المبحث الثالث
الرؤية التكاملية لمفهوم الحاكمية
إن المنهجية العلمية تقتضي إعمال الدقة في توظيف المفاهيم واستعمال المصطلحات، وهذه المنهجية تدفعنا إلى تجنب أساليب الإطلاق والعموم، وعدم الاستناد إلى النظرة الأحادية في تقرير الأحكام، التي قد تؤدي بنا إلى نوع من الخلط واللبس وتسوق إلى نوع آخر من الترسبات والتراكمات الخاطئة التي تتحول بفعل جملة من العوامل والأسباب إلى حقائق مسلمة وقواعد متبعة، من الصعب تجاوزها واقعا أو إهمالها فكرا، ومن هـذا المنزلق يقع المفكرون الإسلاميون في جدليات علمية واسعة، ومخاطبات فكرية مفرغة، سببها سوء توظيف المصطلحات وعدم مراعاة ما يحيط بها من عموم أو خصوص أو إطلاق أو تقييد، ومن هـذا المنطلق فإن الحاكمية بوصفها مصطلحا متداولا في الفكر الإسلامي المعاصر لا تطلق بإطلاق واحد لتنتج فهما أحاديا، كما أنه ليس لها بعد واحد بحيث تفرز منهاجا واحدا لا ثاني له، بقدر ما أن الحاكمية مفهوم ثلاثي الأقطاب بحسب الجهة التي يعود إليها، ومنه فإن مراعاة انفكاك الجهة لمفهوم الحاكمية يعد مفصلا دقيقا يجب إعماله عند الحديث عنها.
فالحاكمية قد يراد بها حاكمية الله ( الحاكمية الإلهية ) ، وقد يراد بها حاكمية الوحي ( الحاكمية الشرعية ) ، وقد يراد بها حاكمية العقل ( الحاكمية الإنسانية)
[ ص: 65 ] ولكل واحدة من هـذه الأقسام مجال وخصائص وأسس تقوم عليها، وعلى هـذا الأساس فيمكن تقسيم الحاكمية من حيث مصدرها إلى أقسام ثلاثة وهي: الحاكمية الإلهية ، والحاكمية العقلية ، والحاكمية الشرعية ، وهذا الأخير وإن كان قسما ثالثا فإنه قسم مخرج على الحاكمية الإلهية ويمثل الجانب العملي والتطبيقي لمفهوم الحاكمية الإلهية، ولكن قبل الحديث عن مصدر الحاكمية والتفصيل في ذلك نشير إلى مسألة مهمة تعتبر مدخلا منهجيا دقيقا يتحدد معه مصطلح الحاكمية بوضوح في المنظومة المعرفية، وهذا بيان لذلك.
أولا: فك الارتباط بين مبدأ الألوهية ومفهوم الحاكمية
إن الربط بين مفهوم الحاكمية ومبدأ الألوهية بحيث يصبح المصطلح مركبا بهذه العبارة «الحاكمية الإلهية» يورد إشكالا على مستوى المفهوم ذاته، لأن موضوع البحث هـو «الحاكمية» بوصفه مصطلحا إسلاميا مجردا عن الإضافة أو النسبة إلى غيره. أما تداول المصطلح بعبارة «الحاكمية الإلهية» فهو سبق تحديد لمجال البحث والدراسة، مما يؤدي إلى إقصاء المفهوم باعتباره مصطلحا شرعيا عاما. ومن هـنا نطرح إشكالا مفاده: هـل مصطلح الحاكمية مفهوم له دلالة قاصرة أم متعدية، بمعنى إذا أطلقت عبارة «الحاكمية» فهل تنصرف مباشرة إلى الحاكمية الإلهية، أي إلى الله تعالى، أم أن العبارة قد تتناسب مع ألفاظ أخرى وتتزاوج معها؟
إن ما هـو شائع في الفكر الإسلامي المعاصر هـو الربط التلازمي بين مبدأ الألوهية ومبدأ الحاكمية، فلا تطلق الحاكمية إلا ويراد بها حاكمية الله تعالى.
[ ص: 66 ] وفي رأيي أن العبارة لها معان لغوية متعددة ودلالات اصطلاحية مختلفة تجعلها تنسجم مع عبارات أخرى وتتزاوج معها. وليس هـناك ما يدل على الارتباط التلازمي بين المبدأين إلا في القضايا التي لها تعلق بمبدأ الألوهية. أما خارج هـذه الدائرة فلا ضير من استخدام المصطلح وتداوله في عبارات معينة حسب السياقات التي يقتضيها النسق المعرفي، خاصة إذا علمنا أن الحاكمية بوصفه مصدرا صناعيا لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية ولا حتى في كلام العلماء المتقدمين، وإنما هـو مصطلح ابتدعه
المودودي في مرحلة سياسية حرجة كانت تمر بها الدعوة الإسلامية في الهند، وخلال مرحلة التأسيس لدولة الباكستان، فهو أول من ربط بين مفهوم الحاكمية ومبدأ الألوهية في التنظير السياسي، فالربط في أصله كان أساسه النظر والاجتهاد، الذي قد يعتريه الخطأ والصواب.
وبناء على ذلك فإن الارتباط بين مبدأ الألوهية ومبدأ الحاكمية غير تلازمي، وإنما هـو إضافي احتمالي، والحصر غير حقيقي، ولكنه وهمي منشؤه العادة، وتراكمات استخدام المصطلح في أطر فكرية ضيقة. وبفك الارتباط بين مبدأ الألوهية ومصطلح الحاكمية يتحرر المفهوم من الضيق الذي حوصر به، والمعاني القاصرة التي ألحقت به، كما يتحرر من الظلال الكهنوتية التي كثيرا ما توصف بها المنظومة السياسية الإسلامية. وبهذا المنحى يزداد المصطلح تحررا من الإضافات الإلزامية ويضفى عليه نوع من الإطلاق والشمول، ويمكن اعتبار الحاكمية مصطلح هـيولى، فهو واسع الحدود، غزير المعاني، متعدد الدلالات، له تعلق بمجالات معرفية مختلفة، مما يجعله مثل
[ ص: 67 ] الهيولى قابلا لكل صورة، فكما أن الحاكمية تطلق على الشرع فنقول «حاكمية الشرع»، ومعناه سيادته، أو «حاكمية الملك» أو الرئيس ومعناه سلطانه، أو «حاكمية القاضي»، ومعناه سلطان القضاء وقوته، أو «حاكمية العقل»، ومعناه سلطانه، فلكل حاكمية مجالها حسب اختصاصها.
فالبحث في الحاكمية ينبغي أن يكون باعتباره مفهوما إسلاميا مجردا عن الإضافة والنسبة، ونترك نصوص الوحي فقط هـي المحددة لجهة الإضافة والنسبة، وإلا أصبح حديثنا عن أحد أبعاد الحاكمية وهو البعد اللاهوتي فيه. وإن مما يقوي هـذا العرض أمورا منها:
1- أنه لم يرد دليل من الكتاب أو السنة على ربط المفهومين بتضايف تلازمي.
2- أن الناظر في نصوص الوحي ومختلف تفاسير العلماء يلاحظ بوضوح تام أن مفهوم الحاكمية أضيف إلى مفاهيم أخرى أيضا غير الألوهية.
3- أن الجذر اللغوي الذي يتركب منه الحاكمية ورد في لسان العرب، وفي لغة القرآن والسنة وفي اصطلاحات العلماء بمعاني كثيرة تدل على غزارة مادته.
>[1] وتوظيف أحد تلك المعاني الواردة على سبيل الحصر إقصاء لغيرها من المفاهيم.
[ ص: 68 ] 4- اعتبار مفهوم الحاكمية «جذرا فلسفيا وفكريا وثقافيا متشعب الفروع، ومتعدد الاتجاهات، تمثل فروعه واتجاهاته المختلفة دائرة فلسفية وثقافية تتسع أو تضيق لكنها في سائر الأحوال تتصل اتصالا وثيقا بالنسق المعرفي الذي ينتمي المفهوم إليه»
>[2] .
ثانيا: المداخل المنهجية لبحث مفهوم الحاكمية
ينبغي تحديد أهم المداخل المنهجية لبحث مفهوم الحاكمية سعيا لضبطه وتأطيره في مجاله الذي ينبغي أن يبحث فيه، ويبدو لي أن مثل الحاكمية مثل مفتاح البيت الذي يريد صاحبه أن يدخله، فللبيت عدة مداخل هـي أبواب البيت ولكل باب مفتاح، فهناك مفتاح البيت الخارجي ومفتاح البيت الداخلي ومفاتيح الأبواب للغرف الداخلية، فالكل يصح أن يطلق عليه مسمى المفتاح، لاشتراكهم في مسمى المفتاح، ولكن كل مفتاح يختلف عن الآخر وكل واحد موظف لفتح قفل بعينه بحسب الباب الذي ينسب إليه، خارجي أو داخلي، ورب البيت إن استعمل مفتاحا واحدا يريد بذلك فتح جميع الأبواب كان مخطئا ويتعذر عليه عمل ذلك، وإن استطاع تحقيق مراده بفتح الأبواب جهلا أو تعنتا فإن المفتاح يصاب بتشويه كما أن قفل الباب يصاب بعطب، وذلك لعدم تمييزه بين طبيعة كل باب وخصائص كل مدخل، وعدم استعماله للمفتاح الملائم لطبيعة كل قفل. ومع ذلك فإنه يدخل الباب ويتابعه الآخرون في الدخول ولن ينتبه أحد إلى ما أصاب
[ ص: 69 ] المفتاح من تشويه أو الباب من تلف ما لم يراجع أحد مرة أخرى تلك المفاتيح وتلك الأقفال، وقصة الحاكمية شبيهة بقصة المفتاح وصاحب البيت. وهذه المداخل التي سنتحدث عنها تكون عونا على فهم الحاكمية.
المدخل الأول: المدخل العقدي
لا شك أن للحاكمية أبعادا عقدية يدركها أدنى متأمل في النصوص الشرعية التي تحدثت عن أوصاف الألوهية، وهذه المعاني تندرج تحت ما يسمى بالحاكمية الإلهية ، وهذا هـو مراد العلماء عند قولهم: إن الحاكم هـو الله تعالى، وهذا عندما يتحدثون عن الحاكم في الفقه الإسلامي، يقول
محمد أبو زهرة : «اتفق جمهور المسلمين بل أجمع المسلمون، فإن الإجماع قد انعقد على أن الحاكم في الإسلام هـو الله تعالى»
>[3] ، فبحث مفهوم الحاكمية من هـذا المدخل ينبغي أن يكون بحثا عقديا توظف فيه آليات علم الكلام ومباحث علم العقيدة، وينبغي تحليل هـذا المصطلح تحليلا يستمد مادته من علم أصول الدين دون تعدية مختلف معانيه ودلالاته إلى حقول معرفية أخرى وتأسيس الأحكام في ضوئها.
المدخل الثاني: المدخل السياسي
كما أن للحاكمية بعدا عقديا فإن لها أيضا بعدا سياسيا، ولكن لا ينبغي تداول مصطلح الحاكمية الإلهية وجعله ضمن المفاهيم السياسية لكي لا يحصل لبس بسحب المفاهيم العقدية إلى المفاهيم الفقهية فتختلط الأحكام التي يخرج في
[ ص: 70 ] ضوئها، بل ينبغي تداول مصطلح حاكمية الوحي أو حاكمية الشريعة أو حاكمية قوانين التشريع الإسلامي، لأن مجال البحث في الفقه السياسي هـو القوانين واللوائح والسلطات بمختلف مراتبها وأنواعه، وطبيعة الدساتير التي لها صفة السمو والعلو والسيادة والحاكمية على غيرها. بمعنى أن مجال البحث السياسي والقانوني هـو سيادة النص القانوني وموقع مختلف السلطات البشرية وصلاحياتها منه، ولا ينبغي في هـذه الحالة اقحام مصطلح الحاكمية الإلهية بتعلقاتها العقدية في قضايا السياسة والقانون، وإلا أضفي على النظرية السياسية لبوسا عقديا، وتحول الحديث من الفقه السياسي المعدود ضمن الفقهيات وفروع الشريعة إلى الحديث عن الفقه السياسي العقدي، وقد أكد علماؤنا المتقدمون على كون الإمامة والسياسة من فروع الشريعة لا من أصولها، يقول
الإمام الجويني : «إن الكلام في الإمامة ليس من أصول الاعتقاد»
>[4] .
ويقول
الإمام الغزالي : «إن نظرية الإمامة ليست من المهمات، وليست من فن المعقولات فيها بل من الفقهيات، والنظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول القواعد وقسم يتعلق بالفروع، وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله، وبرسله وباليوم الآخر وما عداها فروع، والخطأ في أصل الإمامة وتعيينها وشروطها وما يتعلق بها لا يوجب شيء منه التكفير»
>[5] . ويقول
ابن تيمية : «إنها ليست من أركان الإسلام الخمسة ولا من أركان الإيمان الستة»
>[6] .
[ ص: 71 ] فقضايا الإمامة والسياسة والدولة وأجهزتها وسلطاتها ومؤسساتها من فروع الدين لا من أصوله، وعلى هـذا الأساس لا ينبغي سحب مفهوم الحاكمية الإلهية بدائرتها العقدية إلى الدائرة السياسية، ولكن ينبغي تكييف هـذا المصطلح تكييفا سياسيا وقانونيا يجعله ينسجم مع طبيعة البحث الفقهي السياسي.
وكما سبقت الإشارة، فإن أنسب مصطلح هـو حاكمية الوحي أو حاكمية الشريعة ، لأن الغالب في هـذا المجال هـو جانب التقنين والتشريع لضبط حركة المجتمع وتحديد طبيعة العلاقة بين السلطة الحاكمة والمحكومين وصلاحيات كل طرف وحدود سلطاته المخولة له، فتدخل الشريعة الإسلامية بوصفها قوانين ولوائح وأحكام سائدة وحاكمة لضبط مختلف قوانين الدولة وتحديد صلاحيات مختلف السلطات، بدءا بالدستور ورئاسة الدولة وانتهاء إلى أبسط قانون وأدنى موظف.
المدخل الثالث: المدخل الفكري
ونعني بذلك أن للحاكمية بعدا آخر ضمن الدائرة الفكرية والفلسفية القائمة على التأمل والتفكر والنظر والاجتهاد وقدرات العقل ومجال إعماله في مختلف دوائر البحث. وهنا تأتي مسألة إضفاء صفة الحاكمية على العقل بين غلو المدرسة الاعتزالية ووسطية جمهور أهل السنة، وسبب ذلك النظر إلى دور العقل ووظيفته استقلالا أو بتسانده مع النقل، وسيأتي بيان ذلك.
[ ص: 72 ]