المنظور الإسلامي للإدارة التربوية، لماذا؟
تساعد المناقشة السابقة على وضع المنظور الإسلامي للإدارة التربوية في سياق أوسع، السياق العالمي الذي يشهد بحثا حثيثا عن بدائل للاتجاه السائد، وهكذا لا يبدو طرح المنظور الإسلامي نشازا. يرى (Al – Burae, 1990) أن طرح المنظور الإسلامي هـو جزء من حركة عالمية تتبرم من هـيمنة النماذج الغربية، ومؤشر على الثقة بالنفس لدى الأمم النامية تدفعها لبلورة أنماط أصيلة من الإدارة. ويعرف هـذا التوجه في أدبيات علم الاجتماع بـ (التأصيل Indigenization) القائم على احترام ثقافات الشعوب الأصلية (Indigenous) وإسهاماتها في الماضي وما يمكن أن تسهم فيه مستقبلا، وهذا في الحقيقة رد اعتبار للأمم التي كانت مستعمرة. ويرى (Bajunid, 1996) الشيء ذاته تقريبا. ولكن طرح ( البرعي ) و ( باجنيد ) يبدو اعتذاريا بعض الشيء.
وأرى أن التأصيل كما هـو معروف في علم الاجتماع ذو توجه محلي بينما التأصيل الإسلامي ذو توجه كوني، فالقضية ليست (شرق مقابل غرب) وإلا وقعنا في ردود الفعل وفي شوفينية تماثل شوفينية الغرب المستعمر. وفوق ذلك فإنني أستعمل تعبير (الغرب) بمعنى الغرب العقائدي وليس الجغرافي، أي: الغرب كما تحدده منظومته القيمية وليس موقعه الجغرافي.
من ناحية أخرى يخشى المؤلف أن (التأصيل) بالمعنى المستخدم في علم الاجتماع يؤدي إلى وضع الإسلام على قدم المساواة مع الثقافات الأصلية أيا [ ص: 77 ] كانت، بما فيها البدائية، القضية ليست قضية (شرق) و (غرب) ، فنحن نؤمن بالاشتباك الفكري مع (الآخر) أيا كان.
للمسلمين أسبابهم لطرح المنظور الإسلامي. وكما ذكر سابقا فالإدارة ليست مجرد عمليات تقنية بل المعتقدات الأساسية والافتراضات التي تثوي وراء تلك العمليات أيضا، تلك المعتقدات تشمل الموقف من الإنسان والكون والحياة والحقيقة والمعرفة وما إلى ذلك، وتشكل هـذه المعتقدات الإطار الفكري الذي له انعكاساته على الإدارة فكرا وممارسة، وما كانت نظريات الإدارة لتتعدد لولا وجود منظورات فكرية متعددة وراءها، فنظريات الإدارة لم تظهر في فراغ بل في وسط فكري ثقافي تتطابق تقاليده أو تفترق قليلا أو كثيرا مع الإسلام.
هناك شبه إجماع بين المسلمين أن الإسلام ليس مجرد علاقة شخصية بين الفرد وربه بل طريقة حياة شاملة. وبهذا الفهم فإن إدارة المنظمات من المنظور الإسلامي هـو جزء لا يتجزأ من الإسلام. وكثيرا ما ينعي المسلمون الفصل بين الدين والحياة حيث يتم مراعاة الدين فقط في بعض المجالات مثل العبادات والأحوال الشخصية بينما تتبع نماذج في العمل والإدارة قد تشذ عن إطارهم المرجعي، لذلك فإن بلورة منظور إسلامي للإدارة يسهم في تقليص هـذه الثنائية.
من شأن بلورة منظور إسلامي للإدارة التربوية مساعدة الباحثين والممارسين على الاقتراب من هـذا الحقل برؤية موحدة، وهذا يعزز من [ ص: 78 ] وحدة الأمة وهويتها، ويبني قاعدة معرفية، ويعزز الذاكرة الجمعية للعلماء والباحثين والممارسين في هـذا الحقل وعبر الحقول المعرفية ككل، فعندما تلتقي مجموعة مهمة من العلماء من ذوي الاهتمامات المتشابهة في كل حقل، وتطور اهتمامات علمية معرفية مشتركة، وتقيم شبكة اتصالات فيما بينها، وتنظم المؤتمرات والندوات وتتبادل الأفكار تثرى الهوية الفكرية الحضارية.
وبلورة المنظور الإسلامي ضرورة حضارية، لأنه يساعد في الاشتباك مع (الآخر) الفكري بطريقة إبداعية بعيدا عن التقليد الأعمى، والاختيار الساذج العشوائي، الذي لا يستند إلى مرجعية، وهذا الاشتباك هـو نوع من الشهود الحضاري، فالمعرفة الإنسانية تتقدم من خلال التبادل المشترك بين الأمم والثقافات. ويحصل ذلك التبادل على الدوام، فأحيانا تتقدم أمة ما وأحيانا تتراجع في إطار التداول الحضاري. ومن البداية لم يتردد المسلمون في استعارة الممارسات الإدارية من الحضارات الأخرى خاصة الفرس ومصر والهند. ولكنهم استوعبوا ما استعاروه وطوروه وأضافوا إليه، ولكنهم كانوا مسلحين بإطارهم المرجعي الإسلامي.
والمؤسف أن المسلمين اليوم يستعيرون الفكر والممارسات الإدارية ولكن بدون مرجعية إسلامية. إنهم يتعاملون مع الفكر الإداري الغربي من منطلق الصواب العلمي (Scientific Correctness) ولا يقفون منه موقفا نقديا، وكلما ظهر نموذج اعتبر وصفة سحرية إلى أن ينتقده الغربيون أنفسهم ويأتوا ببديل عنه، فيتبع المسلمون ذلك، على سبيل المثال لا يزال بعض المسلمين يتبنون مفهوم الإدارة العلمية (بفعل السحر الخاص لكلمة [ ص: 79 ] (علم) التي كانت في وقتها قبل قرن من الزمن وصفة سحرية، ولكن قد تجد من المسلمين من ينتقد بعض مقولات الإدارة العلمية بعد أن انتقدها الغربيون أنفسهم، وتنطبق هـذه الملاحظة على المفاهيم الإدارية الأخرى من إدارة العلاقات الإنسانية إلى إدارة الجودة الشاملة. لا نطرح بديلا ولا ننتقد اتجاها إلا بعد أن يتم نقده من قبل من بلوروه. والسبب أننا على غير وعي بالخلفيات الثقافية والتاريخية الثاوية وراء تلك الاتجاهات.
الذين لا يشاركون في عملية البلورة من البداية ولا يعون الافتراضات والمسلمات الفكرية التي تنطلق منها الاتجاهات الإدارية لا يستطيعون أن يطرحوا بديلا ولا أن ينتقدوا آخر إلا إذا كان المقصود بالنقد توجيه أحكام جارفة ذات نبرة عالية تنم عن العجز أكثر مما تنم عن الفهم. وقد أسميت هـذا النهج في مكان آخر (نهج تسليم المفتاح) الشائع في بناء المشاريع، حيث صاحب المشروع يتسلمه من المقاول بعد الانتهاء من تشييده دون فهم لمخططاته أو مشاركة في تصميم بنيته التحتية، مما يجعله دائما تحت رحمة المقاول.
وهذا النهج في التعامل مع (الآخر) لا يساعد المسلمين على الإسهام في المعرفة الإنسانية. إن دور التقليد الأعمى والانتقاء الساذج العشوائي لا يناسب دور الشاهد الذي اختاره الله للمسلم. وهذا يتطلب من المسلمين أن يسهموا وليس فقط أن يتلقوا. وهذا لا يعني موقفا استعلائيا ينقص من إنجازات (الآخر) فهذا أيضا لا يتناسب مع دور الشاهد. إن المنظور الإسلامي يساعد المسلمين على فهم إنجازات (الآخر) والافتراضات الكامنة وراءها وأسباب النجاح والفشل. [ ص: 80 ] وعلى المستوى العلمي فالمنظور الإسلامي ضرورة، فكما سبق ذكره فإن تنوع السياقات الوطنية الثقافية التي تجري فيها العملية التربوية تتطلب من القادة التربويين تناول المشكلات التربوية في إطارها الخاص. ومن أجل ذلك هـناك حاجة إلى أطر مرجعية فكرية لتمكينهم من إضفاء معنى على ممارساتهم ومعرفتهم الشخصية والمهنية والإدارية. وكما يشير ( باجنيد ) ففي ماليزيا يستخدم التربويون معظم الوقت اللغة الماليزية مع متعلمين مغموسين بالثقافات المحلية. وهناك حاجة ماسة لإلهام وحفز العاملين والعمل استرشادا بمفاهيم ذات معنى وصلة يدركها الماليزيون ويجدون أنفسهم على صلة بها. عندما تدخل مفاهيم جديدة ذات صلة بالواقع المحلي يتم استيعاب هـذه المفاهيم بسرعة بدون نشاز ذهني ومعاناة ناجمة عن ترجمة مفاهيم لا علاقة للذهن المحلي بها. خذ مفهوم (التميز في الأداء) مثلا فإذا كان في الثقافة المحلية تراث تاريخي ومفاهيم للتميز في الأداء مما يؤثر إيجابا في البنى الذهنية والعاطفية للعاملين فلماذا نستخدم كلمات ومفاهيم غريبة لتحل محل المعرفة المحلية؟!
إضافة لما ذكره أعلاه يشاطر الباحثون المسلمون زملاءهم الغربيين القلق من التدهور الأخلاقي وآثاره بعيدة المدى، ففي غياب الأخلاق والقيم يزدهر الفساد ويحول دون الأداء الصحيح للمنظمات. الاهتمام بكفاءة الأداء والعقلانية والفاعلية بأي ثمن يعكس قيما مادية تماما، إلى درجة استبعاد القيم الروحية والأخلاقية مثل كرامة الفرد، والإنصاف، والنمو الشخصي، وهكذا. [ ص: 81 ]
التالي
السابق