المطلب الثاني: شروط اعتبار الوسائل وشروط إلغائها
- أولا: شروط اعتبار الوسائل
الوسـائل هـي الطرق الموصـلة للمقاصـد، ولا يمكن التوصـل إليها إلا بالاعتماد عليها، وهذا لا يعني أن كل وسيلة يمكن أن تفضي إلى المقصد بناء على أن المقصد يتوقف عليها، وإنما هـناك شروط لا بد من توفرها في الوسائل التي تكون خادمة للمقاصد، وإلا بطلت الوسائل، لذلك فشروط اعتبار الوسائل يتم تحديدها من خلال النظر إلى أربعة جوانب متعلقة
[ ص: 115 ] بالوسائل وهي: الوسيلة في نفسها، والمقصد الذي تفضي إليه، ودرجة الإفضاء، والمآل، كما تم توضيحه في أقسام الوسائل بالاعتبارات المختلفة. ومن هـذه الشروط:
1- الوسائل المعتبرة هـي التي شهدت لها نصوص القرآن والسنة بهذا الاعتبار، أما إذا لم تشهد لها النصوص بالاعتبار ولم تكن من الوسائل الملغاة، فلابد لاعتبارها أن تشهد لها كليات الشريعة ومقاصدها العامة بهذا الاعتبار، فتكون خادمة لمقاصد الشريعة ومحققة لها.
2- إذا كان المقصـد معتبرا فوسـيلته تكون معتبرة، لأنها تابعة له، وإذا سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة المفضية إليه، لأنها تابعة له فليست هـي المطلوبة أصالة، وإنما طلبها متعلق بطلب المقصد لذلك «الوسائل تسقط بسقوط المقاصد»
>[1] ، إلا في حالات استثنائية كما بين ذلك كل من العز والقرافي بقولهما: «كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع له في الحكم، وقد خولفت هـذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس من لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر فيحتاج إلى دليل يدل على أنه مقصود في نفسه»
>[2] .
3- لكي تكون الوسيلة معتبرة والثواب عليها عظيما لا بد أن تكون قوية في الأداء إلى المصلحة،
[ ص: 116 ] يقول
العز : «كلما قويت الوسيلة في الأداء إلي المصلحة كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها، فتبليغ رسالات الله من أفضل الوسائل لأدائه إلى جلب كل صلاح دعت إليه الرسل، وإلى درء كل فاسد زجرت عنه الرسل، والإنذار وسيلة إلى درء مفاسد الكفر والعصيان، والتبشير وسيلة إلى جلب مصالح الطاعة والإيمان»
>[3] .
4- تختلف رتب الوسائل باختلاف قوة أدائها إلى المفاسد، فكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المفسدة كان إثمها أعظم من إثم ما نقص عنها.
5- كل وسيلة مندوبة أو مباحة إذا كانت تفضي إلى محرم يسقط اعتبارها، كما أن كل وسيلة إذا كانت المفسدة الناجمة عنها أعظم من المصلحة المتوخاة من المقصد تسقط.
6- أن تكون الوسيلة إما إلى ما هـو مقصود في نفسه، كتعريف التوحيد وصفات الإله، فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد والتوسل إليه من أفضل الوسائل، أو أن تكون الوسيلة وسيلة إلى وسيلة أخرى كتعليم أحكام الشرع، فإنه وسيلة إلى العلم بالأحكام التي هـي وسيلة إلى إقامة الطاعات، التي هـي وسائل إلى المثوبة والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد، والتأهب للجهاد بالسفر إليه، وإعداد الكراع والسـلاح والخيل وسيلة إلى الجهاد الذي هـو وسـيلة إلى إعزاز الدين، وغير ذلك من مقاصد الجهاد، فالمقصود ما شرع الجهاد لأجله، والجهاد وسـيلة إليه، وأسباب الجهاد كلها وسائل
[ ص: 117 ] إلى الجهاد الذي هـو وسيلة إلى مقاصده، فالاستعداد له من باب الوسائل، ويدل على فضل التوسل إلى الجهاد قوله تعالى:
( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ) (التوبة:120)
>[4] .
7- الوسائل تكون دائما أخفض من المقاصد قوة ودرجة، وعلى ذلك الإجماع، فمهما تعارضتا تعين تقديم المقاصد على الوسائل، ولذلك قدمت الصلاة على التوجه إلى الكعبة لكونه شرطا ووسيلة، والصلاة مقصدا
>[5] ، ويدخل في الوسائل الأسباب المعرفات للأحكام، والشروط، وانتفاء الموانع فهي كلها وسائل موضوعة لتحقيق مقاصد
>[6] يقول
العز بن عبد السلام : «كل تصرف جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، فقد شرع الله من الأركان والشرائط ما يحصل تلك المصالح المقصودة الجلب بشرعه، أو يدرأ المفاسد المقصودة الدرء بوضعه، فإن اشتركت التصرفات في مصالح الشرائط والأركان كانت تلك الشرائط والأركان مشروعة في جميعها»
>[7] .
8- إذا تعددت الوسائل إلى المقصد الواحد يختار الأقوى منها في الإفضاء إلى المقصد المتوسل إليه بحيث يحصل كاملا، راسخا، عاجلا،
[ ص: 118 ] ميسورا، فنقدمها على وسيلة هـي دونها في هـذا التحصيل، ولا يجوز الأخذ بوسيلة وهناك ما هـو أقوى منها وأفضل، لذلك لا بد من تقديم الأفضل فالأفضل؛ لأن الوسيلة الدنيا مع وجود ما هـو أفضل منها يؤثر في المقصد بوجه من الوجوه، والعادة جرت أن الأفضل يختار له الأفضل. فإذا تساوت الوسائل في الإفضاء إلى المقصد باعتبار أحواله كلها سوت الشريعة في اعتبارها، وتخير المكلف في تحصيل بعضها دون الآخر، إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها، فإذا تساوت في الأداء ولا أفضلية لإحداها على الأخرى، فهنا يؤخذ بأي وسيلة يمكنها أن توصل إلى المقصد، دون تمييز.
9- أن لا تعود الوسيلة بالإبطال على المقصد، فمتى كانت الوسيلة مبطلة للمقصد، أو مؤدية إلى انخرامه كليا أو جزئيا، بطل اعتبارها، فيحفظ المقصد، وتترك الوسيلة.
10- اعتبار الوسائل قائم على اعتبار المآل، فالوسيلة تأخذ حكم مآلها، فإذا تغير المآل بأن كان مصلحة، ثم لسبب من الأسباب أصبح مفسدة، فوسيلته يتغير حكمها تبعا لهذا المآل، فلا يتم الوقوف عند ظواهر الأفعال، بل لا بد من النظر إلى ما يئول إليه، فقد تكون الوسـيلة في ظاهرها مصلحة، لكنها تئول إلى مفسدة، أو العكس، فيأخذ الفعل حكم ما آل إليه، مصلحة أو مفسدة. يقول
الإمام الشاطبي : «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شـرعا، كانت الأفعال موافـقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يئول إليه ذلك الفعل؛ مشروعا لمصلحة تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشـروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك»
>[8] .
[ ص: 119 ] 11- لكي تكون الوسـيلة معتبرة لابد أن تكون مشروعة في ذاتها، فلا يجوز التوسـل بما هـو محرم أو مكروه لتحقيق مقاصد ولو كانت واجبة أو مندوبة، أو حتى مباحة، إذ لا يكفي الإفضاء وحده، بل لابد من توفر المشروعية في الوسيلة والإفضاء معا.
12- لاعتبار الوسائل أيضا لا بد من توفر بعض الشروط التي اشترطها العلماء في المصلحة، وذلك لأن الوسيلة وإن كانت غير مطلوبة في نفسها، وإنما طلبها بطلب المقاصد، إلا أنه يشترط أن تكون الوسيلة التي يتخذها المكلف فيها مصلحة وتفضي إلى المصلحة، وهذه الشروط هـي:
أ- اندراجها في مقاصد الشرع، بحيث تكون مصلحة، لأنه لا يجوز التوسل بما هـو مفسدة لتحقيق مقصد شرعي (يستثنى من ذلك حالات الضرورة، والتي تقدر بقدرها) .
ب- أن لا تكون هـذه الوسـيلة معارضـة لنص من نصوص القرآن أو السنة فيما هـو قطعي الثبوت والدلالة.
ج- عدم تفويتها مصلحة أرجح منها، وذلك إذا تعددت الوسائل في الإفضاء إلى مقصد واحد، واختلفت في درجة الإفضاء من حيث المصلحة
[ ص: 120 ] التي تحتويها الوسيلة ومن حيث تحقيقها للمقصد بدقة. وعليه متى كانت المصلحة راجحة في إحدى الوسيلتين، وتحقق المقصد بتناه، فلابد من تقديمها على غيرها من الوسائل المرجوحة.
- ثانيا: شروط إلغاء الوسائل وعدم اعتبارها:
هذه الشروط في مجملها هـي الشروط التي وضعها العلماء لاعتبار سد الذريعة وإعمال هـذه القاعدة؛ وذلك لأن سد الذريعة معناه عدم اعتبار الوسائل المباحة؛ لأنها تفضي إلى ممنوع، ومن هـذه الشروط مايلي:
1- أن يكون الفعل المأذون فيه ذريعة إلى مفسدة، فإن كان كذلك فإن الشارع يمنع منه عملا بقاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»
>[9] .
2- أن تكون المفسدة المتذرع إليها بالفعل المشروع مساوية أو راجحة على مصلحة ذلك الفعل، فإن كان الفعل المشروع يحقق مصلحة ولكنه وسيلة إلى ما فيه مفسدة؛ فإن هـذا الفعل يمنع وتسد هـذه الوسيلة وهذه الذريعة إذا كانت المفسدة المتوسل إليها موازية لهذه المصلحة أو تزيد. أما إذا كانت المصلحة في الفعل المشروع أكثر من المفسدة في المتوسل إليه فإنه يباح ولا يمنع وتفتح الذريعة وتباح هـذه الوسيلة.
3- أن يكون أداء الفعل المأذون فيه إلى المفسدة قطعا أو كثيرا غالبا، فهذا الفعل يمنع، وتسد ذريعته إلى المفسدة.
[ ص: 121 ] 4- أن يكون أداء الفعل المأذون فيه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا؛ كبيوع الآجال عند المالكية ؛ لأنها من وجهة نظرهم تؤدي إلى الربا كثيرا. وخالفهم
الشافعي فيها، يقول
مالك : «إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلا بإظهار صورة البيع لذلك، والشافعي ينتظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز ذلك»
>[10] . فعند القائلين بالمباح الذي يفضي إلى المفسدة كثيرا لا غالبا، والتي يجب سـدها عندهم، فإن لم تسد فهذه ملغاة بمعنى لا تقبل هـذه الوسيلة ولا تفتح فيها الذريعة، بل لابد من سدها.
5- أن تعود الوسيلة على المقصد بالإبطال، فإن كان ذلك ففي هـذه الحالة تلغى الوسيلة ولا تتخذ موصلا إلى المقاصد، لأن في إبطالها للمقاصد إبطالها أيضا، لأن الوسيلة مع المقاصد كالصفة مع موصوفها.
6- تكون الوسائل ملغاة إذا لم تشهد لها نصوص الشريعة بالاعتبار، بل تشهد لها بالإلغاء، فهذه لا يجوز التوسل بها إلى المقاصد، إلا للضرورة التي تقدر بقدرها. كما تلغى الوسائل ولو لم ترد فيها نصوص تدل على إلغائها، إذا كانت مخالفة لمقاصد الشرع وروح التشريع وكلياته العامة.
[ ص: 122 ]