المبحث الثاني
التأصيل التاريخي لظهور الوسائل
إن الحديث عن الوسائل هـو حديث عن التشريع كله، منذ بدء الرسالة إلى هـذا العصر، فالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تضمنا كثيرا من الأحكام، منها ما هـو من المقاصد، ومنها ما هـو من الوسائل. والحديث عن التأصيل التاريخي للوسائل، هـو في حقيقته حديث عن التأصيل التاريخي للمقاصد؛ وذلك للارتباط الوثيق بينهما، فالمقاصد لا يمكن تحققها والتوصل إليها إلا بالاعتماد على الوسائل؛ لذلك فالمقاصد التي تم النص عليها في القرآن أو في السنة، كثيرا ما تكون وسائلها أيضا منصوصا عليها خاصة في جانب العبادات، إلا إذا كانت وسائل هـذه المقاصد مما يخضع للتغيير، بتغير الزمان والمكان، فلا يكون حينئذ النص عليها، بل هـي اجتهادية كما هـو الحال في أغلب المعاملات والعادات، فأمرها مفوض إلى أولي الأمر، عبر الزمان والمكان، كمقصد العدل؛ الذي دلت عليه آيات كثيرة
منها قوله تعالى:
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90) ،
وقوله:
( وإذا قلتم فاعدلوا ) (الأنعام:152) ،
وقوله:
( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هـو أقرب للتقوى ) (المائدة:8) ..
فوسائل تحقيقه ليست منصوصا عليها، بحيث لا يجوز الخروج عليها، وإنما تركت في فسحة، لأن
[ ص: 63 ] وسائل تحقيق العدل في زمن النبوة مثلا تختلف عنها في هـذا الزمن، وإن كان المقصد واحدا لا تغير فيه.
وعليه، فالشريعة الإسلامية في مجملها إما مقاصد وهي المتضمنة على المصالح في ذاتها، أو وسائل وهي المحققة لهذه المقاصد، وهذه الوسائل سواء كانت محضة، بمعنى وسائل فقط إلى مقاصد، أو وسائل غير محضة كالأحكام، التي هـي وسائل من جهة ما هـو أعلى منها، ومقاصد من جهة ماهو دونها، كالوضوء للصلاة، والصلاة طاعة لله، يقول
العز : «ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها»
>[1] .
فظهور الوسائل في الحقيقة لم يكن أمرا مستحدثا، وإنما جذوره وأصوله مسـتمدة من الشـرع نفسه، وأما العلماء من صحابة وتابعين، لم يهتموا بعد استقرار التشريع بالتأليف في الوسائل، بل كان جل اهتمامهم بالناحية العملية والتطبيقية في الحياة اليومية، بالتركيز على ما هـو مقصد، وماهو وسيلة، إلى ظهور المذاهب الفقهية، وبدء الحديث عن الاجتهاد بالرأي، وظهور الأدلة المختلف فيها، وعلى وجه الخصوص القول بالذريعة المرادفة للوسـيلة، كقول
الإمام مالك : «من راطل ذهبا بذهب، أو ورقا بورق، فكان بين الذهبين فضـل مثقال، فأعطى صـاحبه قيمته من الورق
[ ص: 64 ] أو من غيرها فلا يأخذه، فإن ذلك قبيح وذريعة إلى الربا»
>[2] ، وقال أيضا: «ولو أنه باعه ذلك المثقال مفردا ليس معه غيره لم يأخذه بعشر الثمن الذي أخذه به، لأن يجوز له البيع، فذلك الذريعة إلى إحلال الحرام»
>[3] .
وهذا
الشافعي يسـتعمل مصطلح الذرائع ويريد به الوسائل فيقول: «يحتمل معنيين، أحدهما: أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحله الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى»
>[4] ، وقال أيضا: «فإن كان هـذا كهذا، ففي هـذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام»
>[5] .
وإذا تجاوزنا عصر أئمة المذاهب إلى علماء هـذه المذاهب فيما بعد، وبحسب الترتيب التاريخي لهم نجد أنهم تناولوا الوسائل من زاوية أخرى وهي مقدمة الواجب، ولعل أول من تناول هـذه المسألة – حسب إطلاعنا المتواضع – هـو
الكعبي >[6] ، في أثناء حديثه عن المباح الذي اعتبره مأمورا به، وعلل ما ذهب إليه بأن المباح يستلزم ترك الحرام، وترك الحرام مأمور به،
[ ص: 65 ] فيكون المباح مأمورا به من باب ما لا يتم فعل المأمور إلا به فهو مأمور به، وهو ما عرف بعد ذلك بمقدمة الواجب ، أو قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، التي صاغها بهذا الأسلوب القاضي
ابن الفراء ، في كتابه «العدة في أصول الفقه»
>[7] وهذه المسألة ذات اتصال كبير ببحث الوسائل، وقد تم بيان ذلك سابقا أيضا.
ثم تداولها الأصوليون من بعد ذلك، أمثال
أبي الحسين البصري والجويني والغزالي والرازي ،
والآمدي وغيرهم. كما كان الحديث عن الوسائل في وقت مبكر، وذلك في أثناء تقسيم العلماء الواجب والحرام ، حيث قسموا الواجب إلى عدة أقسام منها الواجب لذاته ، والواجب لغيره ، وأيضا قسموا الحرام إلى حرام لذاته وحرام لغيره
>[8] ، ويقولون عن الواجب لغيره: إن هـذا الوجوب يتعلق بما يفضي إليه، فمنه استمد الفعل هـذا الحكم. ويقولون عن الحرام لغيره: إن الفعل في أصله غير محرم، لكن لما يفضي إليه صار حراما.
فمن خلال هـذه المباحث: الحكم الشرعي، وقاعدة الذرائع، ومسألة مقدمة الواجب، بدأ الحديث عن الوسائل، وفي الحقيقة الحديث المفصل عن الوسائل كان ببداية الحديث عن المقاصد، ولعل أهم من بدأ التأصيل
[ ص: 66 ] للمقاصد في وقت مبكر هـو
العز ، في كتابه «قواعد الأحكام في مصالح الأنام»، فأثناء حديثه عن المقاصد تحدث عن انقسام المصالح والمفاسد إلى الوسائل والمقاصد، كما بين الوسائل إلى المصالح، والوسائل إلى المفاسد، إلى غير ذلك مما له علاقة بموضوع المقاصد والوسائل. ولقد كان للعز السبق في بحث موضوع الوسائل بالتفصيل
>[9] ، بشكل لم يسبقه إليه من جاء قبله.
ولقد سار على نهج العز بن عبد السلام تلميذه ووارث علمه
القرافي ، حيث تناول المقاصد والوسائل بالدراسة والبحث، فبين أن الوسائل مرادفة للذرائع، وأن سـد الذريعة هـو نوع من الوسائل، وبين بعض أحكام الوسائل مع المقاصد، كما تناول الحديث عن الوسائل في أثناء شرحه لقاعدة: «ما لا يتم الواجب إلا به» في كتابه «نفائس الأصول في شرح المحصول»، حيث كان يسمي هـذه المسألة بالوسيلة، فيقول مثلا: «المذاهب في هـذه المسألة ثلاثة: تجب الوسائل، لا تجب، الفرق بين الأسباب وغيرها»
>[10] ، وبحث مسألة «ما لا يتم الواجب إلا به» وكل متعلقاتها تحت مصطلح الوسيلة، دون ذكر لما لا يتم الواجب إلا به في المناقشة.
[ ص: 67 ] وجاء بعد
القرافي ابن تيمية ، حيث عبر عن مسـألة ما لا يتم الواجب إلا به بمصطلح الوسيلة فقال: «يتضمن إيجاب اللوازم والفرق ثابت بين الواجب الأول والثاني، فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعا، أي لا يحصل إلا به ويؤمر به أمرا بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه»
>[11] .
وهذا
الشريف التلمساني أيضا يعبر عن مسألة ما لا يتم الواجب إلا به بالوسيلة فيقول: «أن الوسيلة لو لم يكن مأمورا بها، لساغ للمكلف تركها، ولو ساغ له تركها لساغ له ترك الواجب، لتوقف الواجب عليها، ولو ساغ له ترك الواجب لم يكن واجبا»
>[12] .
لكن مع ذلك لم يتوسع البحث في الوسائل، بل ما قدمه العز لم يزد عليه، إلا ما عرضه ابن القيم في كتابه: «إعلام الموقعين» حيث تناول الوسائل بشيء من التفصيل، حينما ربط بحثه للوسائل بقاعدة سد الذريعة، وبين أن الذرائع مرادفة للوسائل، وما سد الذريعة إلا قسم من أقسام الوسائل.
وبعد ابن القيم توقفت عجلة الحديث والبحث في الوسائل بتوقف الحديث على المقاصد خاصة، إلى أن جاء الشاطبي، رحمه الله، فليس فقط
[ ص: 68 ] أحيا البحث في المقاصد بل أصله ووضع نظرية تكاد تكون متكاملة، وتحدث عن الوسائل في أكثر من موضع من كتابه الموافقات، لكنه لم يخصها بالدراسة كما خص المقاصد بالدراسة، وإنما كان حديثه عنها متفرقا في أبواب مختلفة.
وجاء بعد
الشاطبي ابن عاشور الذي دعا إلى علم مقاصد مسـتقل، أشار إلى أهمية البحث في الوسائل، وأن كثيـرا من العلماء أغفلوا البحث فيها، وجل حديثـهم عنها في أثناء الحديث عن سـد الذريعة، أو مقدمة الواجب فقط، فقال:
«ولولا أن لقب سـد الذرائع قد جعل لقبا لخصوص سد ذرائع الفساد ... لقلنا إن الشـريعة كما سدت ذرائع فتحت ذرائع أخرى ... فلا يفوتنا التنبيه على أن الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها ... وهذه المسـألة هـي الملقبة في أصـول الفقه بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»
>[13] .
ثم بين
ابن عاشور أن هـذه المباحث هـي جزئيات من موضوع الوسائل، فقال: «وهذه جزئية من جزئيات قاعدة تقسيم الأعمال إلى وسائل ومقاصد»
>[14] .
[ ص: 69 ] كما اعتبر
ابن عاشور الأسباب والشروط وانتفاء الموانع وصيغ العقود من ضمن الوسائل فقال: «ويدخل في الوسـائل الأسباب المعرفات للأحكام والشـروط وانتفاء الموانع، ويدخل فيها أيضا ما يفيد معنى كصـيغ العقود وألفاظ الواقفين في كونها وسـائل إلى تعرف مقاصدهم فيما عقدوه أو شرطوه»
>[15] .
ومع كل هـذه الإشارات إلا أن ابن عاشور لم يخص الوسائل بالبحث بل أكثر ما فعله أنه اعتمد على ما قرره
العز والقرافي قبله، مع إشارات مهمة ومختصرة، رغم تصريحه بأن موضوع الوسائل بالغ الأهمية. وذلك مما يؤخذ عليه لأن الذي يدعو إلى علم مقاصد مستقل لابد أن يهتم بكل ما يتعلق بهذا العلم، من مقاصد للشارع ومقاصد للمكلف، ووسائل لتحقيقها.
هذا مجمل القول عن التأصيل التاريخي لظهور مصطلح الوسائل وتداوله ومن ثم بداية البحث فيه، وهذا البحث محاولة للتأصيل والتنظير للوسائل في الشريعة الإسلامية، من تعريف وأقسام وحكام وشروط وغيرها.
[ ص: 70 ]