أوقاف الرعاية الصحية

الدكتور / أحمد عوف عبد الرحمن

صفحة جزء
أولا: معالم التكوين التاريخي للوقف

عرف الوقف، بمعنى «حبس المال على جهة ما»، منذ أقدم العهود وإن لم يطلق عليه هـذا الاسم. والحديث عن تاريخه يتناول الكلام عنه لدى غير المسلمين قديما، كما يتناول الكلام عن نشأته وتطوره ومشكلاته لدى المسلمين منذ عصر البعثة وحتى العصر الحاضر.

والحديث عن تاريخ الوقف - في هـذا البحث - لا يذهب إلى استقراء التفاصيل، وتتبع القضايا كلها، وإنما يعرض في إجمال لمسيرة الوقف ومجالاته عبر العصور التاريخية المختلفة. [ ص: 39 ]

أ- الوقف قبل الإسلام

يلاحظ الدارس لتاريخ الأمم والشعوب في الماضي والحاضر أنها، على اختلاف أديانها ومعتقداتها، عرفت أنواعا من التصرفات المالية التي لا تخرج في مدلولها عن جوهر معنى الوقف عند المسلمين؛ وذلك لأن كل أمة كان لها من الدوافع الدينية ما يحض الأفراد الموسرين على تقديم الأحباس التي يخصص ريعها لإنشاء دور العبادة ورعاية الأنشطة الدينية ومساعدة الفقراء والأيتـام والأرامل، إضـافة إلى بعض الخدمـات الاجتماعية المتنوعـة، إلا أن مسألة تحديد الهوية القانونية لتلك الأحباس لم تكن منفصلة، بل أدمجت في كثير من الأحيان في الأملاك العامة التي يتصرف بها الحكام.

ونجد تلك النماذج الوقفية معروفة منذ أيام الحضارة البابلية، وكذلك الفراعنة ، الذين توسعوا في إقامة الأوقاف، وكذلك لدى اليونانيين من خلال أوقاف شهيرة خصصت لمدرسـة أفلاطون التي تمكنت بفضلها من الاستمرار عـدة قرون، وكذا مكتبة الإسكندرية التي كان لها دور علمي كبير في العطاء؛ حيث كثرت عليها الأوقاف، كما عرف الوقف لدى الرومان والجرمان، ووضعوا له نظاما يلتقي في بعض جزئياته مع مفهوم الوقف الإسلامى.

أما في الجاهلية، فلم يعرف العرب وقتها الوقف في أي شكل من أشكاله، ويروى عن الإمام الشـافعي أنه قال: لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارا ولا أرضا.. وإنما حبس أهل الإسلام. كما كتب ابن حزم : [ ص: 40 ] إن العرب لم تعرف في جاهليتها الحبس.. إنما هـو اسم شرعي وشرع إسلامي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم

>[1] .

ب- الوقف في الإسلام

دعا القرآن الكريم، في كثير من آياته، وكذا السنة النبوية إلى البذل والعطاء والمسارعة إلى الإنفاق في السراء والضراء.. كما تحدث الكتاب العزيز وثبت بالرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن المال، أنه في الأصل مال الله، وأن النفس البشرية فطرت على حبه حبا جما، وأن المسلم لن ينال الخير في عاجلته وآجلته إلا بالإنفاق مما يحب، قال تعالى: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (آل عمران:92) .

لقد كان للتوجيه الرباني، في العديد من الآيات القرآنية، إلى أداء الصدقة والإحسان بكل وجوهه، أثر واضح في سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي أصلت نظام الوقف تأصيلا شرعيا. 1- الوقف في عهد الصحابة

إن مفهوم الوقف بدأ بالظهور منذ عهد الصحابة، نظرا للتوسع في تطبيقاته. وكان أغلب الوقف من الأراضي والبساتين والنخيل والآبار في المدينة ومكة ثم الشام والعراق ومصر وغيرها من البلدان التي انتقل إليها [ ص: 41 ] الصحابة بالفتوح. وروي " عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، أنه قال: لا أعلم أحدا كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالا من ماله صدقة مؤبدة لا تشترى ولا توهب ولا تورث. " 2- الوقف في العهد الأموي

لم تعد الأوقاف قـاصرة على الصرف لجهة الفقراء والمساكين، بل بدأت وقتها مفاهيم تنوع الخدمات الوقفية، بحيث أصبح الوقف في تلك الأزمنة يمثل الممول الرئيس للمجتمع الأهلي. وفي تلك الفترة بدأ التفكير في تنظيم الأوقاف، حيث قام القـاضي « توبة بن نمير » في عهد الخليفة هشام ابن عبد الملك بإنشاء ديوان مستقل للأحباس



>[2] . 3- الوقف في العهد العباسي:

كثرت الأموال الموقوفة، وبلغت الذروة في الأندلس والمغرب ومصر والشام ، ويروى أن أراضي الوقف بلغت ثلث مجموع الأراضي الزراعية.

وحدث أن نشأت مؤسسة خاصة أيام الدولة الفاطمية سميت «بيت مال الأوقاف» لاستلام الموارد العامة التي تغلها مصادر الوقف.

وفي عهد الدولة الأيوبية والمملوكية بدأ ظهور نوع جديد من الأوقاف سمي « بالإرصـاد » أو الوقف الصوري، وهو قيام السلاطين والأمراء بإيقاف أراض تعود إلى بيت المال على التكايا والمساجد والجهات الخيرية [ ص: 42 ] الأخرى، حيث كان نور الدين الشهيد أول من طبقه، وتابعه على ذلك صلاح الدين الأيوبي .

وفي عهد المماليك صار للأوقاف ثلاثة دواوين: ديوان لأحباس المساجد، وديوان لأحباس الحرمين وجهات البر الأخرى، وديوان للأوقاف الأهلية؛ وذلك بسبب كثرة الأوقاف وتضخمها



>[3] . 4- الوقف في عهد الدولة العثمانية

أسست الدولة العثمانية سلطنة عظيمة وسطوة جسيمة وملكا قويا، وكان ملوكها من أعظم ملوك الدنيا أبهة وجلالة وآثارا، وأشدهم قوة وأنصارا، نظموا البلاد وأراحوا العباد، فكان من الطبيعي أن يتسع فيها نطاق الوقف؛ لإقبال السـلاطين وولاة الأمر في هـذه الدولة عليه، بحيث ازداد عدد الوقفيات وحجمـها، وتعددت مجالات الاستفادة منها، والإنفاق عليها. ويمكن تصـور حجم الأوقاف من الإحصائية لعدد من الوقفيات التي أقيمت في إسطـنبول وحـدها ما بين عامى 1453و 1553م، فقد بلغ حوالي 2515 وقفية، هـذا باستثناء أوقاف السلاطين على الجوامع والمدارس والمستشفيات.

ولكن جرى تحول كبير في نظام الوقف في الفترة الأخيرة من عهد الدولة العثمانية، حيث بدأت الدولة تنـزع إلى وضع يدها عليه، ووضع [ ص: 43 ] سياسة له تتفق وتوجهات النظام الحاكم، وحولته من كونه حكرا على النخبة الدينية إلى نظام تمارس فيه الدولة سلطة ونفوذا كبيرين



>[4] . 5 - الوقف في عهد الدولة الحديثة

ظهرت فكرة فلسفية تنادي بأن سلطان الدولة لا يكون قائما فعلا إلا إذا كان موحدا، فانطلق القانونيون في العمل على ترسيخ مبدأ الدولة الحديثة ذات السلطة الواحدة بإقرار الأنظمة المؤدية إلى إثبات وجود الدولة بوحدة سلطانها.

وكان من الطبيعي أن يظهر اهتمام شديد يتوجه إلى نظام الوقف لضبطه من قبل الدولة؛ وذلك نظرا لأهميته ودوره وتنوع خدماته وتأثيره في حركة المجتمع، علاوة على أن النظام الوقفي أصابه في ذلك الوقت الكثير من سوء الإدارة؛ مما ضيع أهدافه وأعطى الحجة لوضع اليد عليه..!!

فقامت الدولة بإعادة تركيب نظام الوقف لمكافحة الهدر وبيع الأوقاف غير المنتجة وغير ذلك من الإجراءات؛ فكانت النتيجة في الشرق العربي والإسلامي تراجعا في عدد الوقفيات بامتناع الأفراد عن المبادرة الفعالة تجاه المجتمع، إضافة إلى ضياع أعداد كثيرة من الممتلكات الوقفية.

لذا يمكن القول: إن التحول الذي طرأ على النظام الوقفي لم يكن مجرد نتيجة إرادة السيطرة من قبل حاكم ما، بل هـي قضية تأسست على الرغبة [ ص: 44 ] في تحويل المجتمع إلى مجتمع معوز يفتقر إلى عناصر الدفع الذاتي وشل حركته وصد أفراده عن المبادرة الخيرية، وحصر المفهوم الوقفي في المجال الديني التعبدي وإنهاء دوره في المجالات الاقتصادية والاجتماعية الفاعلة



>[5] .

التالي السابق


الخدمات العلمية