلب إليه سبيلا ماديا حتى يمحص منطلقاته وينظر في مآلاته ويطمئن اطمئنانا على مشروعية المنطلقات وسلامة المآلات.. ولما فاته جانب التمحيص لسبل التقدم المادية المنقولة عن الغرب، سارع إلى الأخذ بها من غير أن يتزود بنصيب من الطاقة الروحية والقدرة الخلقية يكون كافيا لأن يدفع عن هـذه السبيل أسباب البطلان التي تدخل عليها إن بقيت مجردة عن التزكية المعنوية»
>[4] .
[ ص: 55 ] فالمقصود تجدد النفس من أجل الاستجابة الملائمة لمختلف التحديات, ولعوامل النهضة والرقي, وتجدد فهمنا لمختلف ما يدور حولنا, وتعميق رؤيتنا له.
وللتجديد والتغيير دلالات أخرى كالإحياء,
يقول تعالى:
( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ) (الحديد:16-17) ..
«فالإحياء واجب تدين موصول, إذ لا يكاد يتحول ظرف أو يجري زمن إلا انطوى على ابتلاء للإيمان يستوجب تجديده إزاء الموقف الجديد»
>[5] .
وهذه الرؤية الإسلامية الشمولية لمفهوم التجديد والتغيير, بالإضافة إلى واقعيتها, فإن لها نفسا مستقبليا؛ لأن الإنسان يميل بفطرته إلى التطلع إلى المستقبل, وتعليق الآمال عليه, فيعمل على تحسين واقعه وحاضره من أجل مستقبل أفضل. وبما أن المستقبل في الإسلام له بعدان: بعد دنيوي
[ ص: 56 ] وبعد أخروي, فإن المسلم يعي أن الحياة الدنيا ليست سوى كتاب ضخم عليه قراءته
( اقرأ ) وتخطي صفحاته, من أجل سببين اثنين: أحدهما حضاري وهو تسخير الدنيا لإعلاء كلمة الله وخدمة قيم الدين ومثله وأهدافه, وثانيهما شخصي للانتقال إلى حياة سرمدية أخرى, وبذلك يكون مسئولا عن مستقبله ومدعوا لتفجير طاقاته وقدراته من أجله, ومطالبا بالسعي في دنياه إصلاحا وإعمارا, للوصول إلى مستقبل أخروي وعده الله به.
ولأن الحياة لا يمكن أن تسير على نمط واحد, فلا بد من تغيير وتجديد في مختلف الميادين الحياتية لتحقيق الرخاء والأمن والصلاح:
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (آل عمران:104) .
كما لا بد من انفتاح مثمر على المحيط العالمي والواقع البشري من أجل الاستفادة والتواصل والتبليغ:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13) .
وفقه الواقع وإدراك شروطه، الذي تتحرك فيه حركات التغيير, وتحسينه والانطلاق منه, باكتشاف سنن المداولة والمدافعة, ووعيها واستفراغ الوسع في الأخذ بأسبابـها، أمر أساس في التغيير والإصلاح,
[ ص: 57 ] إذ إنه (أي فقه الواقع) «لا يتحصل إلا بتوفر مجموعة من الاختصاصات في شعب المعرفة, تحقق التكامل والعقل الجماعي, حتى إننا لنعتقد أن الفقه الصحيح للنص في الكتاب والسنة, يقتضي فهم الواقع، محل النص، في ضوء الاستطاعات المتوفرة.. وفي تقديرنا أن هـذه هـي المعادلة المطلوبة اليوم لقضية الاجتهاد, حتى يسترد العقل عافيته, والاجتهاد دوره, والوحي مرجعيته, ويقوم الواقع بقيم الدين, فهما وتنـزيلا»
>[6] .
وأي حركة تغييرية تستلزم بناء داخليا واضحا ومتينا؛ لأن الواقع الخارجي ما هـو إلا انعكاس للتكوين والمرجعية، فبقدر ما تكون الحركة متماسكة داخليا وواضحة في رؤاها وتصوراتها بقدر ما تستطيع تحقيق أهدافها داخل المجتمع. والبناء قد يبدأ من الفرد الواحد الذي يمكن بصلاحه ومتانة أدواتـه أن يمثل نواة لمجتمع جديد، كما يخبر بذلك سبحانه عندما يطلق على
إبراهيم ، عليه السلام ، كلمة
( أمة ) في قوله:
( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله ... ) (النحل:120) .
فالإنسان مدار أي حركة تغيرية ومحورها، توكل إليه مهمة التغيير والبناء والتجديد وتحقيق الخلافة على هـذه الأرض، وتلفت نظره إلى
[ ص: 58 ] الكدح وكيفيات التعامل مع الكون والحياة واستغلال الأرض بالاستفادة من عنصري الزمن لإنتاج الحضارة وعمارة الأرض حملا لأمانة الاستخلاف وتحقيقا للعبودية التي خلق لأجلها.
من هـنا ينبغي أن تتكامل في شخصية المسلم كل الأبعاد الأخلاقية والمعرفية والسلوكية والاجتماعية والثقافية والتربوية والإنجازية, كي يستطيع كسب استراتيجية الإحسان إلى المجتمع والتعامل معه بالحسنى وحمله على التغيير عن وعي ورشد؛ لأن القاعدة القرآنية كما يرى
د.يوسف القرضاوي تقول: غير نفسك أو غير ما بنفسك يتغير التاريخ.
يقول تعالى:
( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) (الانشقاق:6)
فالكدح في هـذه الحياة,كيفما كانت درجته أو طبيعته, من سنن الله, ولا مناص لأي إنسان عنه حتى يصل إلى نهايته وهي لقاء الله عز وجل . وفي خضم الكدح, تنبت عمليات التغيير داخل الإنسان, فإذا كان التغيير واعيا ومسئولا, فهو ارتقاء نحو إثبات الاستخلاف الإنسـاني في الأرض, وإن كان غير ذلك كان إما استـكبارا وطغيانا, أو تخلفا وهوانا.
وليس المقصود بالتجـديد والتغيير هـدم ما كان, وإنما الانطلاق مما سبق لتصحيحه وتقويمه, إعادة بناء ما اندثر من معالم الصلاح فيه, ومتابعة البناء فوق كل ذلك. وهذه مسئولية كل فرد من أفراد المجتمعات
[ ص: 59 ] الإسلامية, وخاصة حين نعلم بأن هـذه المسئولية لم تغب عن هـذه المجتمعات إلا في العصور المتأخرة بعد أن نشب التخلف وما جر من تواكل وتقاعس ولا مبالاة.
وربما كان هـذا الخـلل الخطـير ناجما عن فقدان الروح الجماعية, أو على الأقل اضمحلالها في النفوس.. «فطول الهوان الذي أصاب الأمة, أصبح كل واحد منا يعيش في برجه أو يعيش في هـمه. ولم يعد الحس الإسلامي حسا جماهيريا, ولذلك ينبغي -حلا للمشكلة- إيقاظ العامة؛ لأن جماهير الأمة هـم درع الإسلام وقوته.. لا بد أن نحرك الأمة بجميع أفرادها إلى هـذا المعنى, إلى استشعار قضاياها.. وهذا أمر هـام جدا.. لكن من المؤسف أن نجد المتحدثين والمتـكلمين يتحدثون عن قضايا جزئية, ولا يربطون الأمة بقضاياها الكلية والمصيرية»
>[7] , ويستنـزفون الطاقات المهدرة ويستهلكونها في التصفيق والصراخ والهتافات الساخنة أو الباردة. فبالرغم أنهم يستطيعون تجميع الناس واستثارة عواطفهم، إلا أن القلة القليلة منهم هـي القادرة على إعادة بنائهم وتشكيل عقولهم وصناعتها من جديد وتوظيف طاقاتهم، واستثمارها في البناء والعطاء, والاستفادة منها في سد احتياجات الأمة.
[ ص: 60 ] وبذلك نجد أن سواد المسلمين الراجعين إلى الله رغم تكاثرهم, وإعلان توبتهم, إلا أنهم ضلوا الطريق إليه سبحانه, فسلكوا إما طريق الانزواء والبعد عن الدنيا والجهل بها, أو سلكوا طريق العنف والتكفير. كما نجد ثلة من المخلصين الذين لا يجدون متنفسا لتطبيق تصورهم الإسلامي الصحيح في المجتمعات الإسلامية بسبب الهوة الواسعة بينهم وبين صانعي القرار في هـذه المجتمعات. ويعد كل هـذا من ضمن التحديات الكبيرة التي تواجهها الأمة, وأكبر عقبة في طريق نهوضها ورقيها.
ولا شك أن المنهج الرباني في التغيير والبناء الحضاري، وتطبيقات الأنبياء والمرسلين له, في التعامل مع الواقع، قد استوعب، ومر بالحالات كلها، التي يمكن أن تعرض لها المجتمعات البشرية بشكل عام، والإسلامية بشكل خاص، نهوضا وسقوطا وحركة وركودا، وامتلك الحلول والإجابات الكاملة، لأصول المشكلات الإنسانية والاجتماعية، وكيفيات التعامل معها.
ويستوقفنا في هـذا المجال ممارسة نبوية فاعلة ضمن الممارسات الأخرى التي مارسها الرسل والأنبياء حققت التغيير والتجديد في واقعهم, يقول تعالى:
( إذ نادى من قبل فاستجبنا له ) ،
( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له ) ،
( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن [ ص: 61 ] لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ) ،
( وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ) .. إنها ممارسة الدعاء المخلص الصادر من القلب, إلى جانب السعي والكد, يحقق فضل الاستجابة من الله عز وجل
( فاستجبنا له ) ( ويقول تعالى في حديث قدسي: «وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) >[8] .
وإلى جانب تصحيح العقيدة وتغيير الأنفس هـناك العلم والعمل،
يقول تعالى:
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) (الحديد:25) .