المبحث الثاني
آدم، عليه السلام ، مؤسس الحضارة والعمران
شاء الله عز وجل أن خلق السماء والأرض وما بينهما، وأن ألوهيته تعالى شاملة لأهل الأرض وأهل السماء وسائر الأكوان.. وكما شاء أن يكون إعمار السماء ملائكة شاء أن يكون إعمار الأرض بشرا، وبذلك خلق
آدم ، عليه السلام ، وزوجه
حواء ، مستخلفين في الأرض، وبين تعالى منهج الخلافة فجعل عمارة الأرض في ظل منهج الله تختلف اختلافا رئيسا عن منهج عمارة الأرض في ظل منهج الشيطان، قال تعالى:
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) فكان جواب الرحمن لملائكته:
( إني أعلم ما لا تعلمون ) وأشار إليهم سبحانه أن هـذا المستخلف سيكون مسترشـدا بعلم الله، وعمارته للأرض ستكون على هـدى وبصيرة منه سبحانه، فقال:
( وعلم آدم الأسماء كلها ... ) (البقرة:30-33) .
إن خلق
آدم عليه السلام ، بادئ الأمر يؤكد وحدة الأصل البشري ووحدة الأبوة التي تشير إلى دلالات قوية وعميقة وإلى الحنين إلى هـذا الأصل الذي تشرف بالتكريم الرباني حين خلقه الله عز وجل بيديه الكريمتين ونفخ
[ ص: 85 ] فيه من روحه العلية:
( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) (ص:71-72) .
إنها إشارات قوية إلى بني الإنسان أن يحافظوا على هـذا التكريم الرباني بالتقوى، بقوله تعالى:
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (النساء:1) .
وقد وردت في أصل خلق
آدم أحاديث كثيرة لها دلالات وإشارات قوية، كما
( في حديث أبي موسى رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب ) >[1] - حضارة وعمارة على مفترق الطرق:
لقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يجعل من ذرية آدم مصلحين ومفسدين، وجعل عمارة الأرض قائمة على صراع دائم بين الحق والباطل وعلى سنة الدفع الكوني بين الخلائق والأكوان.
وتتضح هـذه الصيرورة السنية في أول بعث بشري على الأرض حين اعترض الشيطان على السجود لأكرم خلق استخلفه الله في الأرض
[ ص: 86 ] واستعمره فيها، قال تعالى:
( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هـذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما ) يعدهم الشيطان إلا غرورا
( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) (الإسراء:61-65) .
لقد افترق عباد الله في الأرض بين مصلح ومفسد من لدن
آدم عليه السلام ، إلى
محمد صلى الله عليه وسلم ذلك لأن آدم، عليه السلام ، خلق من طبيعة مزدوجة «من عنصرين اثنين: قبضة الطين ونفخة الروح، وما نشأ عن ذلك من وجود طريقين، طريق الطاعة وطريق العصيان، طريق التزكية وطريق التدسية، طريق الهدى وطريق الضلال، أولهما يكون حين تكون الروح في كيان الموحد المترابط فهي صاحبة السلطان، والآخر يكون حين يكون الجسد في الكيان الموحد المترابط هـو صاحب السلطان، ولكنه في كل حالاته روح وجسد مترابطان لا ينفصلان
>[2] إن طبيعة الانسجام في خلق آدم من طينة الأرض ثم استخلافه فيها هـو من باب تيسير سبل التعايش في طريق إنشاء حضارة تتناسب مع طبيعته
[ ص: 87 ] البشرية وحاجاته الأرضية، و
( وعلم آدم الأسماء كلها ) ، لقد علمه وأخبره بكل الوسائل والأدوات الأساسية لبناء حضارته على الأرض
( ... هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ... ) (هود:61) .
علمه أسماء كل شيء، وسخر له كل شيء في الكون، في البر والبحر والسماء
( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) (النحل:14) .. إن من الرحمة الربانية على العباد أن سخر لهم سبحـانه وتعالى الكون والحيـاة وكرمهم بآدميتهم على سائر المخلوقات.
إن نوع العمارة التي أرادها الله عز وجل لعباده هـي تلك العمارة المقرونة بالعبادة والطاعة والانقياد والشكر للنعم الوافرة، فإذا خرجت عن هـذا المفهوم فقدت مهمة الاستخلاف غايتها ومقصدها؛ لأن المستخلف يبتغي مرضاة من أهله لهذه الخلافة. والخروج عن الطاعة هـو جحود ونكران وعصيان لمنهج الله وأوامره.
إن المعرفة التي حازها الإنسان على مر الدهور والعصور تعود جذورها إلى أبيه
آدم عليه السلام ، الذي علمه ربه أسماء كل شيء وحاز الشرف الآدمي حين أسجد له الملائكة؛ وعليه فلا يصح منهجيا حينما نتحدث عن الحضارة الإسلامية أن نغفل الحديث عن جذورها الأولى.
[ ص: 88 ] ( أخرج البخاري عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك... ) >[3] ، فدل ذلك على أن الأمة المؤمنة هـي أمة واحدة، يعود أصلها إلى النبي
آدم عليه السلام ، الذي حمل رسالة العلم الحضارية إلى الناس جميعا من لدنه، عليه السلام ، إلى خاتم الرسالات والنبوات
محمد صلى الله عليه وسلم الذي ترعرع نوره وآدم بين الروح والجسد وصلا للماضي بالحاضر، وحفاظا على سريان دم العقيدة الواحدة في عروق الأمة المؤمنة.
وهناك روايات كثيرة تحقق أصل هـذا النور وانتقاله من صلب إلى صلب حتى صار إلى محمد صلى الله عليه وسلم . ولعل من أبرزها
( ما أخرجه البخـاري عن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بعثت من خير قرون بني آدم، قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه ) >[4] وهذا مما يشير ويؤكد الربط الحضاري بين سلالة الأنبياء في البناء العقيدي للأمم، وربط الشاهد بالغائب، من لدن
آدم عليه السلام ، إلى نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي هـذا السياق ينقل
الحافظ جلال الدين السيوطي من كلام
الإمام أبي الحسن الماوردي في كتاب «أعلام النبوة» قوله:
[ ص: 89 ] «لما كان أنبياء الله صفوة عباده وخيرة خلقه، لما كلفهم بالقيام بحقه والإرشاد لخلقه، استخلصهم من أكرم العناصر، واجتباهم بمحكم الأواصر، فلم يكن لنسبهم من قدح ولمنصبهم من جرح، لتكون القلوب لهم أصفى، والنفوس لهم أرضى، فتكون الناس إلى إجابتهم أسرع، ولأوامرهم أطوع، وإن الله استخلص رسوله صلى الله عليه وسلم من أطيب المناكح، وحماه من دنس الفواحش، ونقله من أصلاب إلى أرحام منـزهة»
>[5] .
إن الخلافة الراشدة والعمارة الراشدة تحقق حضارة راشدة، لذلك كانت قصة
آدم عليه السلام ، والتي حكاها القرآن الكريم في آيات متعددة ذات دلالة خاصة، فهي تحدد للبشر مبدأهم ومنتهاهم ودورهم في الأرض وخطة سيرهم فيها والعقبات التي تقابلهم.
وتتجلى العبرة واضحة في الصراع الذي سجله التاريخ بين الشيطان والإنسان، هـذا الصراع الذي امتد منذ الخليقة الأولى وسيبقى قائما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
[ ص: 90 ]