المبحث الثالث
محطات رسالية في عهود نبوية
إن نبوة
آدم عليه السلام ، تجلت في عمارة الأرض والاستخلاف للذرية، هـذه الذرية التي تناسلت منها فرق آدمية كثيرة،
( فعن أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كفه اليسرى إلى النار ولا أبالي ) >[1] .
- الرسالات النبوية نور حضاري للأمم
إن الأنبياء والرسل جميعا هـم من سلالة آدم، عليه السلام ، وفي عدتهم
( يروي أبو ذر الغفاري ، رضي الله عنه ، قال: قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم.. قلت: يا رسول الله، ونبي كان؟ قال: نعم، نبي مكلم.. قال: قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: ثلاث مائة وبضعة عشر جما غفيرا.. وقال مرة: خمسة عشر ) >[2] .
[ ص: 91 ] ( وفي رواية أخرى للإمام أحمد ، قال: قلت: يا رسول الله، كم وفى عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر جما غفيرا. )
وكثرة إرسال الرسل دليل على الاهتمام الرباني بالإنسان، الذي أكرمه ربه أحسن تكريم، فاهتم بكل الأقوام والأمم وأيدهم بنصره وبهديه حين أرسل الرسالات تترى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. فكلما خفت أو ولى نور حضارة أمة من الأمم، إلا وبعث الله نبيا يجدد انبعاث هـذا النور الهادي والمنير إلى طريق الرشاد،
قال تعالى:
( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) (النساء:163-165) ،
وقال تعالى:
( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ... ) (النحل:36) .
وكانت أول النبوات بعد وفاة
آدم عليه السلام ، نبوة
نوح عليه السلام ، وكان بينه وبين آدم عليه السلام ، عشرة قرون. " عن
ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على
[ ص: 92 ] الإسلام "
>[3] . وفي ذلك دلالة قوية على أن الشرائع التي أتى بها الرسل جاءت كلها على دين الإسلام؛ لأنها تحمل عقيدة واحدة وإن اختلفت الشعائر التعبدية. فاختلافها يتناسب وطبائع الأمم التي بعث إليها الرسل؛ هـذا في صورها وهيئاتها، بينما هـي في عمقها ودلالاتها واحد لا اختلاف فيه. والشواهد على ذلك كثيرة وأجلاها وأوضحها إمامته صلى الله عليه وسلم بجميع الأنبياء والرسل حينما أسرى به الله سبحانه وتعالى إلى بيت المقدس ليلة الإسراء. فدلت هـذه الإمامة على وحدة العقيدة والدين ووحدة الأمة المؤمنة، وهذا هـو مفهوم التعايش الحقيقي الذي دعا إليه كل الأنبياء والرسل.
ولما انتهت قرون الإسلام في عهد
آدم عليه السلام ، تلتها قرون الجهل والضلالة والكفر وعبادة الأصنام والطواغيت، حينها بعث الله نبيه ورسوله
نوحا عليه السلام ، فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض
>[4] كما في الصحيحين في حديث الشفاعة
( عن أبي هـريرة ، رضي الله عنه : «...فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، أما ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك... ) >[5] ؛ فدعا قومه إلى توحيد العبادة لله واجتناب الطاغوت
[ ص: 93 ] فقال لهم مخاطبا:
( ... اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) (الأعراف:59) .
لم تنجح فيهم دعوة
نوح عليه السلام ، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان وتنقصوه وتنقصوا من آمن به وتوعدوه بالرجم والإخراج
>[6] لقد اتسمت طباع قوم
نوح بالكفر والعناد والنكران في الدنيا وكذلك في الآخرة،
( فعن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يجيء نوح وأمته فيقول الله تعالى: هـل بلغت؟ فيقول: نعم، أي رب.. فيقول لأمته: هـل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي! فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته.. فنشهد أنه قد بلغ ) >[7] ، وهو المراد بقوله تعالى:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ... ) (البقرة:143) .
إنه ربط وتواصل في عالم الشهادة بين أبناء العقيدة الواحدة وأبناء الحضارة الواحدة، وأيضا هـو ربط وتواصل في عالم الغيب حتى تكون أمة الوسط والعدل شهداء وحجة على الرافضين لعقيدة التوحيد.
إن حضارة الإسلام هـي وصل بين الحاضر والماضي في عالم الدنيا وعالم الآخرة، وهي وصل وعلاقة متماسـكة تحكمها سنن ربانية لا تبديل فيها ولا تغيير لأمر الله ومراده في خلقه وكونه.
[ ص: 94 ] إن حضـارات الأنبياء تأتي لتتحـدى الجهل والطغيان والتمرد، فكلما آلت قيم البناء الحضاري في أمة من الأمم إلى السقوط والنكوص وساد الظلم والجهل، وتعددت المعبودات، وحصلت القطيعة بين عالم الغيب والشهادة يتجدد البعث النبوي، وتتبدل الأقوام بأخرى أفضل منها وأقوى على بناء بعث حضاري جديد قوامه العقيدة الواحدة.
إن أمة
محمد صلى الله عليه وسلم هـي الأمة الحق، التي «تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق بأن الله قد بعث نوحا بالحق، وأنزل عليه الحق، وأمره به، وأنه بلغه إلى أمته على أكمل الوجوه وأتمها، ولم يدع شيئا مما ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به، ولا شيئا مما قد يحزهم إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه. وهذا شأن جميع الرسل»
>[8] لقد سبق القول على الطاغين من قوم نوح فأصابهم الطوفان، وبأمر من الله عز وجل حمل نوح في سفينته من كل زوجين اثنين، من الحيوانات وسائر الأنعام، لبقاء الحياة وبقاء نسلها، وحمل معه أهله إلا من كفر منهم،
قال تعالى:
( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ) (هود:40) .
ثم قال تعالى:
( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) (هود:48)
[ ص: 95 ] هذا أمر
لنوح عليه السلام ، لما نضب الماء عن وجه الأرض وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر
جبل الجودي ، وهو جبل
بأرض الجزيرة مشهور
( بسلام منا وبركات ) أي اهبط سالما مباركا عليك وعلى أمم ممن سيولد بعدك، أي من أولادك، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا وعقبا سوى نوح، عليه السلام ،
قال تعالى:
( وجعلنا ذريته هـم الباقين ) (الصافات:77) .
فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة، وهم سام وحام ويافث
>[9] وبعد نوح، عليه السلام ، بعث الله من ذريته
هـودا ، عليه السلام ، إلى قومه عاد، وكانوا عربا يسكنون
الأحقاف وهي جبال الرمل
>[10] كانت
باليمن بين
عمان وحضرموت ، وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام،
كما قال تعالى:
( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ) (الفجر:6-7)
والمقصود بعاد ارم: عادا الأولى، وكانوا أول من عبد الأصنام، فبعث الله فيهم هـودا فدعاهم إلى عبادة الله،
وفيهم قال الله تعالى:
( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ... ) (الأعراف:65-69) .
[ ص: 96 ] لقد سخر الله
لعاد ، قوم هـود عليه السلام ، كل أسباب ومعالم الحضارة المادية والمعنوية، قوة في الأجسام، ووسائل العمران الضخمة، والعيون، والأنعام، وكل أسباب الرفاهية والغنى والرخاء، ثم بعث فيهم رسولا يردهم إلى وحدة العقيدة وإخلاص العبودية لله، لكن العصيان أعمى بصيرتهم وأفقدهم صوابهم، فأشركوا بالله الواحد القهار، وكفروا النعمة، وازدادوا طغيانا ونفورا من دعوة نبيهم
هـود ، عليه السلام .
ولقد عدد القرآن الكريم، من خلال قصتهم، النعم الحضارية، التي تضمن البقاء وتؤمن الاستخلاف والعمارة في الأرض،
فقال تعالى:
( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هـذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ) (الشعراء:123-139) .
إن هـذه الوقفات السريعة مع رسالة
نوح عليه السلام ،
وهود عليه السلام ، تدلنا دلالة قاطعة على المد الحضاري الذي سلكه هـؤلاء الرسل مع أممهم في تبليغ الرسالة الحضارية التي تحمل في صورتها وعمقها عناصر البقاء، وعناصر الحياة، وتتشرب روح العقيدة الإسلامية السمحة. وفي الوقت نفسه دلت نصوص القرآن الكريم على أن من أسباب سقوط الحضارات وزوالها عبادة ما سوى الله وتكذيب الرسل برسالاتهم.
[ ص: 97 ] فمفهوم الحضارة بهذا المعنى هـو اندماج وتزاوج بين الروح والمادة، فمهما تجوفت الحضارة من روحها سقط بناؤها وارتجت أركانها؛ لأن فضيلة الغنى المادي تكمن وتكتمل بفضيلة الغنى الروحي، الذي يضمن لها البقاء ويؤمن لها أوكسجين الحياة، فكم من غني يملك كنوز الدنيا لا يجد سعادة، وكم من فقير لا يملك قوت يومه ينعم بسعادة، والفرق بينهما تلك الروح الإيمانية التي تمد صاحبها بطاقة التنعم والتلذذ بعبقها وريحها. وهذا هـو السر العميق والحكمة البالغة في ازدواجية الخلق الآدمي، قبضة الطين ونفخة الروح؛ لأن أصل الحياة هـو هـذا التزاوج والاندماج بين هـذين العنصرين، المهمين في تحقيق مفهوم العمـارة والاستخـلاف، والغاية من خـلق آدم لا تنحصر في الإعمار وحده بل في تحقيق الاستخلاف عن طريق العبادة.
لذلك فإن «محاولة تحويل العبادة بالنسبة لله سبحانه وتعالى إلى مجرد الإقرار بوحدانيته، وتقديم شعائر التعبد إليه دون الطاعة والاتباع فيما أمر به من تشريعات وتنظيمات تنظم حياة البشر على الأرض، هـي مغالطة لغوية للمعجم القرآني فضلا عن زيغها العقيدي وضلالها السلوكي، ولكنها مغالطة مكشوفة حين نرجع إلى معنى العبادة بالنسبة للشيطان.
ومن ثم فإن (لا إله إلا الله) لا ينتهي مدلولها ولا مفعولها عند الإقرار بوحدانية الله وتقديم الشعائر التعبدية فحسب، بل معناها هـو الطاعة لله، والحكم بما أنزل الله واتباع منهج الله...
[ ص: 98 ] وحين نتدبر وضع عمارة الأرض في المنهج الرباني يتبين لنا أمران في وقت واحد:
الأمر الأول: أن عمارة الأرض في ظل منهج الله تختلف اختلافا رئيسا عن عمارة الأرض في منهج الشيطان، كلا المنهجين يستخدم قدرات الإنسان ومواهبه وقدرته على الإبداع، فيستخلص بذلك كل طاقاته في الكون ويسعى بالعلم النظري والتطبيقي إلى تسخير هـذه الطاقات لتعمير الأرض وتيسير الحياة للإنسان.
فالأول ينظر إلى الأمر على أنه عبادة فيتقي الله فيما يصنع، لا يظلم ليسيطر، لا يظلم ليقيم حضارة على حساب الآخرين، ولا يفسد الأخلاق ليقيم حضارة.
وأما الثاني: فإنه يعمر الأرض للاستمتاع ومن ثم تهون في نظره القيم كلها أو تنفى؛ لأن القيم كلها قيد على المتاع عن أن يكون متاعا حيوانيا وتطهيره ليكون خليقا بالإنسان.
الأمر الثاني: أن عمارة الأرض في ظل منهج الله لا يضع فارقا بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وإنما هـي أعمال كلها من نوع واحد وإن اختلفت أشكالها، تحمل معنى واحدا يتجلى في مفهوم العبادة»
>[11] [ ص: 99 ]