خاتمة
يتبين مما سبق أن جذور الحضارة الإسلامية راسخة في الأرض، وأن فروعها ثابتة في السماء، نبعها عقيدة صافية وإيمان قوي، ما أحوجنا اليوم لتجديدها وتدعيمها واستثمارها.
إن تاريخ الحياة في الأرض هـو تاريخ البشرية، الذي تعاقب عليه أنبياء ورسل أضاءوا الطريق لأقوامهم نحو الحق، فجاهدوا في الله حق جهاده، بالعلم والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، فصبروا على أذى أقوامهم وأخذوا بأيديهم، ومضوا في دعواتهم دون ملل أو كلل في سبيل إسعادهم،
قال تعالى:
( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) (البينة:5) .
وإذا تأملنا مراحل دعوات الأنبياء والرسل تتكشف لنا حقيقة واحدة تؤكدها السنن الإلهية في الكون، وحركة التـداول الحضاري، تتجلى في أفول مظاهر الفساد واندراسه واندثاره،
مصداقا لقوله تعالى :
( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) (الإسراء:16) .
ثم ينشئ الله من الفئة المؤمنة أقواما آخرين.. وتشكل هـذه الفئة المؤمنة في كل عهد الجذور الراسخة للحضارات. وبين كل عهد وعهد نهوض وسقوط، يقول تعالى:
( ولكل قوم هـاد ) فإذا عم الفساد في قوم
[ ص: 159 ] وابتعدوا عن الصراط المستقيم وخلطوا العمل الصالح بالعمل السيء، وتفشت فيهم الوثنية وعم البلاء بعث الله نبيا يذكر ويجدد دعوة من سبقه من الرسل، وهكذا إلى أن ختمت هـذه الرسالات برسالة إمام المرسلين وخاتم النبيئين
محمد رسول الله.. فكانت رسالته بذلك رسالة حضارية كاملة، جمعت بين العناصر الحقيقية للرقي والريادة، وشكلت حقائق راسخة ثابتة بنى عليها القرآن الكريم منهجه الحضاري الإنساني، الذي توافقت مبادئه مع مبادئ الفطرة الثابتة المستقيمة التي فطر الله الناس عليها،
قال تعالى:
( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:30) .
لقد وعد الله سبحانه عباده المؤمنين بالتمكين والاستخلاف، استخلافا حضاريا عميقا:
( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ... ) (النور:55) .
إن التمثل بقيم الإسلام الحضارية هـو السبيل إلى تحقيق حضارة نافعة تشمل العمران والاقتصاد والسياسة والاجتماع والتقدم في سائر العلوم والمعارف، وترسخ المعالم الإنسانية النبيلة التي تنشر الأمن والاستقرار والفضيلة بين كل الناس من مختلف الأعراق والأجناس والعقائد.
فالقيم الإسلامية النبيلة هـي ثمار طيبة من شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
[ ص: 160 ] أما غيرها من الأشجار، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبارك يوما في ثمار الشجرة الخبيثة، التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؛ وأمثال هـذا الضرب كثير في القرآن الكريم من مثل
قارون وماله ومآله، ومثل أقوام عاد وثمود وغيرهم، ممن صور لنا القرآن الكريم مآل أحوالهم وعواقبهم،
يقول تعالى:
( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) (غافر:82-85) .
إن استنطاق النصوص القرآنية الداعية إلى الاعتبار بما آل إليه السابقون من الأمم الهالكة -بسبب فسوقها وفجورها وابتعادها عن التعاليم الربانية- تتأكد حاجتنا الأكيدة إليها اليوم لأجل الاعتبار والتذكر وتصحيح المسار، والاستفادة من عبر التاريخ، والإيمان بالسنن الربانية القاطعة البرهان، المتجلية في كافة الأمكنة والأزمان.
ولعل الغفلة التي تكتسحنا اليوم تحتاج إلى استنهاض الهمم وإلى تجديد الطاقات الإيمانية، وإلى تصحيح سلوكنا والعودة إلى القيم النبيلة الطاهرة التي تكفل وتضمن لنا بناء حضاريا بمواصفات إسلامية حقيقية، ننشدها في كل الطاقات الحية، بالدين والعلم والإخلاص في العمل. وبالله التوفيق.
[ ص: 161 ]