المبحث الثاني
معاني اليسر والتسامح الحضاري
في شخصية الرسول الكريم
إن سماحة الإسلام وسعت كل شيء، ورحمته تعالى وسعت كل شيء، وكذلك عدله، وتجسدت هـذه المعاني في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
ولكلمة «سماحة» حمولة ودلالة عميقة، وهي وإن لم يرد ذكرها في القرآن الكريم إلا أنه ورد ما يدل على معناها في كثير من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة، من ذلك مثلا:
- قال تعالى:
( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) (النور:22) .
- وقال تعالى :
( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) (البقرة:109) .
- وقال تعالى:
( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) (آل عمران:133-134) .
[ ص: 132 ] - وقال تعالى:
( والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هـم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هـم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) (الشورى:37-40) .
فرسالة الإسلام، التي جاءت خاتمة للشرائع، اتسمت بالتخفيف واليسر على المكلفين، كما اتصفت بالعدل والصفح والعفو. والتيسير مقصد من مقاصد هـذا الدين، وصفة عامة لأحكام الشريعة الإسلامية، فهو دين اليسر ورفع الحرج عن الأمة، لقوله تعالى:
( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، وقوله تعالى:
( ... هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ... ) (الحج:78) .
واليسر هـو كل عمل لا يجهد النفس، وفي الحديث الصحيح:
( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) >[1] .
ومعاني اليسر ومظاهرها تتجلى في آيات الوحي الرباني وفي سيرة نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مقاصد الشريعة الإسلامية.. فهو صفة وصف بها الكتاب العزيز، حيث جعله رب العباد ميسر التلاوة، ميسر الفهم والتدبر والذكر،
[ ص: 133 ] يقول تعالى:
( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ) (مريم:97) .
وقد وجه الله تبارك وتعالى عباده إلى خطاب اللين والحكمة، وهذا ماثل في توجيهه لنبيه
موسى ، عليه السلام ، وأخيه
هـارون حـين أرسلهما إلى
فرعون :
( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) ، وقال تعالى أيضا:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ... ) (النحل:125) .
ومن الأحاديث الدالة على وصف الإسلام باليسر والرفق في كل شيء
( قولـه صلى الله عليه وسلم : إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ) >[2] ،
( إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه ) >[3] .
( وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما ، لما بعثهما إلى اليمـن : يسرا ولا تعسـرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا ) >[4] .
- يسر أحكام الشريعة الإسلامية
وتحرص قواعد الشريعة الإسلامية على حماية النفس البشرية، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أمته عن التشديد على النفس وعن الغلو في الدين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( إن هـذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا [ ص: 134 ] ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) >[5] ، كما نهى عن كثرة السؤال، رحمة وتيسيرا على الأمة، كما جاء في حديث الإسراء، عندما فرضت عليه صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة في اليوم والليلة، حينها استثقلها صلى الله عليه وسلم على أمته فراجع ربه جل وعلا مرات عديدة قصد التخفيف حتى وصلت خمسا بدل الخمسين، فكان من سماحة التشريع التخفيف في الأداء والتعظيم في الجزاء، فكان لهم من الأجر ما يعادل أجر الخمسين صلاة بدل الخمس.
وحين نتأمل قوله سبحانه وتعالى :
( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ... ) (البقرة:286) ،
يزداد المقام وضوحا وجلاء بيسر الإسلام وسماحته وعلو مقامه الحضاري بين المعتقدات والأديان. فقد خففت الكثير من العبادات في مقامات متعددة، فللمسافر قصر الصلاة الرباعية ركعتين، وله أن يفطر،كما أسقطت الصلاة والصوم عن الحائض والنفساء، على أن يقضى الصوم دون الصلاة، وجوز للمريض الفطر في رمضان، ورفع التكليف عن ثلاثة:
( عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق ) >[6] - التسامح مع الآخر فضيلة حضارية
ومن أعظم ما تميزت به الشريعة الإسلامية الاهتمام بحقوق الإنسان والعناية بإنسانيته، بغض النظر عن عقيدته أو لونه أو جنسه أو مركزه
[ ص: 135 ] الاجتماعي. وتشدد آيات كثيرة على صون كرامة الإنسان بإحقاق الحق ونشر العدل بين الناس،
كما جاء في قوله تعالى:
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) (النحل:90) ،
وفي قوله تعالى:
( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) (النساء:105) .
إن حث القرآن الكريم على العدل والرحمة بين الناس هـو من صفات هـذا الدين، الذي استوعب كل معاني الخير والفضيلة، مع الناس كلهم، مهما اختلفت مشاربهم العقدية والقطرية، وجاء التوجيه بخاصة إلى الإنسان المؤمن بأن يمتثل مكارم الأخلاق تجاه الآخرين،
كما في قوله تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هـو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8) .
ويؤكد الإسلام هـذه المعاني ويحث عليها حتى مع غير المسلمين،
يقول تعالى:
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) (العنكبوت:46) .
وهناك صورة أخرى من صور سماحة الإسلام ورحمته حتى مع المشركين، الماثلة يقول تعالى:
( وإن أحد من المشركين استجارك [ ص: 136 ] فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) (التوبة:6) . وهذا قمة في الوفاء بالعهود بين المسلم وغير المسلم مما ينبغي أن نتمثله في أيامنا هـذه، التي انقلبت فيها المفاهيم وانتشرت فيها أنواع من البغضاء والكراهية حتى بين أبناء العقيدة الواحدة، حيث انتشرت الفرق، وتبنى كل فريق تصورا خاصا به، منها ما هـو بعيد عن الفهم الصحيح للإسـلام الحقيقي، الذي ظل وبقي وسيبقى محفوظا بحفظ الله لقوله تعالى:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) .
فما أحوج الناس إلى هـذا الهدي الرباني، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. ولأجـل الاعتبار والتبصر والتذكر نسوق بعض خصاله صلى الله عليه وسلم في عفوه ويسره وصفحه.
- الهدي النبوي في اليسر والعفو والصفح
إن عودة حقيقية متأنية لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجعلنا نسترشد بهديه صلى الله عليه وسلم ونصحح أخطاءنا، ونستصوب هـفواتنا، ونتقي شر كل بأس يقودنا إلى هـلاك عقيدتنا وأخلاقنا ويجرنا إلى الفتن، فكان أمره صلى الله عليه وسلم مع رعيته ثلاثة أحوال: «فإنه لا بد له من حق عليهم يلزمهم القيام به، وأمر يأمرهم به، ولا بد من تفريط وعدوان يقع منهم في حقه، فأمر أن يأخذ من الحق الذي عليهم ما طوعت به أنفسهم وسمحت به وسهل عليهم ولم يشق، وهو العفو الذي لا يلحقهم ببذله ضرر ولا مشقة، وأمر أن يأمرهم بالعرف، وهو المعروف الذي تعرفه العقول السليمة، والفطر المستقيمة، وتقر بحسنه ونفعه، وإذا أمر به يأمر بالمعروف أيضا لا بالعنف والغلظة، وأمر أن يقابل جهل الجاهلين منهم بالإعراض عنه دون أن يقابله بمثله، فبذلك يكتفي شرهم»
>[7] .
[ ص: 137 ] فهو صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق عن الهوى، فقد رسم الطريق الصحيح لأمته، وأمرهم باتباع الأوامر واجتناب النواهي، كان يأمر صحابته باللين في كل شيء، والرفق في كل شيء، ومع المخلوقات كلها،
( حيث قال صلى الله عليه وسلم : «في كل كبد رطبة أجر ) >[8] كان لا يحب أن يعتدى حتى على الطائر الصغـير فما بالك بالإنسان الذي كرمه خالقه!
ومنهجه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس كلهم يتسم باليسر والتسامح، وقد تعايش صلى الله عليه وسلم مع العقائد والأديان المختلفة، ومن أبرزها أهل الذمة.. «فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، والمحاربون له خائفون، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب.
وأما سيرته في المنافقين، فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمره ربه أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم...
[ ص: 138 ] «وأما سيرته في أوليائه وحزبه، فأمره أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وألا تعدوا عيناه عنهم، وأمره أن يعفو عنهم، ويستغفر لهم، ويشاورهم في الأمر، وأن يصلي عليهم، وأمره بهجر من عصاه، وتخلف عنه، حتى يتوب ويراجع طاعته كما هـجر الثلاثة الذين خلفوا».
وأمره أن يقيم الحدود على من أتى موجباتها منهم، وأن يكونوا عنده في ذلك سواء، شريفهم ودنيئهم.
وأمره ربه، في دفع عدوه من شياطين الإنس، أن يدفع بالتي هـي أحسن، فيقابل إساءة من أساء إليه بالإحسان، وجهله بالحلم، وظلمه بالعفو، وقطيعته بالصلة، وأخبره أنه إن فعل ذلك عاد عدوه كأنه ولي حميم»
>[9] ،
يقول تعالى:
( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هـي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (فصلت:34) .
هذا هـو منهجه صلى الله عليه وسلم مع أنواع البشر وأنواع العقائد، كان حلمه يسبق غضبه، وعفوه عقابه، ورشده غزوه، وبين للناس أصول الخير والشر ومعالم الفتن، ولزوم جماعة المؤمنين، وكأنه صلى الله عليه وسلم يعيش في عصورنا هـذه، عصور الفتن والتطرف والهلع.
( فعن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخـافة أن يدركني، فقلـت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هـذا الخير من شر؟ قال: نعم..قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير [ ص: 139 ] هـديي، تعرف منهم وتنكر.. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنـم، من أجابهم إليهـا قذفوه فيها.. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ قال: هـم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) >[10] .
هذه صورة دقيقة الوصف في استجلاء حقيقة تطابق شر بعض أهل هـذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن، وبتعبير العصر: استشرى فيه الفزع وولى فيه التسامح والصفح والعفو.. ومما يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
( يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقـى الشح، وتظهر الفتـن، ويكثر الهـرج، قالوا: يا رسول الله، أيم هـو؟ قال: القتل القتل ) >[11] .
لذلك كان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه وسائر أمته أن يلتزموا الرفق في كل شيء، والتسامح ونشر العدل بين الناس، والابتعـاد عن الغلو والتطرف، ولم يكن يكره أحدا ما على الدخول في الإسلام وإنما كان يبين ويرشد بمكارم أخلاقه، وبقدوته الحسنة، وبصفحه وعفوه، فكان نبراسا مضيئا لكل من كان في قلبه ذرة خير أو ألقى السمع وهو شهيد.
كان الناس عنده سواسية، لم يكن يفاضل بين هـذا وذاك، بل جعل لكل أهل عقيدة حقوقا وعهودا ومواثيق، احترم بنودها، وأدى حقوقها:
[ ص: 140 ] ( ...وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعـين، لا يقبل منه يوم القيـامة صرف ولا عدل ) >[12] ؛
( المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) >[13] فدل ذلك على أن النصرة والمعونة إنما تكون بين المسلمين، بعضهم لبعض، وأن دماءهم متساوية في القصاص، يقاد الشريف منهم بالوضيع، والكبير بالصغير، والعالم بالجاهل، والرجل بالمرأة.
وأن المسلم إذا أمن كافرا حرم على عامة المسلمين دمه، حتى وإن كان هـذا المجير أدناهم، كأن يكون عبدا أو امرأة أو أجيرا، ولا تخفر ذمته.
إنها قيمة حضارية كبرى أضافها تسامح الدين الإسلامي مع المعتقدات والديانات الأخرى، ففتح جسور المحبة والتكافل والتضامن، وسعى إلى نشر الأمان والسلام في الأوطان جميعا.
[ ص: 141 ]