2- الحريات ومرتكزاتها في التصور الإسلامي
وهذا التكريم الذي أولاه الإسلام للإنسان لا يمكن أن يتصور إلا مع ( الحرية ) بكل مقوماتها؛ ومن ثم كانت ( الحريات العامة والخاصة )
>[1] ، التي تعني: امتلاك الإنسان لإرادته والتصرف بها، وصدور الأفعال عنها، لا عن إرادة غريبة عنه - وضمن حريات الآخرين - في شتى مجالات حياته: العقدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها
>[2]
هـي روح تلك الحقوق، وأهمها -في التصور الإسلامي- لتحقيق إنسانية الإنسان وكرامته، بل وعبوديته التي تقتضي أن يكون الإنسان حرا؛ لأن تعطيل حريته يتناقض ومعنى العبادة التي خلقنا الله من أجلها، ويتنافى مع معنى التكاليف -وهي أساس العقائد والتشريعات الإسلامية- التي أمرنا بها، كما ان منهجية التغيير
[ ص: 48 ] التي دعانا الإسلام إليها قائمة على تلك الحرية، منوطة بإرادتنا،
قال تعالى:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( الرعد: 11) .
ومن هـنا كانت الحرية مقصدا ضروريا من مقاصد الشريعة ، بل إننا لا نغلي إذا قلنا: إن الحرية، بتعبيراتها المختلفة - في التصور الإسلامي - مساوقة للوجود؛ " فحق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هـو مقدار ما عنده من حرية. والمعتدى عليه في شيء من حريته كالمعتدى عليه في شيء من حياته. وما أرسل الله الرسل وما شرع لهم الشرع إلا ليحيوا أحرارا، وليعرفوا كيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية.. وما انتشر الإسلام في الأمم إلا لما شاهدت فيه من تعظيم للحياة والحرية والمحافظة عليهما، وتسويته بين الناس فيهما، مما لم تعرفه الأمم من قبل لا مملوكها ولا أحبارها ورهبانها "
>[3]
فالإسلام لا يرى قيمة للحياة الإنسانية بدون الحرية، فلا يقبل من الفرد أن يقع في هـاوية العبودية، ولا من الجماعة أن تقع في هـاوية الاستعباد، وهذا واضح في كل نصوصه التي تلتقي جميعها حول مفهوم ثابت، وهو: أن الناس قد ولدوا أحرارا، وحريتهم في الحياة مطلقة في كل شيء، لا تقيد إلا بالضوابط التي شرعها الله سبحانه وتعالى ، للحفاظ على الحياة، وإقامة العدل بين الناس، في إطار مذهبي متوازن قادر على ضبط الحركة الاجتماعية
[ ص: 49 ] - في مفهومها الواسع - بين الفرد والجماعة بلا إفراط ولا تفريط
>[4]
، هـذا ما يؤكده القرآن الكريم في كثير من آياته؛ وإيماءات مكارم الأخلاق التي بعث لها النبي صلى الله عليه وسلم
تلتقي كلها مع تفريعات معنى الحرية ولوازمها الجزئية؛ وتؤكده الممارسة العملية لحقوق الإنسان في الحضارة الإسلامية في مرحلة النبوة والخلافة الراشدة، وفي فترات التاريخ المتعددة كلما صوب المسار، وقد كان شعار الحضارة الإسلامية في مسيرتها الراشدة، مقولة سيدنا
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
: " متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ ! "
>[5]
ومن هـنا أوجب بعض الفقهاء على المسلم تعليم الناس طلب الحرية؛ إذ " الحرية أثمن ما يملكه الإنسان، فيجدر بالمسلم أن يعشقها عشقا، ويهيم بها غراما، ويلقنها لغيره، ليظاهروه في تحصيلها وإدامتها. كما أن الحرية هـي البيئة التي تنفجر فيها كل الأخلاق الإيجابية، والقدارت الإنتاجية، وإذا أراد المسلم توفير المصالح للأمة وتطويرها ودفعها في مدارج الارتقاء، فإن الحرية تختصر له الطريق والجهد "
>[6] [ ص: 50 ]
وبهذا نستطيع أن ندرك -بوضوح- الفرق بين التصور الإسلامي للحرية، وغيره من التصورات، إذ " الحرية في مفاهيم الحضارة الرأسمالية حق طبيعي للإنسان، وللإنسان أن يتنازل عن حقه متى شاء، وليست كذلك في مفهومها الإسلامي؛ لأن الحرية في الإسلام ترتبط ارتباطا أساسيا بالعبودية لله فلا يسمح الإسلام للإنسان أن يستذل ويستكين ويتنازل عن حريته " لا تكن عبدا لغيرك وقد خلقك الله حرا " . فالإنسان مسئول عن حريته في الإسلام،وليست الحرية حالة من حالات انعدام المسئولية "
>[7]
هـذا، والإسلام في تقريره لحريات الإنسان وحقوقه يقوم -بخلاف التصور الغربي- على مرتكزات تضمن بقاء الهدف أو السير به إلى ذروته الممكنة، وهذه المرتكزات يمكن تمثلها في أمور ثلاثة:
أولا: تحرير الوجدان من العبودية لغير الله عز وجل
فقد جاء الإسلام ثورة على الطواغيت والظلمة، محررا إرادة الإنسان من أي عبودية لغير الله، ومخلصا له من سيطرة الأصنام، كل الأصنام التي رزحت الإنسانية في قيودها عبر التاريخ،
قال تعالى:
( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) ( الأعراف: 157) ،
[ ص: 51 ] وشعاره فى ذلك: " إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد على عبادة الله وحمده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام "
>[8] .
وهذه الحقيقة الكبرى تعتبر أعظم ثورة شنها الأنبياء -عليهم السلام- ومارسوها في معركتهم من أجل تحرير الإنسان من عبودية الإنسان
( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) ( الأنبياء:25 ) .
وتعني هـذه الحقيقة: أن الإنسان حر ولا سيادة لإنسان آخر أو لطبقة أو لأي مجموعة بشرية عليه، وإنما السيادة لله وحده، فالإسلام ليس لدينه كنيسة ولا رجال دين، ولا معصوم -كما هـو حال البابا- والفقهاء رجال علم، قيمة ما يقولون تتأتى من قوة الدليل وصحته، وليس من مركز " المعصومية " التي لا تخطئ. وفي هـذا يصور القرآن الكريم أن البشرية في أعلى صورها وهي النبوة، وأن النبوة في أعلى صورها وهي محمد صلى الله عليه وسلم تؤمر وتنهي من قبل الله ولا تملك لنفسها شيئا
( قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ) ( الجن: 21-22) .
والإسلام إذ يؤكد هـذا التحرير الداخلي أو البناء الداخلي لكيان الإنسان، إنما يهدف إلى تأصيل المنطق الأساس، وتاكيد العامل الفاعل والحاسم في صياغة وتكوين شخصية الإنسان المؤهل لحمل مسئوليات أمانة
[ ص: 52 ] الاستخلاف في الأرض، وليؤكد -كذلك- المرتكز الفعال في تحقيق كرامة الإنسان وحرياته، وفق إرادة الله تعالى؛ إذ يترتب على هـذا التحرر الداخلي من عبادة غير الله، أن:
- يتحرر الإنسان من سلطان البشر وتسلط الجبابرة ومن الخضوع لأي أحد مهما كان: " فما لأحد عليه غير الله من سلطان، وما من أحد يميته أو يحييه إلا الله، وما من أحد يملك له ضرا ولا نفعا، وما من أحد يرزقه من شيء في الأرض ولا في السماء، وليس بينه وبين الله وسيط ولا شفيع، والله وحده هـو الذي يستطيع، والكل سواه عبيد، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا.. ولا حاكمية لغيره كي لا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله، ولا يكون لأحد منهم فضل على أحد إلا بعمله وتقواه "
>[9]
قال تعالى:
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران: 64) .
- يتحرر الإنسان من سلطان الخوف على الحياة أو على الرزق، أو الخوف على المكانة والمنصب والجاه: " وهو شعور خبيث يغض من
[ ص: 53 ] إحساس الفرد بنفسه، وقد يدعوه إلى قبول الذل، وإلى التنازل عن كثير من كرامته، وكثير من حقوقه، فالحياة بيد الله، وليس لمخلوق قدرة على أن ينقص هـذه الحياة ساعة أو بعض ساعة "
>[10]
، وكيف يمكن أن يطمح بالحرية -في ميدان من الميادين- إنسان حرم من الحرية في معيشته وربطت حياته الغذائية ربطا كلاما بهيئة معينة ؟! ولهذا كان الإسلام حريصا كل الحرص على تأكيد أن هـذه الأمور كلها -من حياة وموت ورزق وجاه وغيره- بيد الله وحده،
قال تعالى:
( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ) ( فاطر: 2-3) ،
( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ) ( آل عمران: 145) ،
وقال:
( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هـو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ( التوبة:51) ،
وقال:
( وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ) ( العنكبوت: 60) ،
وقال:
( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم ) ( الانعام: 14) ،
- يتحرر الإنسان من عبودية الشهوات والأهواء: فقد تتحرر النفس من كل قيد خارجي، لكن عوائق الإرادة الحرة ليست كلها خارجية، فقد
[ ص: 54 ] " يأتي لها القيد من داخل، حين تنفلت منه من خارج، فلا تبلغ التحرر الوجداني الكامل الذي يريده الإسلام لها "
>[11]
وكثيرا ما يؤتى المرء من قبل شهواته وملذاته، فيقبل ما لم يكن ليقبل، ويخضع لما لم يكن ليخضع، ويرتكب ما لم يكن ليرتكب، وبغير التحرر الكامل من الداخل والخارج، فلن تقوى النفس على عوامل الضعف والخضوع والعبودية، ومن ثم كانت عناية الإسلام بتحرير النفس من دخائلها وتزكية أغوارها:
( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ( التوبة: 24) ،
" وهكذا يجمع في آية واحدة جميع اللذائذ والمطامح والرغائب ونقط الضعف في نفس الإنسان؛ ليضعها في كفة، ويضع في الكفة الأخرى حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله؛ لتكون التضحية كاملة، والتخلص من أوهاق الشهوات كاملا. فالنفس التي تتحرر من هـذا كله، هـي النفس التي يتطلبها الإسلام، ويدعو إلى تكوينها؛ لتستعلي على الضراوة المذلة، وتملك قياد أمرها، وتنزع إلى ما هـو أكبر وأبعد مدى من الرغبات الوقتية القصيرة "
>[12] [ ص: 55 ]
- يتحرر الإنسان من عبودية ذاته، وتعظيم شخصه ومكانته، فلا يعبد ذاته وهواه
( أرأيت من اتخذ إلهه هـواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هـم إلا كالأنعام بل هـم أضل سبيلا ) ( الفرقان: 43-44) ،
ولا يستهين بمن حوله، ولا يستعلي على الآخرين بظلم وجور، ولا يقلل من شأنهم، فما هـو إلا عبد من عبيد الله سبحانه، والكل له عبد
( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ) ( لقمان: 18) ؛
لأنه مهما ملك وتجبر، فهو في قبضة الله الجبار الذي يستطيع أن يسلبه كل شيء في لحظة، فيبقى صفر اليدين، لا يملك الهباء، بل تلفظه كل ذرة في الأرض والسماء:
( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم [ ص: 56 ] ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) (القصص: 76- 83) .
هكذا كان قارون، وهكذا كانت نهاية فعله، وهكذا يتكرر هـذا الأنموذج النكد القبيح من عبادة الذات، واستعباد الأخرين، كلما انتكست قيم الإيمان، وكلما اختلت معايير العبودية لله
>[13]
وبهذه الخطوات المنهجية حرر الإسلام الإنسان وجدانيا من العبودية لغير الله، ووضع حدا نهائيا لكل ألوان التحكم وأشكال الاستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان.. ومن ثم كانت " الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة: الخروج عن رق الكائنات، وقطع جميع العلائق والأغيار "
>[14] أي: انقطاع الخاطر من تعلق ما سوى الله تعالى بالكلية.
فعبودية الإنسان لله -في التصور الإسلامي- هـي الأداة التي يحطم بها الإنسان كل سيطرة وكل عبودية أخرى؛ لأن هـذه العبودية في معناها
[ ص: 57 ] الرفيع تشعره بأنه يقف وسائر القوى الأخرى التي يعايشها على صعيد واحد، أمام رب واحد، فليس من حق أي قوة في الكون أن تتصرف في مصيره، وتتحكم في وجوده وحياته
( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) ( الأعراف: 194- 198) .
فلا سبيل -إذن- للانفكاك والتحرر إلا بمنهج العبودية لله وحده، الذي تتحطم بين يديه كل القوى الوثنية -المادية والمعنوية- التي هـدرت كرامة الإنسان على مر التاريخ. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) ( البينة:1)
فالإنسان الجدير بصفة " الحر " هـو المؤمن الذي خلص من كل ظل للعبودية إلا لله
>[15]
وكلما زاد إخلاصا في العبودية لله زاد تحررا وانفكاكا من الخضوع لأي شيء سواه -بخلاف الحرية في الديمقراطية الرأسمالية ، إذ لا تعني رفض سيطرة
[ ص: 58 ] الآخرين فحسب، بل تعني أكثر من هـذا سيطرة الإنسان على نفسه وانقطاع صلته عمليا بخالقه وآخرته
>[16]
- وانفكاكا عن الضلالات التى كانت البشرية تائهة فى ظلماتها، ولن يكون في حاجة لمن يهتف له بالحرية لفظا، وقد استشعرها في أعماقه معنى ووجودها في حياته واقعا، " والذين يتحدثون عن " كرامة الإنسان " أو عن " حقوق الإنسان " أو عن " حرية الإنسان " أو حتى عن " إنسانية الإنسان " في ظل أنظمة وأوضاع من صنع البشر، يعبد فيها العبيد العبيد، إنما يتحدثون عن خرافة، وإنما يخدعون أنفسهم، أو يخدعون غيرهم.. "
>[17]
إنها وحدها عبودية المسلم، وسجداته لله تعالى، عنوان العلو، وشارة الحرية والبراءة من كل طاغوت
سجدة تخفص الجباه ولكن عز فيها مسبح وتعالى ظنها الجاهلون غلا على العبد
ولكن تحطم الأغلال خر فيها لساجد كل شيء
يرهب الكون قوله والفعالا تثبت الوجه والجوارح في الأرض
ولكن تقلقل الأجبالا تهدم الشرك والوساوس في النفس
ولكن تشيد الأجيالا في سكون، وللقلوب مسير
سخر الأرض رهبة وجلالا من وعاها: وعى السيادة في
الأرض جلالا، ورحمة، وجمالا >[18]
[ ص: 59 ] واسمها: سجدة الحرية، بها يكسر المسلم قيد الهوى، فإذا به " يصبح حرا. حرا يتلقى التصورات والنظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده، شأنه فى هـذا شأن كل إنسان آخر مثله، فهو و كل إنسان آخر على سواء، كلهم يقفون في مستوى واحد، ويتطلعون إلى سيد واحد، ولا يتخذون بعضهم بعضا أربابا من دون الله "
>[19] ثانيا: تحرير العقل من الخرافات واتباع الأوهام
فإذا كان الإسلام قد حرص على تحرير الإنسان من سلطان العبودية لغير الله سبحانه، فإنه حرص -كذلك - على تحرير عقله من سلطان الخرافة والشعوذة ، وأعتق نفسه من أسر الوهم والخوف، فتم له بمقتضى دينه، كما قال
الشيخ محمد عبده : أمران عظيمان طالما حرم منهما، هـما: إستقلال الإرادة، وإستقلال الرأي والفكر، وبهما كملت له إنسانيته، واستعد لأن يبلغ من السعادة ماهيأه الله له بحكم الفطرة التي فطر عليها
>[20]
، فحرية الوجان وتحريره من الرق والعبودية لغير الله متلازم مع حرية العقل وتحريره من الأوهام والانغلاق والتبعية العمياء، والدين الإسلامي بقدر ما جاء يؤسس الحياة على دعائم الوحي، فإنه جاء يعلي من
[ ص: 60 ] شأن العقل، ويرفع من مقامه، ويجعل منه ظهيرا للوحي في قيادة الحياة، كما جعل مصير الإنسان فيما ينتهجه من منهج، وما يهدف إليه من غاية رهين اشتراك بين وحي إلهي وبين عقل بشري
>[21]
؛ ومن ثمة:
1- خاطب الإسلام العقل ، وجعله هـو المخاطب بفهم الخطاب الالهي وفقه الحكم الشرعي ( أي: فقه الأوامر المنزلة، قرآنا وسنة ) وتنزيله إلى واقع الحياة، وحرصه على النظر والتفكر، وقراءة أفاق الكون وما ركب عليه من نظام وتناسق؛ للكشف عن نواميسه ولإدراك سره المعجز , ووضع منهجية لتفعيل التفكير، ولفت نظر الإنسان إلى الأشياء من حوله، ودعاه إلى التأمل والنظر فيها؛ للوصول إلى اكتشاف السنة والقانون الذي ينتظمها، في فاعلية فكرية ما لها من حدود تقف عندها، واعتبر ذلك واجبا عليه وليس حقا له فقط، وأثاب على ذلك التفكير وممارسة النظر وبذل الجهد حتى ولو كان اجتهادا خاطئا؛ لأن الخطأ في النهاية هـو إحدى الطرق الموصلة إلى الصواب، تاركا له أمر تحديد مصيره وتقرير مسئوليته،
قال تعالى:
( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هـذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) ( آل عمران: 190-191) ،
وقال:
( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) [ ص: 61 ] ( يونس: 101) ،
وقال:
( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ) ( يوسف: 109)
بل إن التعقل، الذي هـو إعمال العقل وإطلاقه من عقاله، والتفكر الذي هـو إيقاظ قدرات الفكر وطاقاته وتحريكه، كل ذلك من مقاصد القرآن ومقاصد التعبد، بل هـو أرقى ضروب التعبد المنصوص عليها صراحة في كثير من عبارات الآيات في القرآن الكريم من نحو " لعلكم تعقلون " و " لعلكم تتفكرون " ، يقول المفكر الانجليزي (
ليون ) : من روائع الإسلام أنه يقوم على العقل، إنه لا يطالب أتباعه بإلغاء هـذه الملكة الربانية الحيوية، فهو على النقيض من الأديان الاخرى، تصر على أتباعها أن يتقبلوا مبادئ معينة دون تفكير ولا تساؤل حر، وإنما تفرض هـذه المبادئ فرضا بسلطان الكنيسة؛ أما الإسلام فإنه يعشق البحث والاستفسار، ويدعو أتباعه إلى الدراسة والتنقيب والنظر قبل الإيمان، إن الإسلام يؤيد الحكمة القائلة: برهن على صحة كل شيء ثم تمسك بالخير، وليس هـذا غريبا؛ إذ أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. فالإسلام دين العقل والمنطق؛ لذلك نجد أن أول كلمة نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم كلمة: " اقرأ " كما نجد أن شعار الإسلام هـو الدعوة إلى النظر والتفكر قبل الايمان
>[22] [ ص: 62 ] 2- نعى الإسلام التقليد ، واحترام الشكليات، وتقديس الأعراف والاستسلام العقلي للأساطير أو لآراء الآخرين , وشدد النكير على أولئك الذين استسلموا لبلادة الحس، وأناموا عقولهم عن البحث والتفكير، وخضعو لسلطان الآراء والأجداد، والفلسفات والأساطير ، والأفكار والأوهام ، دون نظر وتمحيص، كما ينعى علي كل الأفراد الذين يسلمون زمام قيادهم للآخرين، ويمنحونهم حق الإمامة في الحياة والتربية والربوبية،
قال تعالى:
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هـو سبحانه عما يشركون ) ( التوبة: 31) ،
( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) ( البقرة: 170) ،
( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( الزخرف: 22-23 ) ،
ومن ثم ذهب العلماء إلى أن " التقليد في دين الله غير صحيح
>[23]
، وأوجبوا الاستقلال الفكري والبحث والنظر،
قال تعالى:
( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ) ( سبأ:46) .
[ ص: 63 ]
وهذه الآية تمثل منهجا راقيا في البحث عن الحقيقة، منهجا بسيطا يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات، وعلى مراقبة الله وتقواه، بعيدا عن الهوى، بعيدا عن المصلحة، بعيدا عن ملابسات الأرض بعيدا عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، بعيدا عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة: حيث يقوم الناس بالتفكر ( مثنى ) ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الا نفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هـدوء.. و ( فرادى ) مع النفس وجها لوجه في تمحيص هـادئ عميق
>[24] .
بالإضافة إلى أن الإسلام حرم أي استبداد فكري، وادعاء الحقيقة، ومحاولة فرضها على الآخرين؛ لأن في ذلك تعطيلا لأهم الإمكانات في الإنسان، وهي إمكانية التفكير والكشف والاكتشاف، التي تعد شرطا لازما للاستخلاف، وبالتالي العمران، وقد أنكر القرآن الكريم على
فرعون التحكم في زوايا النظر ومنطلقات التفكير، في خطابه رعيته، في محاولته تجميد عقولهم ودفن ضمائرهم وصم آذانهم عن صوت الحق، فلا يرون إلا رؤيته، ولا يفكرون إلا بعقله، فقال مخاطبا لهم:
( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم [ ص: 64 ] إلا سبيل الرشاد ) ( غافر:29) .
>[25]
وقد أمر القرآن الكريم بتجاوز مثل هـذا المنطق الفرعوني في التعامل مع الأشياء، مبينا أن أصحاب مثل هـذا المنطق الذين يحاولون حصر الجماعة البشرية في إطار نظرتهم المحدودة، ما هـم إلا طواغيت:
( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد ) ( الزمر: 17) .
وفي هـذه الآية وصف مميز لعباد الله؛ فهم لم يجعلوا على أذهانهم قيدا يصعب تجاوزه، بل جعلوا الحقيقة هـمهم؛ ولذا فهم يستمعون القول، فيتبعون أحسنه.
[ ص: 65 ]
كما نعى الإسلام -كذلك- أي استبداد فكري ينبع من داخل الإنسان، يدعوه للجمود والصدور والإعراض، ظنا منه أنه -وحده- يملك المعرفة، ويسيطر على أدواتها ومعطياتها
( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هـزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم ) ( لقمان:6-7) ،
( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ) ( فصلت: 5) .
وهكذا، فالإنسان - في الإسلام - مدعو للتدبر والتفكر، والنظر والاعتبار " وما من دين احتفل بالإدراك البشرى، وإيقاظه، وتقويم منهجه في النظر، واستجاشته للعمل، وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة، وتحريره من قيود الكهانة والأسرار المحظورة، وصيانته في الوقت ذاته من التبديد في غير مجال ومن الخبط في التيه بلا دليل.. ما من دين فعل ذلك كما فعله الإسلام.. وما من دين وجه النظر إلى سنن الله في الأنفس والآفاق، وإلى طبيعة هـذا الكون وطبيعة هـذا الإنسان، وإلى طاقاته المذخورة وخصائصه الإيجابية، وإلى سنن الله في الحياة البشرية معروضة في سجل التاريخ.. ما من دين وسع على الإدراك في هـذا كله ما وسع الإسلام "
>[26] [ ص: 66 ] 3 - ندد الإسلام بالحجر على العقل ، أو إكراهه على معتقد، فالإكراه بكل المعايير إسقاط للعقل، أساس كرامة الإنسان، وإلغاء للإرادة والاختيار، وسبيل للتسلط والفساد؛ ومن ثم أوجب الإسلام - في الوقت الذي كان الآخرون غارقين في ظلمات الكهانة وتسلط رجال الدين على العقول -أن يكون عقل الإنسان وفكره في حال تحرر كامل من أي معوقات- مثل: العصبية ، والتقاليد والموروثات ، والاستبداد بالرأي ، والاستضعاف - فيفكر حسبما يتراءى له ويحلو لعقله، ويعتقد ما يصل اليه اجتهاده، والإعلان عن أفكاره ومعتقداته، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده، بدون عائق من أحد، وبعيدا عن المؤثرات والضغوط والإيحاءات، حتى لو أدته قناعاته الفكرية إلى عقيدة ما، لا تصنع قناعة، وإنما تضع أقنعة يعيش الإنسان معها معذبا، مزدوج الشخصية، بين قناعاته وما يفرض عليه، وعندها إما أن يسقط الإنسان، وإما أن يسقط النظام الذي يمارس الإكراه ، وإما أن تستمر رحلة العذاب البشري "
>[27] .
ومن قداسة حرية العقل أن منع الإسلام إكراهه على إعتناق عقيدة ما، والأصل في ذلك قوله تعالى:
( لا إكراه في الدين ) ( البقرة: 256) ،
فهذه الآية تشكل قاعدة كبرى من قواعد الإسلام، ومنهجا أساسيا في تأكيد كرامة الإنسان، ومبدأ حريته بجميع صورها، وهي حرية تمتد إلى ساحة الأفكار، وسائر المعتقدات، والقناعات الفكرية والثقافية، وجميع معطيات
[ ص: 67 ]
الدين التي تعتبر من أرقى الحقوق الإنسانية؛ ومن ثم يعتبر مفكروا الإسلام هـذه الآية " أسبق الحريات العامة؛ لأنها بمثابة القاعدة والأساس " و " أنها أول حقوق الإنسان "
>[28] ورتب عليها الفقهاء قاعدتهم: " الإكراه لا يؤاخذ به، ولا يترتب عليه حكم "
>[29] .
وقد تكرر هـذا المعنى -جعل حرية التدين خيارا لا إكراه فيه - في العديد من الآيات،
من نحو قول تعالى:
( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ( الكهف:29) ،
وقوله:
( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ( يونس: 99) ،
وقوله:
( لست عليهم بمصيطر ) ( الغاشية: 22)
وقوله:
( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) ( هـود:28) ،
فهذه الآيات بما فيها من نفي، واستفهام " أثارت تساؤلا، وأحالتنا إلى نفوسنا لتقدير الموقف كله، هـل يجوز أن نلزم بالآيات من كرهها ؟ لا، لن يكون ذلك، لن نلزم عقل الإنسان وقلبه بشيء يكرهه. يجب أن يكون عقل الإنسان حرا مختارا، وضمير الإنسان حرا، ووجدان الإنسان حرا، وله أن يختار الكفر بالذي منحه هـذا العقل، وهذا القلب، وهذه الحياة !! وعليه ما اكتسب، هـذا موقف مذهل إذا أمعنت فيه.. وهكذا يظل هـذا السؤال في هـذه الآية يخاطب كل عقل، ويستفزه؛
[ ص: 68 ] ليدرك الفقه الحقيقي لحرية العقل والقلب، فيعتز به ويحوطها بما تستحق ويدفع عنها من يحاول اغتيالها من طواغيت الأرض، وإن ملئوا الأرض صخبا بالحديث عن الحرية والديمقراطية والتحضر !! "
>[30] ثالثا: المسئولية والتبعة الفردية
إذا كانت الحرية -في مفهومها الشامل والمتوازن- هـي ذلك الخير الذي مكن الإنسان من التمتع بجميع الخيرات الأخرى، كما تعني: قدرة الإنسان على اختيار سلوكه بنفسه، فإن الحرية بهذا المعنى مسئولية ووعى بالحق، والتزام به، ومن ثم لا تتصور انطلاقا من القيود، ولا تحكما في الناس، ولا اعتداء على العباد، بل لا تتصور الحرية إلا مقيدة غير مطلقة وأنه لا شيء في هـذا في هـذا الوجود يكون مطلقا من أي قيد؛ إذ " لا تستقيم حياة يذهب فيها كل فرد إلى الاستمتاع بحريته المطلقة
على غير حد ولا مدى.. فللمجتمع مصلحة عليا لا بد أن تنتهي عندها حرية الأفراد، وللفرد ذاته مصلحة خاصة في أن يقف عند حدود معينة في استمتاعه بحرياته؛ لكيلا يذهب مع غرائزه وشهواته ولذائذه إلى الحد المردي، ثم لكيلا تصطدم حريته بحرية الآخرين، فتقوم المنازعات التي لا تنتهي، وتستحيل الحرية جحيما ونكالا، ويقف نمو الحياة وكمالها عند حدود المصالح الفردية القريبة الآماد. وذلك كالذي حدث في " حرية " النظام الرأسمالي ، وما صاحبه من نظريات الحرية الحيوانية للشهوات "
>[31] .
[ ص: 69 ]
وإذا كان الإسلام قد أطلق حرية الإنسان، وجعلها أصلا، فقد ضبطها بضوابط الشرع والحق والعدل والمصلحة ، ووازن بينها بميزان دقيق قلما نجده عند غيره. فللمجتمع حسابه، وللإنسانية اعتبارها، وللأهداف العليا للدين قيمتها.
وهذه الضوابط تقوم على مبدأ تفرد به النظام الإسلامي، وهو بناء الشعور الداخلي للفرد على ( المسئولية والتبعة الفردية ) تجاه التزاماته الاجتماعية، وما تفرضه عليه الجماعة من واجبات وتحدد له من حقوق، والشعور بهذه المسئولية ليس أمرا عرضا، بل هـو شرط أساسي في إقامة تلك الحريات والحقوق والحفاظ عليها، إذ لا يمكن انفكاك البناء الخارجي عن المحتوى الداخلي إلا إذا بقي البناء الخارجي مهزوزا متداعيا، قائما على انفصام نكد، أشار إليه ربنا،
في قوله تعالى:
( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) ( البقرة: 204-206) .
وهذا البناء الداخلي للإنسان، القائم على ( المسئولية والتبعة الفردية ) ، يقيمه الإسلام -لكي يكون واقعا عمليا في حياة الإنسان- من خلال ( التربية الخاصة ) التي تقوم علي
>[32] :
[ ص: 70 ] أ - القيم الاخلاقية ، أو ما يعرف في الفقه الإسلامي، بـ: " الآداب الشرعية " ، التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في ( المجتمع الإسلامي ) ، وتعنى بتغذية الإنسان روحيا، وتنمية عواطفه الإنسانية، والمشاعر الخلقية فيه. فإذا كانت الشريعة الإسلامية قد جاءت ضمانا إلهيا للإنسان في منحه حقوقا وواجبات، فإنها -كذلك- قد حددت المنهاج الكفيل بتحقيق ذلك الهدف، من خلال منهاج أخلاقي يقوم على مجموعة من القيم الثابتة، المتمثلة في التعاليم المنضبطة في القرآن والسنة.
فالإسلام لم يكتف بالدعوة إلى الحرية ، وإنما حدد المنهجية السليمة لممارستها، محصنا لها بالقيم الثابتة، فهي حرية في إطار منظومة من القيم الضابطة، التي تكفل عدم الانزلاق في متاهات الفوضى والضياع. وأصل ذلك أن الإنسان -في التصور الإسلامي - ليس بالسائب، وإنه لا يكتشف طريقه عبر عقلنة محضة، بل هـو محكوم بقيم إلهية، وأخلاق ربانية ضابطة، جاءت بها نصوص القرآن الكريم، وما صح من الأحاديث النبوية.. ذلك... أو التخبط والتيه!! وهذا معناه أن منهجية الحرية في التصور الإسلامي تكتسي صبغة المعيارية، إذ تخضع هـذه المنهجية إلى مجموعة من التحديدات والضوابط لما ينبغي أن تجري عليه ممارستها، كما سنرى تفصيل ذلك لاحقا عند الحديث عن " القيم الضابطة لحرية الرأي " .
ومن خلال تلك التربية الخلقية، يتقرر مبدأ ( المسئولية والتبعة الفردية ) مما يدفع الأفراد إلى ممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل، التي تهذب
[ ص: 71 ]
الحرية وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية كلها، بعيدا عن ( الأنا ) وتوجيهات النزعة الفردية ، يقول
الإمام السخاوي : الإسلام أعطى الإنسان الحرية، وقيدها بالفضيلة حتى لا ينحرف، وبالعدل حتى لا يجور، وبالحق حتى لا ينزلق مع الهوى، وبالخير والإيثار حتى لا تستبد به الأنانية، وبالبعد به عن الضرر حتى لا تستشري فيه غرائز الشر . فالإسلام الذي حرر الإنسان من عبودية نفسه، ومن الغرور، أمده بالتصور الصحيح لهذه الحرية، وحدد له الضوابط التي ينبغي أن يقف عندها، إذا هـو أراد أن يحترم عقله ونفسه، والتي إذا تجاوزها لطيش أو غرور، وقع لا محالة في تناقضات صارخة، وحكم على نفسه بالتيه والدوران في دوامة محرقة!!
ب - الوعي بحقيقة الآخرة، وربط الجزاء الإلهي والحساب في الآخرة بالقرار الانساني ، فالوعي باليوم الآخر، وما به حساب وعقاب، يعطي الإنسان شعورا عميقا بالمسئولية؛ إذ يقرر الإسلام أنه لا بد للإنسان -يوما- أن يقف أمام خالقه، ويحاسبه على أعماله، لا مفر من عاقبته، ولا فكاك من جزائه
( إن إلى ربك الرجعى ) ( العلق:8) ،
مما يجعله يؤثر مرضاته، ويوقن أنه ليس كل ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز، ولا أن كل ما يؤدي إلى خسارة شخصية فهو محرم وغير مستساغ،
يقول تعالى:
( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) ( الإنشقاق: 6) ،
( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هـو الحق المبين ) ( النور: 24-25) ،
[ ص: 72 ] ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ( المدثر: 38) ،
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ) ( الطور:21) ،
( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ( النجم: 39) ،
( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ) ( الجاثية: 15) ،
( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ( الزلزلة: 6-8) .
هذه بعض الصور الرائعة التي يقدمها الإسلام مثالا على مسئولية الفرد وتبعته الكاملة عن أفعاله وسائر تصرفاته، بل يصور لنا القرآن أن تلك المحاسبة ( الأخروية ) ليست على مستوى الفرد فحسب، بل على مستوى الأمم والجماعات أيضا، فهناك كتاب الفرد الذي يحاسب على أساسه
( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) ( الاسراء: 13-14) ،
وهناك كتاب الأمة الذي سجل كل أعمالها، وتحاسب من خلاله
( وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هـو الفوز المبين وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين ) ( الجاثية: 28-31) .
[ ص: 73 ]
وبهذا يربط الإسلام بين الدوافع الذاتية للإنسان وسبل الخير في الحياة، ويطور من مصلحة الفرد تطويرا يجعله يؤمن أن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقة العامة للإنسان -التي يحددها الإسلام- مترابطتان، وبذلك " يقف الإنسان من نفسه موقف الرقيب، يهديها إن ضلت، ويمنحها حقوقها المشروعة، ويحاسبها إن أخطأت، ويتحمل تبعة إهماله لها. وبذلك يقيم الإسلام من كل فرد شخصيتين، تتراقبان وتتلاحظان، وتتكافلان فيما بينهما في الخير والشر، في مقابل منح هـذا الفرد والتحرر الوجداني الكامل، والمساواة الإنسانية التامة؛ فالحرية والتبعة تتكافآن وتتكافلان "
>[33]
فمن داخل النفس يعمل الإسلام، ومن أعماق الضمير يحاول الإصلاح -وهو ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الجهاد الأكبر )
>[34]
- مما يضمن التزام الإنسان بضوابط الإسلام -ليس فقط في الحقوق والواجبات، بل في كل شئون الحياة- بوحي من ذاته وعن طواعية ورضا وإقبال، بدافع الرغبة في الخضوع لتوجيهات الله لعباده، وإظهارا لطاعته، وحبا في مرضاته، دون أن يشعر الأفراد بسلب شيء من حريتهم؛ لأن التحديد نبع من واقعهم الروحي والفكري، فلا يجدون فيه حدا لحرياتهم؛ ولذلك لم تكن تلك الضوابط
[ ص: 74 ]
تحديدا للحرية في الحقيقة، وإنما هـي عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاء معنويا صالحا، حيث تؤدي الحرية في ظله رسالته الصحيحة.
وهذا لا يتحقق في ظل أي فهم مادي للحياة -كما في النظم المادية الغربية المعاصرة، التي فشلت في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته والحفاظ على حقوقه وحريته- بل لا يتحقق الا في ظل الإسلام، الذي يوسع من ميدان حياة الإنسان فلا يقصرها على الدنيا، بل يجعل وراءها حياة أوسع وأبقى لا عناء فيها ولا شقاء هـي الآخرة، ويربطها بإيثار مرضاة الله تعالى؛ فالدنيا -في التصور الإسلامي- دار ابتلاء وعمل، وأن الآخرة دار حساب وجزاء.. والحياة في هـذا الأرض مرحلة محدودة في المرحلة الطويلة؛ مما يفرض على الإنسان نظرة أعمق وأشمل إلى مصالحه ومنافعه، فتتعادل في حساباته المصالح كلها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية، ويجعل -بمقياس مرضاة الله- من الخسارة العاجلة لبعض حقوقه وحرياته الظاهرة ربحا حقيقا في هـذه النظرة العميقة، ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف، ما دام كل عمل ونشاط في الحياة الدنيا يعوض عنه بأعظم العوض والأجر في الآخرة
( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) ( الأسراء: 19) .
ج - تعميق هـيمنة إستشعار الإنسان برقابة من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهذا يقوده إلى إيثار رضا الله تعالى في السر والعلن؛ لأنه رقيب عليه في كل أحواله، ومطلع على كل شئونه،
[ ص: 75 ]
في خلواته وجلواته؛ وبهذا ينشأ لدى الإنسان شعور عميق بالمسئولية تجاه ربه عز وجل ، بخلاف النظم الوضعية ، التي قد تضع قوانين وعادات وتصورات وأخلاقا، دون شعور برقابة داخلية مهيمنة على الإنسان، ومن ثم تبقى هـذه القوانين والأعراف الوضعية غطاء ظاهريا، وكلما وجد الإنسان مجالا للتحلل من هـذه العادات والقوانين والأخلاق فسوف يتحلل. وقد صور لنا القرآن الكريم رقابة الله تعالى في صور فريدة رائعة
>[35]
يقول تعالى:
( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هـو رابعهم ولا خمسة إلا هـو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هـو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ) ( المجادلة: 7) ،
-
( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ( ق: 16-18) .
وبهذه ( التربية الخاصة ) بنواحيها الثلاث -التربية الخلقية، وربط الجزاء بالقرار الإنساني، وتعميق استشعار رقابة اله - ربط النظام الإسلامي " الحريات " و " الحقوق " بـ مبدأ ( المسئولية والتبعة الفردية ) بخلاف ما نجده في الأخلاقيات الوضعية ، المبنية على الموقف المصلحي ، والتبرير البراغماتي ( الذرائعي ) ؛ إذ النظر في واقع الفكر والحياة في مجتمع الغرب ينبئ
[ ص: 76 ] أن الحرية هـناك تنفصل عن الإحساس بالمسئولية، وتتم في غياب أدنى شعور بالخضوع للمحاسبة، أي في غياب الاعتقاد بوجود الله عز وجل .
وهذه النتيجة " تثبت لنا تهافت فكرة طالما روج لها أصحاب الفكر العلماني اللاديني ، وهي فكرة الضمير ، ونشأة هـذا الضمير في معزل عن أجواء الدين التربوية.. وبعبارة أخرى، فإن الأبحاث والتجارب التي يزخز بها الواقع نفسه تعطي البرهان القاطع على خرافة الضمير بلا دين، ذلك أن الإنسان يكاد لا يعطي شيئا إلا يأخذ في مقابله شيئا، نقدا أو نسيئة، فنفسه تتطلع دائما إلى الجزاء العادل على ما قدم.. وقد حاول الفلاسفة الماديون أن يشبعوا هـذا الجانب بالأجزية الأخلاقية المجردة عن الدين، وعن طريق ما أسموه " الضمير " الذي يجزي فاعل الخير ومؤدي الواجب بالسرور والرضا والارتياح، الذي يحسه الإنسان بين جنبيه. ولكنهم حاروا كيف يجزى من يضحي بنفسه ويبذل روحه ويموت شهيدا في سبيل الحق؟ أنه لا مجال لرضا النفس وراحتها بعد الموت عند هـؤلاء الماديين، والموت عندهم فناء محض. إن الايمان بالله وبجزاء الآخرة هـو الذي يحل هـذه العقدة "
>[36]
أما من خلال هـذه ( التربية الخاصة ) التي يقيم الإسلام الحياة عليها، فإن الإنسان يصبح ملتزما بالقيم الخلقية والمثل العليا التي يربيه الدين على احترامها، ويستبسل في سبيلها، بل ويزيح عن طريقها ما يقف أمامها من
[ ص: 77 ] مصالحه ومنافعه، فتنضبط بذلك مطالبه من حقوقه وحرياته، حتى مع مخالفيه
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هـو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) ( المائدة: 8) ،
مما يحقق له السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، والأمن والاستقرار لمجتمعه.. ( وكل نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والإحساس فهو: إما نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية، فتتعرض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات وأشد الأخطار. وأما نظام يحبس في الفرد نزعته ويشل فيه طبيعته لوقاية المجتمع ومصالحه فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته والأفراد ونزعاتهم.. وهذا هـو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها. فهو عقيدة معنوية وخلقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدد، ويضع لها هـدفها أعلى في ذلك الشوط، ويعرفها على مكاسبها منه "
>[37] .
وبهذا ندرك قيمة هـذه المنهجية التربوية في إقامة الحياة على منهج سليم قويم، يستقيم به أمر الحياة البشرية، وتنحو به من الفساد والتخبط ومن الظلم أو الاستذلال ، وصدق الله العظيم إذ يقول:
( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ) ( الملك: 22) .
[ ص: 78 ]