النموذج التفسيري في الإدارة التربوية
- المرتكزات الفلسفية للنموذج التفسيري
>[1] الموقف من الإنسان
الإنسان في النموذج التفسيري يختلف عن الكائنات الأخرى بما فيها الحيوان درجة ونوعا، فالإنسان لديه الغرض والنية والحب والكره والإرادة وما إلى ذلك مما لا شبيه له لدى الحيوان ناهيك عن الجماد، ويترتب على ذلك أن الظاهرة الإنسانية الاجتماعية لا يمكن دراستها بنفس الطريقة التي تدرس فيها الظاهرة الطبيعية أو الحيوانية.
الموقف من الحقيقة
الحقيقة بنية ذهنية غير محسوسة، ذات طبيعة خاصة ضيقة وأساس اجتماعي. ويترتب على هـذا الاختلاف اختلاف في السلوك الإداري، فبينما الإداري في الوضعية يفرض وينهى لأنه يطبق قوانين تم التوصل إليها بالطريقة العلمية فإنه في النموذج التفسيري يدخل في عمليات جدل وتأويل وتداول مع جميع الأطراف، لأنه لا توجد حقيقة واحدة بل حقائق.
المعرفة
المعرفة بنى ذهنية يتوفر لها قدر من الإجماع النسبي. ولذلك تتعدد المعارف عندما تختلف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
[ ص: 50 ] والإثنية وظروف النوع الاجتماعي التي تفرق بينهم، ولذلك فمن المنظور التفسيري تتراكم المعرفة، بالمعنى النسبي، بتشكيل تأويلات أكثر تنورا وتقدما من خلال التأويل والمداولة حيث تصطف التفسيرات المتغايرة إلى جانب بعضها بعضا. ولذلك فمن المنظور التفسيري، لا يمكن التوصل إلى تعميم.
- الباحث وموضوع بحثه متفاعلان
، فتحيزات الباحث تؤثر في النتائج والباحث يتأثر بدوره بموضوع بحثه.
القيم
يرفض هـذا النموذج الفصل بين القيم والحقائق بل ويرفض التصويب الذي تقوم به الوضعية لاستيعاب القيم في علم إدارة تربوية جديدة، ذلك أن مرتكزات الفلسفة الوضعية تجعلها غير قادرة على ذلك. ويركز التفسيرى على قيم العدالة الاجتماعية والإنصاف والحرية في الاختيار وانتشال المهمشين وحقوق الأقليات. ويعتبر أن هـذه القيم أهم من الفعالية التنظيمية وكلفة الإنتاج وما إلى ذلك من اهتمامات إدارية، ذلك أن الإنسان في نظره أهم من المنظمة.
ولعل هـذا التوجه له صلة بمزاج حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي اتسمت بالسخط من ثقافة الاستعمار والتمييز العنصري والاضطهاد والخواء الفكري والأخلاقي والروحي، وأدركت كيف أن التركيز على الفعالية التنظيمية وزيادة الإنتاج دون توجه إنساني قد يجر العالم إلى الدمار.
[ ص: 51 ] - متضمنات النموذج التفسيري للإدارة التربوية
1- المنظمات: (ومنها المدارس) منتجات إنسانية تنشأ بفعل الإنسان وتعمل بفعل الإرادة الإنسانية والمقصد الإنساني، المنظمات ثقافة (Culture) أكثر منها بنية تنظيمية (Structure) أو كائنات طبيعية موضوعية محايدة، البشر وخاصة أصحاب السلطة والقرار مثلا يضعون القوانين والإجراءات والأنظمة ويسهمون في تشكيل المناخ التنظيمي والثقافة التنظيمية، والبشر ليسوا محايدين بل لهم مصالحهم وتحيزاتهم، ومن المتوقع جدا أن يضعوا القوانين واللوائح ويخلقوا المناخ الذي يخدم تلك المصالح والتحيزات، ولذلك فمن الوارد جدا ارتكاب الظلم والتهميش والاضطهاد وما إلى ذلك. وقد يتم ذلك باسم الفعالية التنظيمية وكفاءة الإنتاج.
2- الإنسان (المعلم أو الطالب مثلا) أهم من المنظمة والقيم أهم من الإجراءات والقوانين.
3- لا يمكن فهم الظاهرة الإدارية بالطريقة العلمية السائدة، بل من خلال الطرق النوعية مثل دراسات الحالة والدراسات المقارنة مع التركيز على ما هـو خاص واستنائي وليس عاما.
4- الثقافة والخطاب اللغوي أدوات للضبط الإداري، لذلك يجب التحليل اللغوي والثقافي للمؤسسات التربوية وخاصة تحليل المعتقدات واللغة
[ ص: 52 ] والطقوس والرموز، التي تشكل المصادر التي تبني من خلالها الهويات الفردية والجماعية، يجب تحليل هـذه اللغة التي تستخدم في أحاديث المعلمين غير الرسمية إذا أردنا فهم مواقف المعلمين. ولا بأس بمقارنتها بخطاباتهم الرسمية، وتسليط الضوء على الفجوة بين المستويين من الخطاب الرسمي وغير الرسمي، كما يجب الانتباه للطقوس والرموز فهي آلية مهمة للضبط في المدرسة. وعادة ما تمثل العلاقات في طقوس ذات صبغة مجازية وخصائص عملية، من هـذه الطقوس طابور الصباح ورفع العلم والقيام للمدرس عند دخوله وحفلات التخريج، وكثيرا ما يصبح للطقوس أهمية أكثر من جوهر المحتوى الدراسي.
5 - يعلي النموذج التفسيري من شان حكمة الممارسين وخبرتهم، ويجعلها في مرتبة مساوية مع العلماء والخبراء إن لم تكن أعلى، ومن هـنا إيمان النموذج التفسيري ببحوث العمل أو البحوث الإجرائية (Action Research) .
6 - على صعيد التطبيق يقترح النموذج التفسيري التأويلية (Hermeneutics) كآلية للتطبيق في الإدارة التربوية، ليس بهدف التنبؤ والضبط بل فهم المعنى الذي يسبغه الناس على حياتهم، لا توجد طريقة مفضلة كمية أو نوعية للحصول على ذلك التفسير، من ناحية أخرى هـناك احتمال كبير لوجود العديد من التفسيرات تبعا للمصالح
[ ص: 53 ] والاهتمامات، وفي غياب مرجعية خارجية فلا توجد وسيلة لتحديد الصواب من الخطأ لذلك تدعو التأويلية على التركيز على التدبر والتفسير ووزن البدائل وتطبيق معايير مفتوحة، ووضع جميع القضايا موضع حوار ونقاش من خلال الانخراط في مداولات معنوية يكون فيها المتداولون حساسين لمعايير تتعدى ما هـو ذرائعي ونفعي وقانوني وإجرائي، وحيث أن هـذه المعايير غير متفق عليها بالمطلق لذلك تدعو المرء أن يكون ذا أهداف مفتوحة وهذا يجعل الإنسان مشغولا دائما بالهم الإنساني، لذلك فالمداولة المعنوية عملية بلا نهاية.
7 - تدعو التأويلية لرؤية العاملين كغايات وليس رسائل. ولذلك على القيادة التربوية أن تعني ليس فقط بتحقيق أهداف المنظمة بل بالانفتاح على قضايا ذات أهمية إنسانية، ولا يكون تقييم الأداء القيادي بناء على معايير أداء بل على مدى إتاحة الفرصة للآخرين للوعي بالقضايا ذات الأهمية الإنسانية، والقائد ليس مجرد شاغل مركز ذي أدوار في الهرم التنظيمي بل عامل من أجل مجتمع يصون الحياة المعنوية والفكرية للجماعة ويقيم علاقته بالآخرين بناء على العضوية المشتركة في الخطاب المعنوي الأخلاقي للجماعة.
8 - القيادة المعنوية تتميز بضبط ذاتي، يتمثل في حسن استخدام المسئول للسلطة.
[ ص: 54 ] 9 - وفيما يتعلق بالتعليم وبالتقويم، فالقائد المعنوي يتجنب ادعاء الخبير المحيط بالطرق الفعالة والكفؤة للتعليم والتقويم، بل يدرك أن هـناك تفضيلات شخصية لأساليب التعليم والتقويم، ولذلك فالتفكير الأخلاقي ووضع الاعتبارات المعيارية في الاعتبار ضروري في التقييم، وهكذا يصبح التعليم أمرا مشتركا ومسئولية مشتركة.
10 - هـناك محاذير في هـذا النوع من الإدارة وهو أن يفقد القائد السيطرة، بمعنى أن العاملين قد يرون ما لا يراه القائد، ومعناه أن يكون القائد دائما مستعدا لمقارعة الحجة بالحجة والاستماع للآخرين، وقد يؤدي ذلك إلى احتمال حصول فوضى وعدم قدرة على السيطرة وأن تتحول الأمور إلى نقاش لا ينتهي وخلاف بدون مرجعية يحتكم إليها. هـذا مقبول في التفسيرية ولا يعد عبئا لأنه يبقينا في يقظة عقلية دائمة.
الأهداف لا تعود محددة سلفا بل مطروحة أمامنا للنظر، لذلك فالقائد المعنوي دائما مهتم بما يجب عمله، ولماذا، وهذا ليس شللا بل سعيا لفهم أعمق بما يجدر عمله ولماذا.
11 - التفسيرية ليست ضد تطبيق القوانين واللوائح، وهناك أوقات لا بد فيها من استخدام السلطة، ولكن متى؟ وكيف؟ وتحت ظل أي ظروف؟
[ ص: 55 ]