مدخل تمهيدي
تكاثرت الصيحات وتنوعت، معلنة عن الجديد في كل آن وحين، وبأشكال مختلفة، دون مراعاة لواقع الأمة وتاريخها العريق، بل وجد من يتنصل من ذلك التاريخ كله بدعوى التجديد والمعاصرة! وتأتي أهمية البحث في تراث الأمـة على مدى سنوات عطاء أبنائها في الكشف عن نتاجاتهم المتنوعة، قصد إبرازها في ثوب جديد يساير العصر، ومحاولة الاستفادة منها في فهم المسائل الحضارية، والاستعانة في الوقت نفسه بأدوات البحث في الوقت الحاضر ولوازمه.
ويأتي هـذا البحث، محاولة لاستقراء نتاج أحد مفكري الأمة ومنظريها، الإمام أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي، رحمه الله، قصد الوقوف على نظرته وأدواته في فهم النصوص الشرعية، وهي أدوات مكنته من الإسـهام في تطوير أصـول علم قائم بذاتـه، وبنظرته تلك عدت جهوده فتحا جديدا في علم أصول الفقه الذي يمكن أن يسمى (علم الدلالة الشرعي) .
ويسعى البحث إلى الاستفادة من نظرته تلك في محاولة صياغة أسس ومبادئ تسهم في تحليل النصوص اللغوية للوقوف على مقاصدها وغاياتها. والحال أن الكل يتفق على أهمية إسهام المسلمين الأوائل في استجلاء
[ ص: 29 ] مدلولات النصوص اللـغوية، والوقوف على مقاصدها، وربطها بواقع حياتهم العملية.
لذلك، يحاول هـذا البحث الإجابة عن سؤال رئيس مفاده:
ما المبادئ اللغوية التي اعتمدها الشاطبي، رحمه الله، في تقديم اتجاهه المقصدي في أصول الفقه؟
وتتفرع عن هـذا السؤال أسئلة أخرى هـي:
1- كيف نظر الشاطبي، رحمه الله، إلى اللغة؟ وكيف تعامل معها في دراسته الأصولية؟
2- ما أثر نظرته للغة في نظريته المقصدية؟ وما أثر نظرته المقصدية في تشكيل فكره اللغوي؟
3- كيف يمكن استثمار الفكر اللغوي لدى الشاطبي، رحمه الله، في دراسة اللغة العربية، وتحليل نصوصها والوقوف على مقاصدها، وأهدافها؟
وتكمن أهمية هـذا البحث في أنه استقصاء لنـتاج أحد مفكري الأمة ومنظريها، بقصد الوقوف على الجانب المعرفي اللغوي له، وإبراز أفكاره اللغوية في قراءة النصوص اللغوية، قراءة توقفنا على غاياتها ومقاصدها. وتطبيق هـذه الآراء في إجراء التحليل اللغوي المقصدي للنصوص.
وتعد معرفة جهود الأولين في التعامل اللغوي مع النصوص الشرعية قصد الوقوف على غاياتها نماذج حية للتطبيق اللغوي، وتعد مجالا واسعا
[ ص: 30 ] يمكن أن يفيد منه دارس اللغة العربية؛ بالوقوف على نماذج حية لتحليل أوجه الاستخدام اللغوي.
ويروم هـذا البحث تحقيق الأهداف الآتية:
1- البحث في الأسس والمبادئ التي وضعت في فهم نصوص القرآن الكريم، إسهاما في خدمة لغته، وفهم رسالته.
2- تحديد الأسس اللغوية في التعامل مع النصوص الشرعية، تأكيدا للعلاقة القائمة بين الشريعة واللغة العربية.
3- محاولة الاستفادة من الأسس التراثية في فهم النصوص الشرعية في إبراز مبادئ حديثة لفهم الخطاب اللغوي.
4- محاولة استخلاص مبادئ الفكر اللغوي وأسسه عند الشاطبي، رحمه الله، من خلال أعماله المنشورة، ومحاولة تقديم صياغة منهجية لها.
5- محاولة تطبيق الآراء والأسس المستفادة من الشاطبي، رحمه الله، في تحليل النصوص الشرعية تحليلا يراعى فيه معهود العرب في لغتها ومقاصد الشارع.
فهو يقتصر على دراسة الآراء اللغوية الواردة في مؤلفـات الشاطبي، رحمه الله، المنشورة، ويستعين بما كتب حول فكره الأصولي واللغوي في صياغة الأسس والمبادئ التي اعتمدها في إبراز اتجاهه الأصولي المقصدي، ولكنه يستعين بآراء علماء آخرين في محاولة تقديم تحديد أولي للفكر اللغوي لديه. كما يقدم نماذج تطبيقية لتلك الأسس، والمبادئ اللغوية المستخلصة.
[ ص: 31 ]
وقد اعتمدت في هـذا البحث المنهج الاستقرائي التحليلي، الذي يقرأ نصوص المؤلف، ويحاول الوقوف على جزئيات فكره اللغوي، ويحاول تحليلها وصياغتها في شكل أسس، ومبادئ لغوية توصل بالتحليل اللغوي إلى إبراز المقاصد من النصوص.
- أهم مصطلحات البحث
1- المقـاصد: مقاصد الشريعة، ومقاصد الشارع، والمقاصد الشرعية كلها عبارات تستعمل بمعنى واحد. والمراد بمقاصد الشريعة: «الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها، لمصلحة العباد»
>[1] . وقد «يعبر عن المقاصد بالمعاني، أو الحكم، أو العلل»
>[2] . والمقاصد قد تكون «ضرورية» أو «حاجية» أو «تحسينية »
>[3] .
2- المقصدي ( أو الفكر المقصدي)
اتجاه يهتم بما يحقق الغايات التي وضعتها الشريعة لتحقيق المصالح التي تعود إلى العباد في دنياهم وأخراهم من خلال النصوص التي تتحدث عن الطاعات، والمعاملات، وسائر التصرفات، وبيان المفاسد التي تدل عليها النصوص التي تتناول المخالفات في المعاملات، وسائر التصرفات
>[4] .
[ ص: 32 ] 3- التحليل اللغوي التطبيقي (المراعى فيه معهود العرب في لغتها)
منهج لغوي يقوم على تحليل النصوص تحليلا لغويا للوقوف على مقصد النص ومغزاه، وهدفه، وحكمته، ويهتم بإبراز الخصائص التركيبية والأسلوبية في النصوص الدينية وفق معهود العرب، وعاداتهم في لسانهم حال نزول القرآن الكريم، وورود الحديث الشريف.
ولعله من الأهمية الإشارة إلى أن الدراسات التي تناولت فكر الشاطبي، رحمه الله، عموما، قليلة
>[5] ، وأقل منها تلك التي تناولت فكره اللغوي، ومع ذلك لابد من التوقف عند بعضها، فللدراسات السابقة أهميتها التي تكمن في أنها تحدد للباحث الأرضية التي يجب أن ينطلق منها ويبدأ، وتكشف له ما كتب في موضوعه، وما لم يكتب؛ فتجنبه التكرار وضياع الجهد، والوقت.. ويمكن القول: إن ما اطلعت عليه من دراسات زادني حثا وتحفيزا على الكتابة في هـذا الموضوع.
[ ص: 33 ]
ويعد محمد خالد مسعود من أهم الذين تناولوا الإمام الشاطبي لغويا أكثر منـه أصوليا؛ وتجسد ذلك واضحا في بحثه الذي بين فيه أن الإمام الشاطبي تناول نظرية اللغة أو «نظرية الدلالة في اللغة» وأنه كان ينظر إلى اللغة بأنها نظام متماسك، وليست مجرد كلمات مجتمعة فقط
>[6] . ولكن معالجة الكاتب لنظرية المعنى أو «نظرية الدلالة» لم تكن مكتملة، ولم تعط للقارئ صورة واضحة عما سماه بمبادئ النظرية والنماذج التحليلية لها، بل اكتفى بعرض وتحليل لبعض ما طرحه الشاطبي، رحمه الله، من آراء لغوية في كتابه «الموافقات».
وفي علاقة العربية بالشريعة، والنصوص الفقهية، نبه العلماء إلى أن صحة فهم الشريعة والاجتهاد فيها، واستنباط أحكامها، والوقوف على مقاصدها، متوقفة على حذق اللغة العربية والتمكن منها، حتى يكون المجتهد في معرفة الأحكام الشرعية مجتهدا في اللسان العربي، وفي معرفة معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها
>[7] .
[ ص: 34 ] ومثال ذلك ما ذكره جمال الدين عطية
>[8] من أهمية القواعد اللغوية في تفسير نصوص الكتاب والسنة واستخراج الأحكام منها، مبرزا المكانة التي تحتلها اللغة في كتب الدراسات الفقهية، ولكن دون أن يشير الكاتب إلى الشاطبي، رحمه الله، أو غيره من الأصوليين، ودورهم في توظيف اللغة في استنباط الأحكام، إذ كان هـدفه إبراز هـذه العلاقة بشكل عام.
كما أشار أحمد شيخ عبد السلام
>[9] إلى أهمية معرفة اللغة العربية والوقوف على معهود العرب في استعمالها، وأثر ذلك في فهم الشريعة الإسلامية عموما وفي الاجتهاد خصوصا، مشيرا إلى اشتراط الشاطبي العلم بالعربية إن تعلق الاجتهاد بالاستنباط من النصوص، وعدم اشتراط ذلك إن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها. وأشار إلى أن سعة المعرفة اللغوية العربية لدى المشتغل في الدراسات الشرعية-خصوصا- عامل مؤثر في سعة معرفته الشرعية؛ فالعلاقة بينهما علاقة طردية، كما وصفها الباحث (أحمد شيخ عبد السلام) .
[ ص: 35 ] وبين توفيق أسعد حمارشة
>[10] من خلال تساؤله عن العلاقة القائمة بين الوسيلة والغاية، وبين الوعاء والمحتوى، الصلة الوثيقة بين اللغة والشريعة، وأن الاهتمام بالشريعة من غير اللغة شبيه بمحاولة إدراك الغاية من غير وسيلة! وأن دراسة اللغة بعيدا عن الشريعة هـي تحويل للوسيلة وجعلها غاية. وفي ذلك التوضيح تأكيد منه للعلاقة الوطيدة بينهما.
وأكد محمد معبدي
>[11] أهمية الأساليب العربية في فهم معاني النصوص، واستنباط أحكامها الشرعية، وتوضيح مقاصدها
>[12] ، حتى يتدبر الناس ما تهدف إليه من أغراض وغايات تنفعهم في دينهم ودنياهم. وأشار إلى اهتمام علماء أصول الفقه باستقراء تلك الأساليب اللغوية والوقوف على ضوابطها وقواعدها، قصد الاستفادة منها في استنباط الأحكام من النصوص اللغوية.
[ ص: 36 ]