المبحث الأول
البعثة النبوية ولبنة التمام
لقد أشرقت نور الهداية من جديد على الإنسانية جمعاء حين بشرت
الجزيرة العربية بمولود أضاء مشارق الأرض ومغاربها، وارتج لمولده إيوان
كسرى وسقطت شرفاته، وخمدت نيران
فارس التي لم تخمد لمدة ألف عام، كما رواه
البيهقي وأبو نعيم وابن عساكر .
إنه النبي
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي كلف بالمهمة الصعبة بعد سلسلة من الرسالات والنبوات، التي تشكل حلقات متصلة من البناء الحضاري، وسننا كونية تعاقبت على مر الدهور والعصور من البناء والتشييد العقيدي والاجتماعي للإنسان.
فكلما أصاب أمة من الأمم خواء روحي، وتعمقت فيهم البلوى، وابتعد الإنسان عن طريق الهدى والحق، وجانب صفاء الفطرة التي جبل عليها، بعث البارئ سبحانه من يرد الناس إلى صوابهم ويضيء طريق هـدايتهم، حفظا لكرامة هـذا الإنسان الذي يطغى
( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ) (العلق:6-12) .
والأرض حين سلبت حياتها الروحية وتجردت من ازدواجيتها في الخلق، مادة وروحا، تجدد البعث النبوي بنـزول آيات الوحي الكريم على أكرم
[ ص: 118 ] المرسلين وأعظم المخلوقين، ليقرع من جديد جرس التغيير في مجتمع سادت في أرجائه جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، ليعيد إلى الحياة روحها وتوازنها، ويرمم معالم الحضارة النبوية بروح القرآن الكريم، الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
القرآن الكريم وسر التأثير:
إن سر تأثير القرآن الكريم في نفوس وقلوب الناس جلي وفريد، فهو كلام الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فسحره ونفاده يتجلى في كونه كلاما موحى، ليس من نظم البشر، وإنما هـو قانون سماوي تقشعر لسماعه جلود الذين يخشون ربهم وتلين وتسكن إليه،
قال تعالى:
( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هـدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هـاد ) (الزمر:23) .
فالقرآن الكريم مصدر معرفة وتربية، وهو مصدر اليقين في ماهية نشأة الإنسان ووظيفته الكونية في الاستخلاف والإعمار والعبادة، وهو طريق الهداية، للجن والإنس على حد سواء،
قال تعالى:
( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) (الجن:1-2) .
[ ص: 119 ] إن عمق تأثير القرآن الكريم في النفوس يؤكد قوة الوحي في تغيير واقع الناس، من الظلمات إلى النور، ولشدة تأثيره يقـول تعالى في وصف هـذه القوة وهذا النفاذ:
( لو أنزلنا هـذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) (الحشر:21) .
وهي صورة تمثل «الحقيقة الماثلة الكائنة لهذا القرآن، فإن فيه روعة وثقلا وأثرا مزلزلا لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته، فإن اللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحا لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيه اهتزازا ويرتجف ارتجافا، ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام، أو أشد، والله خالق الجبال ومنـزل القرآن»
>[1] ومن السيرة النبوية شواهد كثيرة لهذا التأثير والسحر الذي يحدثه القرآن في النفوس حتى مع الكفار والمرتدين:
لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم على
المغيرة بن شعبة ارتعد واقشعر بدنه وانهد جبروته واحتار في أمره فولى مسـرعا إلى قومـه، فسألوه كيف وجد ما يقوله
محمد صلى الله عليه وسلم فأجاب: «ماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه أو بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هـذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته»
>[2] [ ص: 120 ] وفي السياق نفسه يروي
ابن كثير عن
البيهقي من حديث
الزهري قال: «أن
أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق ، خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حيث إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقالوا لا نبرح حتى نتعاهد على ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا»
>[3] .
إن الامتدادات التأثيرية للقرآن الكريم خالدة وباقية بقاء الحياة، بقاء معجزته وحفظه وقوة بيانه ولفظه
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
ولعل أول تأثير زمني سجل في التاريخ الإسلامي هـو بداية نزول الوحي على
محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال له
جبريل ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ) وحينما نزلت عليه أيضا سورة المدثر، فذهب إلى زوجه
خديجة يرتعد ويرتعش من شدة ما سمع طالبا منها أن تدثره وتغطيه وتسانده في ثقل ما نزل عليه
>[4] .
[ ص: 121 ] وتتجلى هـذه الامتدادات التأثيرية في العهود التي تلت زمن البعثة
النبوية، وتجاوزت حدود الزمان والمكان لتشمل بعض أفئدة أهل الديانات الأخرى في عصرنا هـذا، فكان ذلك سبيلا إلى اعتناق الكثيرين منهم الدين الإسلامي، كالباحث المشهور
«رجاء جارودي» وغيره كثير. وفي هـذا السياق يذكر
الأستاذ محمد حنيف الإيراني المسلم، الباحث بالموسوعة الفقهية
بالكويت ، عن واقعة عاشها بنفسه، يقول:
«ذهبت إلى
لندن لإلقاء محاضرة في مسجد لندن، فوضع المكلفون بتنظيم المحاضرة شريطا من القرآن الكريم في مكبر الصوت لجمع الناس، وما أن قرئ القرآن وسمعه الناس حتى توافد على المسجد جموع من الإنجليز، وجلسوا يستمعون القرآن كأن على رءوسهم الطير، وما أن جاء وقت المحاضرة ونظرت إلى الناس فرأيت المسجد قد غص بالناس، حتى فرحت، ولكن بمجرد أن أغلق مكبر الصوت وانتهت القراءة، وبدأت في المحاضرة حتى رأيت الناس ينصرفون، فعجبت من ذلك ويئست، وبعد فراغي من محاضرتي سألت إمام المسجد عن هـذه الظاهرة فقال: لا تحزن، ليس في الأمر شيء، فقال: ما نكاد نفتح مكبر الصوت في قراءة القرآن الكريم حتى يتوافد الناس من الإنجليز على المسجد، ويجلسون كما رأيت خـاشعين، رغم أنهم لا يفهمون لغة القرآن ولا لفظه، ولكنه يأخذهم بسحر فيه وروعة في لفظه ونظمه وموسيقاه فإذا انتهت التلاوة قاموا. فقلت: سبحان الله، هـذه روعة الكتاب العزيز وقدسية الآيات تنفذ إلى أعماق الناس، وإن كان اللسان غير اللسان واللغة غير اللغة ولكن الخالق هـو المتكلم والآيات، والخلق عباده، والكون ملكه واللغات تدبيره وأمره»
>[5] .
[ ص: 122 ] خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
إن حقيقة النبي
محمد صلى الله عليه وسلم فصلت في دقائقها كتب الحديث النبوي الشريف وكتب السيرة العطرة، التي بحثت وجمعت أنواع السنة القولية والفعلية والتقريرية، وكذلك صفاته وشمائله وخصائصه صلى الله عليه وسلم من مولده إلى مماته.
بل اهتمت كتب السيرة أيضا بكل الأشياء المحيطة به صلى الله عليه وسلم من أشخاص وبقاع وأحداث وأزمان، كالحديث عن أزواجه الطاهرات، وصحابته الكرام، رضوان الله عليهم، وغزواته وكتاب الوحي، وشعرائه، ومؤذنيه، ورسائله، وكتبه، والوفود التي وفدت عليه...
لقد اصطفاه ربه على الخلائق كلها وخصه بمعجزة القرآن الكريم. فهو صاحب النبوة الخاتمة والرسالة المتوجهة للعالمين و «إمام المرسلين، وقرة عين كل الأصفياء، وسلطان جميع المرشدين، وزبدة كل المختارين والمقربين. فهو أعظم آية في كتاب الكون الكبير، وأعظم اسم في ذلك القرآن الكبير، وبذرة شجرة الكون وأنوار ثمارها وشمس قصر هـذا العالم، والبدر المنور لعالم الإسلام، والدال على سلطان ربوبية الله، والكشاف الحكيم للغز الكائنات، هـو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم »
>[6] .
[ ص: 123 ] نقل
الحافظ جلال الدين السيوطي من كلام
الإمام أبي الحسن الماوردي في كتاب «أعلام النبوة» قوله : «لما كان أنبياء الله صفوة عباده وخيرة خلقه، لما كلفهم بالقيام بحقه والإرشاد لخلقه، استخلصهم من أكرم الأصلاب، واجتباهم بمحكم الأواصر. فلم يكن لنسبهم من قدح، ولمنصبهم من جرح، لتكون القلوب لهم أصفى، والنفوس لهم أرضى، فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع، ولأوامرهم أطوع، وإن الله استخلص رسوله صلى الله عليه وسلم من أطيب المناكح، وحماه من دنس الفواحش، ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام منـزهة».
" يقول
ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في تأويل قوله تعالى :
( وتقلبك في الساجدين ) (الشعراء:219) «أي تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلك نبيا» "
>[7] فكان نور النبوة ظاهرا في آبائه، ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت، لانتهاء صفوتهما إليه، وقصور نسبتهما عليه، ليكون مختصا بنسب جعله الله للنبوة غاية ولتفرده نهاية، فيزول عنه أن يشارك فيه ويماثل فيه، فلذلك مات عنه أبواه في صغره. فأما أبوه فمات وهو حمل، وأما أمه فماتت وهو ابن ست سنين، وإذا اختبرت حال نسبه وعرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام، ليس في آبائه مسترذل، ولا مغمور ومستذل، بل كلهم سادة قادة؛ وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة.
وكان آباؤه صلى الله عليه وسلم ذوي أحلام فاخرة، وألباب وافرة، وأخلاق زكية، وهمم سنية.
[ ص: 124 ] وقد ألف الحافظ شيخ الحديث
جلال الدين السيوطي ستة تآليف في إيمان أبويه وأجداده صلى الله عليه وسلم ونجاتهم، وإن كان كل واحد منهم خير أهل زمانه ووردت أحاديث تنص على إيمان بعضهم، وأنهم كانوا على ملة
إبراهيم كخزيمة وإلياس ومضر >[8] ومعد
>[9] وعدنان وأبيه.
قال
ابن إسحاق ، بعد ذكر نسبه صلى الله عليه وسلم : فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف ولد آدم حسبا وأفضلهم نسبا من قبل أبيه وأمه صلى الله عليه وسلم
>[10] وفي شرف النبي صلى الله عليه وسلم يقول
ابن سبع في «شفاء الصدور»: «وهو النبي العربي الأبطحي الحرمي الهاشمي القرشي، نخبة بني هـاشم، المختار من سليل الحواضن وألباب خير المعادن، المطهر، المنتخب من أطيب بطون العرب، وأعرفها في النسب، وأشرفها في الحسب، ومن أنضرها عودا، وأفصحها لسانا، وأوضحها بيانا، وأرجحها ميزانا، وأصحها إيمانا، وأعزها نفرا، وأكرمها معشرا، من قبل أبيه وأمه...»
>[11] [ ص: 125 ] من تجليات بعثته صلى الله عليه وسلم
لما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة على الصحيح بعثه الله رحمة للعالمين ورسولا إلى كافة الثقلين أجمعين. ثم لما كان في غار حراء في شهر رمضان أوحي إليه في اليقظة، وظهرت على يده الآيات البينات والمعجزات الباهرات ونزل عليه القرآن، وقامت حجته بواضح البرهان. ومن بالغ حكمته سبحـانه وتعالى أن اختاره أميا لا يكتب ولا يحسب ولا يدارس عـلما ولـم يطالع كتابا، ولم يسافر قط في طلب علم، ولم يزل بين أظهر العرب يتيما ضعيفا مستضعفا، وكان أول ما بدء به من الوحي الرؤيا الصادقـة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وحبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتعبد الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، حتى جاءه الوحي وهو بغار حراء فنـزلت عليه سورة
( اقرأ ) >[12] .
وكان أول من آمن به صلى الله عليه وسلم زوجه
خديجة بنت خويلد ، رضي الله عنها ، ثم آمن به بناته
وعلي بن أبي طالب وكان صغيرا، ثم أسلم
زيد بن حارثة ، ثم دعا
أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، إلى الإسلام فأسلم على الفور، فكان أول من آمن إجماعا بعد أهل داره صلى الله عليه وسلم وعياله، ثم أدخل الله في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشى ذكر الإسلام
بمكة >[13] .
[ ص: 126 ] وبعدها صدع صلى الله عليه وسلم بما جاءه من الوحي والحق وامتثل لأمر ربه حين قال له
( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) (الحجر:94) ،
فلما صدع صلى الله عليه وسلم برسالته ونبوته لاقى من العذاب والعناء ما لاقاه الأنبياء والرسل قبله.
فكان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب ويطوف عليهم في منازلهم
بعكاظ والمجنة وذي المجاز وفي المواسم، ويدعوهم إلى توحيد عبادة الله
>[14] .
إنها محطات مثيرة ومشوقة تحكي كيف ظهر الإسلام ضعيفا ثم صار قويا حين تابع صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الناس، وجعل الإسلام يظهر ويعظم شأنه ويكثر المسلمون من النساء والرجال والولدان. ولما رأت
قريش قوة منعة الإسلام والمسلمين بعثوا إليه صلى الله عليه وسلم فجاءهم فسألوه وقالوا: إن كنت تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هـذا الذي يأتيك رئيا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طـلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال صلى الله عليه وسلم : «ما بي ما تقولون، ولكن الله بعثني رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»
>[15] .
[ ص: 127 ] " ومثل ذلك حدث مع
عقبة بن ربيعة حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى
( حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ... ) (فصلت:1-5) ،
فرجع إلى قومه وهم ينتظرونه فقال: «والله إني قد سمعت قولا ما سمعت بمثلـه قط، والله ما هـو بالشعر ولا بالسـحر ولا بالكهانة، يا معشر
قريش : أطيعوني، خلوا بين هـذا الرجل وبين ما هـو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فقد أجانبي بشيء والله ما هـو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم
( حم تنزيل من الرحمن الرحيم ) حتى بلغ
( ... فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) (فصلت:12)
فأمسكت فمه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن
محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب» "
>[16] من خلال هـذا السرد المختصر لبعض المحطات المهمة في مسيرة البعثة النبوية يتضح جليا كم من التضحيات وكم من الأذى لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار
قريش لأجل إرساء قواعد البناء الحضاري لهذا الدين، وتثبيت دعائم القيم الإنسانية النبيلة، ثم منها إلى بناء دولة حضارية إسلامية حينما أعلن صلى الله عليه وسلم الهجرة من
مكة إلى
المدينة ، وجعل
المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية، وكان بناء
المسجد النبوي أول معلمة ولبنة حضارية يضعها عند هـجرته صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 128 ] لقد تميزت نبوته صلى الله عليه وسلم بالاستقامة امتثالا لأمر الله تعالى:
( فاستقم كما أمرت ) فتجلت هـذه الاستقامة في أفعاله وأحواله وأقواله حتى وصفه ربه بقوله:
( وإنك لعلى خلق عظيم ) .
إن أحقية المكانة الرفيعة والمميزة التي نالها أكرم الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بين سائر الأنبياء أهلته ليكون حاملا للوحي الشامل والرسالة الخاتمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم :
- هـو أكمل من دل على جمال الله تعالى وكماله المطلق من خلال لفت الأنظار إلى جمال الصنعة، وكمال الإبداع، فكان بذلك ملبيا لإرادة الله تعالى في إظهار ذلك الجمال وتنبيه الخلق لروعته.
- أكمل من أعلن جميع مراتب التوحيد، فلبى إرادة رب العالمين في إعلان الوحدانية على طبقات المخلوقات، فكان بذلك أجلى مرآة وأصفاها لعكس محاسن جمال مالك العالم ولطائف حسنه.
- أكمل وأفضل من أحب الله تعالى وحببه إلى الخلق.
- أكمل مرشد للقرآن الكريم للجن والإنس أجمعين، فبإرشادهم عرفهم ما في خزائن الغيب المحجوب من كنوز مخفية وشوقهم إليها؛ وجلى أمامهم معاني آثار صانع الكائنات ليمعنوا من خلالها النظر والتفكر والاعتبار؛ وحل لهم لغز الوجود، فأجابهم عن الأسئلة المؤرقة والغامضة المحيرة للعقول؛ وبين لهم المقاصد الإلهية وسبل الوصول إلى مرضاة رب العالمين.
وبهذه الخصائص استحق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون بالبداهة أعظم من استوفى مهمة الرسالة بالقرآن الكريم، وأداها في أسمى مرتبة وأبلغ صورة وأحسن طراز
>[17] .
[ ص: 129 ] إن كمالات الحضارة الإسلامية في الإنسان المسلم تتجلي عندما نقتفي
أثر الحبيب المصطفى ونتبع سنتـه المطهرة، ونتمثل مكارم أخلاقـه، لقد تزين صلى الله عليه وسلم بأحسن المحاسن، وتنعم بكمال العبودية لله
( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ... ) (الفتح:29) .
إن علاقة الرسالة المحمدية بالإنسان والكون هـي علاقة تأسست وتتأسس على مر الدهور والأزمان على إنتاج الكمالات الفعلية والمعنوية على وجه الأرض لإعلاء شأن الإنسان، وتسخير الكون لأجل خدمته وخدمة البقاء النافع في الأرض
( ... فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) (الرعد:17) .
هـذه هـي روح الحضارة الإسلامية، فلولا هـذه الروح الزكية لسقطت الموجودات:
( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) (الإسراء:16) .
فبرسـالته ونبوتـه صلى الله عليه وسلم صار للحياة معنى وغـاية ومقصدا، وأصبح للعلاقات بين الأحياء معان إيجابية نقلتها من العداوة والتصادم إلى الأخوة والتحابب. وبالجملة فالرسالة المحمدية ارتفعت بالإنسان من درجة الحيوانية
[ ص: 130 ] والعجز والفقر، وغـيرت نظرته إلى الزمن، وهيأته للخلافة والارتقاء إلى أعلى المراتب في سلم الموجودات، فنقلته من طور البداوة إلى طور الحضارة.
انتقل أقوام
الجزيرة العربية من حياة بدائية سادها التعصب للعادة والعناد والخصام ومفاسد الأخلاق إلى حياة تنبع بالحيوية والهدوء والتفهم ومكارم الأخلاق حتى صارت أقواما مؤسسة لعالم التحضر والتمدن لمن جاء بعدهم من الأمم.
ولقد انبهر بهذا الإنجاز الحضاري لهذا النبي الكريم العديد من علماء ومفكري وأدباء الغرب، نذكر منهم الأديب الروسي
«تولستوي» الذي قال في مقالة له بعنوان «من هـو محمد»: «إن
محمدا هـو مؤسس ورسول، كان من عظماء الرجال الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخرا أنه أهدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام، وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهو عمل عظيم لا يقدم عليه إلا شخص أوتي قوة، ورجل مثله جدير بالاحترام والإجلال»
>[18] هذه بعض الملامح المشرقة من طبيعة الرسالة المحمدية ووظيفتها، التي جاءت هـداية للناس أجمعين وتوجيها لهم إلى المناهج القويمة في حياتهم الفردية والاجتماعية على السواء، فعموم الرسالة وشمول الهداية امتداد حضاري خالد مكفول حفظه من لدن حكيم خبير.
[ ص: 131 ]