الفصل الثاني
الدعوة إلى العامية
دعت طائفة من
المستشرقين ، والعرب، إلى إلغاء الفصحى وإحلال العامية محلها. وهذا يعنى أن تصبح العامية هـي اللغة التي نكتب بها، ونعلم بها، ونقرأ بها الأخبار..... إلخ. وتتحول الفصحى إلى الرف بوصفها لغة ميتة مثلها مثل السومرية واللاتينية...... إلخ.
وقامت دعواهم على حجج أهمها
>[1] :-
1- إن العربية الفصحى هـي سبب تخلف المصريين (والعرب) عن الابتكار والاختراع.
[ ص: 71 ]
2- إن في اللغة العربية الفصحى صعوبة بالغة، يضيع فيها الطالب سنوات طويلة في الدراسة. وسبب صعوبة الفصحى وسهولة العامية هـو تحلل العامية من نحو الفصحى وصرفها، وميلها إلى إطلاق القياس في الاشتقاق والتوسع فيه. ومن مظاهر صعوبة الفصحى (على زعمهم ) كثرة مترادفاتها وأضدادها والألفاظ الحوشية المهجورة فيها.
3- إن وجود فصحى وعامية في الوقت نفسه يؤدي إلى شيزوفرينيا (فصام) لغوية، فالإنسان يتكلم في حياته اليومية بلهجة عامية، ويستخدم في مخاطباته الرسمية شكلا لغويا آخر
>[2] .
4- استخدام الفصحى إلى جانب العامية من أسباب قلة الإقبال على المطالعة. ولأن مكانة العامية مرذولة فإنها تشجع الاستعمال السيء للغة كالشتم والسباب.
5- إن المتكلم بالفصحى غالبا ما يتجه إلى شكل الكلام، على حساب مضمونه. فلو تحدث بالعامية لانصرف ذهنه إلى المضمون فقط.
6- إن من شأن إلغاء الفصحى، والاكتفاء بالعامية، إشاعة السعادة بين الناطقين بتلك اللهجات العامية.
وقد رد على الحجج السالفة بردود أهمها:-
[ ص: 72 ]
1- إن الغرض من هـذه الدعوة برمتها هـو قطع العلاقة بين الشعب العربي من جهة، وقرآنه ودينه وتراثه من جهة أخرى. فتبني العامية سيجعـل الفصـحى، بمرور الزمـن، لغة غريبة عن النـاس لا يعرفها إلا المتخصصون، مثلها مثل اللاتينية واللغات التي يقتصر استخدامها على الطقوس الدينية. وسيضطر المسلم إلى قراءة قرآنه مترجما إلى العاميات الكثيرة التي تنتج عن هـجر الفصحى، وقل مثل ذلك في تراثه الديني والعلمي والفكري كله.
2- إن هـجر الفصحى، وتبني العامية من شأنه فصل الدول العربية الواحدة عن الأخرى. وقد قال الذين دعوا المصريين إلى تبني عاميتهم وهجر الفصحى ما خلاصته: إن تبني مصر للفصحى يجعلها من الدول العربية، وهي فرعونية.
والواقع أن هـذين الردين صحيحـان، ومما يؤكد الرد الثاني أن ما كان يوما لهجات للغة اللاتينية أصبح فيما بعد لغات منفصلة، وهي اللغات المسماة باللغات الرومانسية، كالفرنسية والإيطالية، الأسبانية، والبرتغالية
>[3] .....، حيث تتكلمها الآن قوميات مختلفة.
ونود أن نزيد على ما سبق ما يأتي:-
[ ص: 73 ]
1- يفترض الداعون إلى الأخـذ باللهجات أن اللهجة مفهوم سياسي - لغوي، فهي عندهم تشبه العملة: تبدأ وتنتهي بالحدود السياسية للدولة، وهي كتلة واحدة منسجمة في داخل تلك الحدود السياسية. وهذا الفهم للهجة سببه أمران:-
الأول: الجري وراء المقولات المشهورة، فنحن معتادون على ترديد كون هـذه اللهجة سورية وتلك عراقية، وثالثة سعودية، فنوحد بين اللهجة والكيان السياسي.
الثاني: تحقيق هـذا الفهم للمرامي البعيدة للداعين إلى الأخذ باللهجات. فانفصال اللهجات، وتكريس ذلك الانفصال، يمكن أن يحول هـذه اللهجات على المدى البعيد إلى لغات منفصلة، ومن ثم كيانات قومية منفصلة. ولنتذكر المثال اللاتيني الذي ذكرناه توا، ووصول أصحاب تلك اللهجات إلى قوميات مختلفة.
والواقع أن اللهجة ليست مفهوما لغويا - سياسيا وإنما هـي مفهوم لغوي -جغرافي- اجتماعي
>[4] . بعبارة أخرى، إذا ما عبر اليمني الحدود اليمنية ودخل إلى
الأراضي السعودية فهذا لا يعني، ضرورة، أنه سيواجه لهجة أخرى لمجرد وجود نقطة حدودية؛ لأن طريقة الناس في الكلام،
[ ص: 74 ]
ضمن اللغة الواحدة، لا تتبع الحدود السياسية. وما يؤكد كلامنا هـذا أن المناطق الحدودية تتكلم عادة لهجة واحدة، أو تتقارب فيها اللهجات تقاربا كبيرا. وهذا ما يحدث في الحدود السورية - العراقية، والحدود اليمينية - السعودية، وهكذا.
والمسألة الأخرى التي تضرب في الصميم هـي مبدأ التدرج Continuum، بعبارة أخرى: لا تستطيع، عادة، أن تقف على نقطة جغرافية معينة ثم تؤشر على اليمين إلى لهجة، وعلى اليسار إلى لهجة مختلفة كل الاختلاف عن اللهجة التي على يمينك. ففي الغالب نجد ظواهر لغوية كثيرة مشتركة بين لهجات عدة (كالإمالة، وقلب صوت إلى صوت آخر.... إلخ) . وهذا يعنى أننا لا نتعامل مع كيانات لغوية تستقل الواحدة عن الأخرى استقلالا كاملا.
ولا بد من التنبيه إلى أننا قد نجد لهجة ضمن دولة تقترب كثيرا من لهجة أخرى في دولة مجاورة أكثر من قربها من لهجة ثانية ضمن البلد الأول. مثال ذلك، تقترب لهجة البصرة، العراقية، من اللهجة الكويتية أكثر بكثير من اقترابها من لهجة الموصل، بالرغم من انتماء الموصل والبصـرة كلتيهما إلى الدولة العراقية. ومن هـنا يبـرز سـؤال خطير: ما اللهجة العراقية؟ هـل تتمثل في الموصل، أم الأنبار أم البصرة أم........؟ فإذا تبنينا العامية وقلنا: إن العاصمة هـي التى تمثل اللهجة العراقية، فعند
[ ص: 75 ] ذاك سنعود إلى النقطة نفسها: فرض لهجة العاصمة على بقية اللهجات التى قد تقترب، أو تبتعد عنها. فضلا عن أن لهجة العاصمة لا تمتلك ميزة على غيرها من اللهجات الموجودة ضمن ذلك الإقليم.
وقد أشرنا إلى أن اللهجة مفهوم جغرافي، لغوي، اجتماعي. والمقصود بالاجتماعي اختلاف المتكلمين باللهجة الواحدة. فالجاهل غير المثقف من حيث مفرداته، ونطقه، وتراكيبه، والصغير غير الكبير، والنساء غير الرجال.... وهكذا.
2- غالبا ما ينظر إلى وجود اللهجات العربية على أنه وصمة تنفرد بها العربية دون غيرها. والواقع أن وجود تنوع لهجي ضمن اللغة الواحدة يكاد يكون ملازما لها، وخاصة إذا اتسعت الرقعة الجغرافية لأصحاب اللغة الواحدة. يقول
تراسك TrasK في كتابه «أساسيات اللغة»
>[5] : «كل لغة محكية عبر امتداد كبير من الأرض تتجلى فيها التنوعات: كالإسبانية، والفرنسية، والإيطالية، والعربية، والصينية، وما شابه ذلك. وحتى لغة الباسك Basque، التي يتكلم بها أناس يقطنون إقليما طوله 100 ميل وعرضه 30 ميلا، يتجـلى فيها قدر هـائل من التنـوع قد يتجاوز كل ما نجده من تنوع في اللغة الإنجليزية.
[ ص: 76 ] وقال
جورج يول ، في كتابه «دراسة اللغة» إن لكل لغة أكثر من تنوع وخاصة في الطريقة التى يتم التكلم بها
>[6] «ثم ذكر مثالا من اللهجة الأسكتلندية، أشك أن يفهمه حتى أبناء إنكلترا أنفسهم، وهو
Ye dinnae Ken wit yer haverin" aboot
وهي بالإنجليزية الفصيحة
You don"t Know what you are talKing about
(وترجمته: أنت لا تعرف ما تتحدث عنه) . ويقول
كلوكسبيرغ ودانكس في كتابهما: «مدخل إلى علم النفس اللغوي التجريبي» ما نصه: «في بلد كبير مثل
الولايات المتحدة هـناك «إنجليزية فصيحة» وهي لهجة مثالية لا تدل لا على إقليم المتكلم ولا على طبقته.. وهي السائدة بين المذيعين ومقدمي البرامج التلفزيونية»
>[7] .
ويقول في الصفحة نفسها عن اللغة الألمانية ما خلاصته :إنك تفهم كلام الناس مادمت تسير من منطقة إلى منطقة مجاورة، ولكن إذا انتقلت إلى مسافة بعيدة، ضمن الأرض الألمانية فلن تستطيع الفهم.
[ ص: 77 ]
إن هـذا يعني أن الإنجليزية والفرنسية والألمانية... إلخ ليست مثل قالب الجبن، لا فرق بين أطرافه ووسطه، بل نجد التنوعات اللهجية التي نجدها في العربية.
ولا بد أن نتذكر أن كون اللغة ذات عمق حضاري كتابي (أي: التي يزخر تاريخها بالكتابات الأدبية والفلسفية... إلخ ) يجبرها على دفع ضريبة الفرق بين اللهجة التي تتكلم بها من جهة، ولغة الأدب والفكر والفلسفة من جهة أخرى.
على هـذا يمكن القول: بأن الإدعاء بأن العربية تنفرد بوجود مستويين من الكلام فيها: عامي وفصيح، ليس إلا إدعاء يلجأ إليه الداعون إلى العامية، ومنتقدو العربية عموما، وهو ما يمكن تسميته بـ «الإفراد الوهمي». وأقصد بذلك هـو تصويرهم للعربية وكأنها تنفرد بهذا العيب أو ذاك، ثم يقوم هـؤلاء ببناء عمارة من الاستنتاجات على أساس هـذا الإفراد الوهمي.
وهناك أسلوب آخر يتبعه المنتقدون للعربية (ويرتبط بالإفراد الوهمي) وهو ما يمكن تسميته بـ «تكديس الظواهر». وأقصد بذلك ذكر المنتقدين لظواهر متعددة وتقديمها على أنها نتيجة للعيب المشار إليه في العربية، مقيمين في ذلك رابطا وهميا بين الظواهر المكدسة من ناحية، وسببها المزعوم من ناحية أخرى، ضاربين بذلك عرض الحائط أسلوب البحث العلمي، وفلسفة العلم، وضرورة إثبات الرابطة السببية بالدليل القاطع.
[ ص: 78 ] فكثير من المنتقدين يشيرون إلى ما يظنونه عيبا تختص به العربية ثم يذكرون «النتائج الوخيمة» لذلك العيب، فيكدسون هـذه النتيجة وذلك المرض النفسي...إلخ على أنها من عواقب ذلك العيب. وفي هـذا تخل واضح عن أصول البحث العلمي والضوابط المنهجية. هـذه الثوابت والضوابط البحثية والعلمية هـي التي تمنعنا من القول: بأن الشمس غابت اليوم لأن جهاز الحاسوب عندي عاطل، أو لأن قلمي انكسر.....إلخ. وسنشير إلى أمثلة على تكديس الظواهر، وسوف تمر بنا في هـذا الكتاب أمثلة أخرى متعددة على هـذا الأسلوب.
فالقائل بأن وجود عامية وفصحى من أسباب قلة المطالعة لا يسأل نفسه سؤالا بسيطا: ألا يحتاج من يقرأ النص العامي (وهناك نصوص عامية مطبوعة، مثل الأشعار العامية) إلى تعلم قراءة العامية؟ وهل تنفصل قلة القراءة عن ارتفاع نسبة الأمية في البلدان العربية، بحيث إننا نجد بلدا متقدما مثل
مصر تصل نسبة الأمية فيه إلى 45 %؟ وهل تدني المستوى المعيشي للفرد عموما غير ذي علاقة بشراء الكتاب؟ وهل يقبل الناس على مطالعة النص العامي أكثر من إقبالهم على مطالعة النص الفصيح؟
أما الزعم بأن النظرة المتدنية إلى العامية تدعو المتكلمين بها إلى مسايرة تلك النظرة فيستخدمونها في السب والشتائم فهذا كلام غريب حقا. فالعامية تستخدم في الشتائم، كما تستخدم في الغزل (بدليل الأغاني
[ ص: 79 ] والأشعار) وتستخدم في البيع والشراء.. إلخ. كما تستعمل الفصحى في السب والشتم (بدليل قصائد الهجاء ) والغزل (بدليل القصائد الغزلية) والمعاملات (بدليل الرسائل التجارية) والدين.. إلخ. ومن ثم لا يسب الإنسان بالعامية انطلاقا من التقويم السائد للعامية. وليس أي منهما متخصصا في جانب أخلاقي دون غيره.
أما بعد العامية عن الفصحى في صرفها، فكلام خاطئ تماما. فالعامية بعيدة عن الفصحى في نحوها (وخاصة الإعراب) لا في صرفها ولا في مفرداتها. فالمفردات العامية، في حالات كثيرة جدا، مفردات فصيحة الأصل حرفت أو أهمل استعمالها. ففي العراق مثلا يقال: باك، يبوك، بواك، بنطق الكاف جيما قاهرية قاصدين بذلك: باق، يبوق، بواق، أي: سرق، يسرق، سراق. و «باق» كلمة فصيحة
>[8] , ولكنها غير مستعملة حاليا في العربية الفصيحة المعاصرة. مثلها مثل آلاف الكلمات الأخرى.
أما الصـرف فغريب حقا القول بابتعاده في العامية عن الفصحى. فبناء اسم الفاعل على وزن فاعل، واسم المفعول على وزن مفعول، والنسبة.. إلخ مما يعرفه أي بالغ ينطق بالعربية لغة له، ولا يحتاج إلى تعلم أو تدريب. فهل يحتاج العربي الذي يعرف أنك من مدينة اسمها طرابلس، مثلا، إلى دراسة علم الصرف كي ينسبك إلى تلك المدينة بقوله طرابلسي؟
[ ص: 80 ]
أما صعوبة الفصحى، وكون تلك الصعوبة سببا في الدعوة إلى هـجرانها واطراحها، فلا ينهض حجة على صحة الدعوى. فالحضارة الإنسانية لم تبن إلا بالجهد والعرق، ولم تبن بمنطق الكسالى والمتهاونين. فالرياضيات مصدر شكوى ملايين الطلاب في أرجاء العالم، لصعوبتها البالغة، فهل يكون هـذا مدعاة لتركها والاكتفاء بتوزيع الآلات الحاسبة على الطلاب وإلغاء درس الرياضيات ؟
صحيح أن الدرس النحوي صعب، ولكنه ليس صعبا في العربية فحسب، ولكنه صعب عموما؛ لأن النحو هـو، إلى حد ما، رياضيات اللغة. فها هـو
ديفد كرستل الأستاذ الإنجليزي يقول في «موسوعة كيمبرج للغة الإنجليزية»: «يعتقد الملايين أنهم فاشـلون في النحو، أو أنهم نسوه، أو ينكرون أية معرفة بالنحو على الإطلاق».. وقال قبل ذلك: «لقد أصبح النحو في أذهان الناس صعبا وبعيد المنال، منفصلا عن الحياة الواقعية، ولا تمارسه إلا طائفة من الأشباح الذين هـم النحاة....»
>[9] .
[ ص: 81 ]
أما أصحاب الثقافة الفرنسية الطاعنون في العربية فأنني أشك (ولا أقول أتحدى) أن يعرف أكثرهم الصيغ الأربعين المختلفة لفعل الكينونة الفرنسي être والصيغ الأربعين المختلفة لفعل التملك الفرنسي Avoir.
أما كثرة المترادفات فهذه ليست سبة، وإنما هـي خزين ومصدر غنى وخصوبة. فهذه المترادفات هـي التي توظفها العربية اليوم لمواجهة المفاهيم والأفكار والمخترعات الجديدة والمستحدثة بدلا من حشر الكلمات الأجنبية
>[10] . فهي ليست عبئا. وهي أفضل بكثير من لغة معلبة جاهزة تقتصر على عدد محدود من الألفاظ.
وغريب حقا أن يتحدث هـؤلاء عن ألفاظ غريبة وحوشية وكأنهم مطالبون بحفظ معجم «تاج العروس» عن ظهر قلب. ولا أدري ماذا يقصدون بوجود ألفاظ صعبة: هـل يتحدثون عن ألفاظ في الشعر الجاهلي مثلا؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن من واجبنا أن نسأل: أو ليس طبيعيا أن نواجه كلمات صعبة في شعر قيل قبل أكثر من 1500 سنة؟ وإذا كان القارئ ذو الثقافة المتوسطة يستطيع أن يفهم بعضا من شعر
طرفة أو
امرئ القيس ، فإن الإنجليزي غير المتخصص لا يكاد يفهم كلمة واحدة من أدب يبلغ بعده عنه نصف المسافة الزمنية لبعد الشعر الجاهلي عن العربي ابن القرن
[ ص: 82 ] العشرين. فالأدب الإنجليزي المكتوب في الفترة ما بين 1100-1500 للميلاد (وهو الذي كتب في عصر الإنجليزية الوسيطة) يستعصي على الفهم تماما؛ لأن الإنجليزي سيواجه اختلافا في الألفاظ، والأصوات والقواعد والكتابة
>[11] . هـذا كله عن أدب يبلغ متوسط بعده عن الإنجليزي المعـاصر 700 سنة. أما الإنجليزية القديمة، وهي التي تسبق الوسيطة، فأمرها أصعب.