تطبيقات
مصادر المعرفة
حسب المنظور الإسلامي، الذي يتسم بالشمول والتوازن والتكامل، تتعدد مصادر المعرفة لتشمل إلى جانب الطريقة العلمية مصادر أخرى مثل الدين والأدب والخبرة الشخصية وما إلى ذلك. ولكن المعرفة الدينية تشكل المرجعية للمعرفة المستقاة من مصادر أخرى.
وقد أشرنا سابقا إلى ما شهده تاريخ الإدارة التربوية من انقسامات حادة حول مصدر المعرفة الإدارية، بين من رأى الطريقة العلمية المصدر الوحيد لتوليد المعرفة الإدارية وبين من رفض ذلك، وما بين هـؤلاء وأولئك من اتجاهات توفيقية، وبتطبيق خاصيتي التوازن والشمول اللتين يتميز بهما التصور الإسلامي فإن مصادر الإدارة التربوية الإسلامية تتسع لتستوعب العلم كمصدر من مصادر المعرفة الإدارية، وهذا يجعله على اتفاق مع النماذج العلمية قديمها وحديثها، ولكنه يعتبر العلم مصدرا وليس المصدر الوحيد للمعرفة الإدارية، وهذا يجعله على اتفاق مع نظرية النظم المفتوحة مثلا.
والمنظور الإسلامي يعطي أهمية للحياة الواقعية للناس في المنظمات وخبراتهم الفردية، وهو ما يتفق مع النماذج التفسيرية والنقدية، كما أنه يعني برفع الضيم عن المضطهدين والأقليات والمهمشين، وهو ما يجعله يلتقي مع النموذج النقدي. ولكنه لا يعتبر الخبرات الحياتية للناس في المنظمات هـي
[ ص: 88 ] المصدر الوحيد. كما أنه بالتأكيد يختلف جذريا مع النموذج التفسيري والنقدي اللذين يعتبران الشواذ أقليات مضطهدة يجب رفع الضيم عنها. فهؤلاء من المنظور الإسلامي منحرفون يجب إعادة تأهيلهم وتصحيح طريقة حياتهم أو معاقبتهم.
ويتفق المنظور الإسلامي مع الدعوات التي ظهرت مؤخرا لاعتبار الدين مصدرا للمعرفة الإدارية. وفي ضوء المنظور الإسلامي تخضع المعرفة الإنسانية للوحي، وبالتالي تظل موضع تساؤل وتعديل دائمين. وهذا ينطبق على الأدبيات الإدارية للمسلمين عبر القرون، فهذه مصادر تنير ممارستنا ومعرفتنا الإدارية المعاصرة ولكنها غير ملزمة من جهة ويجب إخضاعها للوحي من جهة أخرى.
وبهذا الصدد يعتقد
إبراهيم باجنيد أن الافتراضات النظرية التي يقوم عليها المنظور الإسلامي لا تقل أهمية أو جدوى عن النتائج والتوصيات التي تسفر عنها الدراسات البحثية. ويضيف أن الاستبصار المتولد من معارف الوحي والتفسيرات والتعليقات التي تدعمها أكثر عمقا من تلك التي تقدمها تلك الدراسات. - دور المعرفة النظرية
يعد دور النظرية قضية أخرى شائكة في أدب الإدارة التربوية. هـناك من يشبه مفكري الإدارة بساكني (البروج العاجية) بينما يشبه الممارسين بالعاملين على (خطوط النار) قد ينظر إلى التنظير على أنه غير عملي، ومجرد تجريد منفصل عن خبرات الواقع وعن خبرات الممارسين ولا يعالج
[ ص: 89 ] أو يعني بالهموم الواقعية للممارسين. ويمكن عزو هـذه المقولات المعادية للنظرية إلى مواقف مختلف النماذج الفكرية حول أهداف البحث بشكل عام ودور الباحثين بشكل خاص.
مفكرو النموذج الوضعي يهدفون إلى تفسير الظاهرة وتوقعها وضبطها. والباحث الوضعي هـو عالم محايد يقتصر دوره على تنوير صانع القرار. في المقابل يهدف مفكرو النموذج النقدي إلى نقد وتعرية واقع الاضطهاد والتهميش، وذلك من خلال الانخراط في مواجهات وأحيانا في صراع. المفكر النقدي يوسع دائرة الوعي ويحارب الجهل ويسهل التغيير. أما في المنهج التفسيري فهدف البحث هـو الفهم وإعادة بناء التفسيرات التي يحملها المشاركون في البداية مع الاستمرار في الانفتاح لتفسيرات جديدة في ضوء توفر معلومات جديدة وتقدم جديد في وسائل المعرفة. الباحث التفسيري مشارك صبور مسهل لتفسيرات متعددة.
إن الخاصية العملية للتصور الإسلامي تتضمن أن يكون البحث، باعتباره نشاطا إنسانيا، هـادفا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع. ووفق مفهوم الإنسان الخليفة يجب أن يكون الباحث شخصا فاعلا إيجابيا، إنه ليس مجرد خبير ناء بنفسه عن عالم الممارسة غير مبال بالنتائج، وليس مجرد مشارك أو مفسر للواقع بل قائد تغيير. ولكن التغيير والتحويل يجب أن يسترشد بالوحي.
ولذلك بينما يتشاطر الباحثون المسلمون مع زملائهم الوضعيين تفسير الظواهر والتنبؤ بها فإنهم لا يتوقفون عند ذلك بل يجهدون للتحسين وليس
[ ص: 90 ] للسيطرة، وبينما يشاركون زملاءهم النقديين حس المسئولية عن التغيير فإنهم يختلفون عنهم في اتجاه التغيير.
في ضوء خصائص التصور الإسلامي فالمعرفة النظرية ضرورية لترشيد الممارسة. إنها توفر حسا بالاتجاه يساعد في المنحى المتكامل للعمل الإداري مع الوعي بالعلاقات وبالروابط والنتائج. وهذا يفيد في تحديد أفضل للأولويات وتجنب الهدر والتشظي. من ناحية أخرى يجب على الباحثين احترام خبرات الممارسين، فبينما ترشد النظرية الممارسة يمكن للممارسة أن تسهم في تعديل النظرية. - مفهوم الإدارة التربوية
في ضوء المنظور الذي نطرحه يعاد تحديد المقولات الإدارية في مقولات أخلاقية تجعل للدين كلمة بشأنها. الإدارة التربوية ليست مجرد ممارسة تقنية أو قيادة تعليمية، وليست مجرد علم اجتماع تطبيقي كما تصور في الأدب السائد. بل هـي مجهود إنساني هـادف يتم عن وعي وتدبر ومرتبط بالمغزى النهائي للحياة وهو عبادة الله. والإدارة التربوية تتكاتف مع النظم الفرعية الأخرى لتحقيق الأهداف التربوية، وهذا المفهوم يحول الإدارة التربوية إلى رسالة ويعطي المنظمة حسا بالاتجاه.
يمكن استيعاب مفاهيم الإدارة التربوية التي توردها الأدبيات السائدة، في المنظور الإسلامي، ولكن هـذه المفاهيم لن تكون كافية. المنظور الإسلامي باتسامه بالشمول يؤكد جميع العوامل والمتغيرات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، التي تؤثر في عمل المنظمة، سواء منها ما كان داخل المنظمة
[ ص: 91 ] أو خارجها. ويؤكد المنظور الإسلامي البعد الأخلاقي الذي تم تجاهله طويلا في الأدبيات، وهكذا فمفهوم الإدارة التربوية من المنظور الإسلامي سيكون أكثر شمولا وتوازنا.
يمكن اعتبار الإدارة الإسلامية من المنظور الإسلامي كجهد إنساني واع يتفاعل ويتقاطع مع كثير من الجهود الأخرى التي تسعى لتحويل التلاميذ إلى كائنات إنسانية أفضل من خلال برامج تربوية منظمة (منهجية) تتم وفقا للتعاليم الإسلامية، إنها ليست العمل من خلال الآخرين ولا التحايل عليهم أو التحكم بهم بل العمل بإخلاص معهم. والآخرون قد يكونون الجمهور الداخلي أو الخارجي للمدرسة. إنها جهد هـادف ذو معنى يسترشد بإطار مرجعي وهو المنظور الإسلامي. وهذا يوفر حسا بالاتجاه دون الوقوع بالتحجر. إنه يسمح بالمرونة واختلاف وجهات النظر ولكن دون تسيب.
يتفرد المنظور الإسلامي بجعل الإدارة التربوية الإسلامية رسالة سامية فذة. الإدارة بشكل عام أمانة، والإدارة التربوية على وجه الخصوص يجب أن تحظى باهتمام خاص لكونها تتعامل مع رسالة أخرى سامية وهي رسالة التعليم المرتبطة بنشر المعرفة وزرع المثل وغرس القيم والسلوك الجيد.
ومن المنظور الإسلامي يمكن اعتبار الإدارة شكلا من أشكال العبادة، بمعناها الإسلامي الواسع، الذي يهدف في النهاية إلى نيل رضا الخالق. وهذا يتضمن كل معاني المشاركة والعناية والاهتمام والحب من جهة، والفعالية والتميز والنشاط والرشاقة من جهة أخرى. من هـذا المنظور يتكامل الفعل
[ ص: 92 ] الإداري مع العقل والقلب (3Hs [head, heart and hand]) ، ويتكامل الجانب الخشن من الإدارة بالجانب الناعم، يتكامل الجانب الإنساني بالجانب الأدائي.
- مفهوم المنظمة
الحياة في منظمات سمة إنسانية. وقد عاش المسلمون من البداية في منظمات. وتطور الأمر من المنظمة البسيطة (دار الأرقم) إلى المعقدة كالدواوين. ويأمر الحديث أي اثنين إذا اجتمعا (أن يؤمرا أحدهما) . لكن الحياة في المنظمات الحديثة المعقدة لها ضريبة أحيانا، وضريبة ثقيلة مثل: تغول البيروقراطية التي تقود للجمود والملل والفساد وفجوات الاتصال وهكذا. لذلك يجب أن تكون المنظمة وسيلة وليست هـدفا، يجب أن تكون في صالح وخدمة الإنسان وليس ضده، ولا يجوز أن يتحول الإنسان إلى خادم للبيروقراطية. يجب أن تكون عونا للبشر لا أن تضع أغلالا عليهم. تتحدث أدبيات الإدارة كثيرا عن ملامح البيروقراطية المرتبطة بالمنظمات مثل الهرمية واللوائح والتعليمات وتقسيم العمل والعلاقة الرسمية، التي إن تفاقمت أصبحت عبئا على الإنسان. ويفترض من المنظور الإسلامي وضع قيود على هـذه الظواهر.
تتحول المنظمة في المنظور الإسلامي إلى أمة مصغرة، جماعة من المتعلمين الذين يرون عملهم عبادة فيتنافسون نحو الأفضل ويمدون في الوقت نفسه يد العون لمن تخلف عن اللحاق بالركب. في هـذه الجماعة ينظر
[ ص: 93 ] للمعرفة على أنها نعمة من الله يجب تشاطرها مع الآخرين ولا يجوز كتمانها، وليس على أنها قوة للسيطرة على الآخرين. في هـذه المنظمة / الأمة لا يوجد صراع من أجل البقاء، ولا يتبع نهج البقاء للأصلح، ولذلك لا مبرر للتحايل والتحكم وعرقلة الآخر. الإداري قائد لقادة وليس سيدا على أتباع، إنه الأول بين متساوين، يتحمل أعباء أكثر من حرصه على امتيازات، يعمل مع الآخرين وليس من خلال الآخرين. لا يعمل المدير بتعال على تشكيل سلوك الآخرين ولا يدعي قدرته على ذلك بل يعمل معهم لتعزيز الأداء الحقيقي للمؤسسة وليس مجرد الأداء الشكلي الإداري الذي يعمل من المنظور الإسلامي ينظر للهرم التنظيمي وتقسيم العمل على أنها آليات لتسهيل أداء العمل وليس لإضفاء الشرف على أناس وحرمان آخرين.
حسب هـذا المنظور ينظر للمدرسين كقادة يجب أن يعطوا الفرصة لإظهار قدراتهم القيادية. ليس المدرس وحسب بل والطلاب والعاملون يجب أن يدربوا على القيادة. بل يجب قياس أداء القائد، ضمن أشياء أخرى بمدى إفساحه المجال للعاملين ليتدربوا على القيادة، ولكن هـذا يوازن بالمساءلة (فلا بد من وجود إداريين يحملون هـذه الصفة الرسمية) والواقعية (ليس بإمكان أي شخص أن يكون قائدا) .
في منظمة تعمل وفق المنظور الإسلامي، سوف تتأثر جميع العمليات والوظائف الإدارية من تخطيط وتنظيم وتنسيق ووضع ميزانية وتقييم أداء وحتى أدق التفاصيل بالمنظور الإسلامي.
[ ص: 94 ] - الإداريون
الإداريون أشخاص يعملون برواتب. وهذا أمر طبيعي، فلا يتوقع أن يعمل الناس كمتطوعين إلا أحيانا. ولكن نبل رسالة الإدارة تقتضي من هـؤلاء أن يصبحوا قادة. القائد يرى المؤسسة ككل، يصنع وينفذ القرارات، يفوض السلطة، يكتسب الولاء، يبني الوفاق يبدي سلوكا مثاليا وقدرة على التأثير (وليس الإكراه) ، يبدي رعاية للمجموعة وعناية بها، يبدي حسا بالمسئولية، واضح في تفكيره، هـادئ في نقاشه، ماهر في إقناعه، قوي في حمل الواجبات، غير متحيز، يبلور التوقعات، متواضع وبسيط. يستمع للآخرين، ويضع آراء الآخرين بصدق موضع الاعتبار. المنظور الإسلامي يخفف من غلواء الصلف والنشوة والغرور والبذخ ويدعو للتواضع والاعتدال. الإداري من هـذا المنظور شخص يخاف الله، قوي وكفؤ (القوي الأمين) وليس مجرد خبير يتصرف بدم بارد.
تبعا لهذا المفهوم يصبح المدرسون قادة، رغم أن بعضهم لأغراض المساءلة سيتسلمون مناصب إدارية (مديرين مثلا) . ولكن الإسلام يدعو للواقعية، فلا يمكن أن يتحول كل عضو إلى قائد، وفي التاريخ الإسلامي قصص عن أفضل المسلمين من حيث التقوى ممن لم يسمح لهم بتسلم مناصب قيادية، لأنهم لم يكونوا مؤهلين لها. ولكن من واجب القادة والمنظمات تربية القادة وتشجيع كل شخص ليصبح قائدا وأن يدرب على أن يكون قائدا.
[ ص: 95 ] - علاقة المديرين بالعاملين
علاقات المديرين بالعاملين مطروقة كثيرا في الأدبيات. وبشكل عام ينظر إلى العاملين في الأدب السائد على أنهم وسائل أو مصادر (بشرية) يستخدمها المدير لتحقيق غايات المنظمة وتشكيل سلوك العاملين بشكل مرغوب فيه. في هـذا السياق يثير الباحثون قضايا كثيرة مثيرة للجدل. بينما في الأنظمة المغلقة على العاملين اتباع أوامر المديرين بحكم خبرة هـؤلاء أو بحكم موقعهم في الهرم التنظيمي، فإن العاملين يمنحون أهمية أكبر في (إدارة العلاقات الإنسانية) . ولكن كما تشير الأدبيات فإن إدارة العلاقات الإنسانية تصبح طريقة أخرى لاستغلال العاملين لتحقيق أهداف مقرة سلفا في أسوأ الظروف، وفي أحسن الظروف تتحول العملية إلى تبادل منافع مشتركة.
كما ذكر سابقا فالإدارة من منظور إسلامي هـي مهمة رسالية وليست امتيازا. لذلك يجب ألا ينظر للعلاقات بين المديرين والعاملين من منظور العلاقة بين قادة وأتباع.
( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ) [الزخرف: 32]،
فهذه الآية القرآنية تبين أن العلاقات الهرمية أصيلة في المؤسسات التربوية، ولكن مثل هـذه العلاقة لا تحرم العاملين من الكرامة الإنسانية والجدارة، ولا تقيم تقسيما صارما للعمل تحتكر فيه الحكمة من قبل المستويات العليا في الهرم التنظيمي. يجب أن يشعر العاملون بحرية في التعبير عن آرائهم واعتراضاتهم، وأن يحصلوا على إجابات لتساؤلاتهم في جو من حرية التفكير والتبادل الصحي للأفكار والنقد والاحترام المتبادل.
[ ص: 96 ] على صعيد آخر، على العاملين أن يكونوا مخلصين في تقديم النصيحة. لدى تسلمه الخلافة " خاطب
أبو بكر رضي الله عنه الأمة: لقد وليت عليكم ولست بخيركم. " وهذه الجملة الوجيزة البليغة تنقض كل مقولات النماذج البيروقراطية والعلمية في الإدارة التي تجعل من الأعلى مكانة في الهرم التنظيمي أكثر دراية، كما تنقض مقولة تقسيم العمل التي تجعل الإدارة تخطط وتتخذ القرارات وتجعل دور العاملين تنفيذ القرارات. من المنظور الإسلامي العاملون شركاء حقيقيون بالمعنى الفعلي للكلمة. قد يتطلب ذلك تدوير المراكز الإدارية (rotation) لمساعدة المدرسين على اكتساب المهارات الإدارية وليبقى المديرون على صلة بالواقع.
ولكن هـذه المبادئ النبيلة قد يساء استخدامها. على سبيل المثال الدعوات المعاصرة للتمكين والقيادة التحويلية والإدارة الذاتية وإسناد مناصب قيادية للمدرسين واعتبارهم قادة ما إلى ذلك تبدو جذابة على السطح، بل وتقترب من المنظور الإسلامي. ولكن هـناك احتمال كبير أن يفتقر تطبيق هـذه المبادئ إلى نبل المقصد فيصبح الهدف من ورائها توفير النفقات بزيادة الأعباء على المدرسين. يجب ألا يحدث ذلك في المؤسسات الإسلامية. ويجب عدم استغلال العواطف الإسلامية لإضافة أعباء إلى أعباء المدرسين بدون موافقتهم الكاملة. وكما هـو معروف فعقود الإكراه والإذعان باطلة في الشريعة الإسلامية. ولعل في قصة
موسى وشعيب ، عليهما السلام، إشارة إلى ذلك.
[ ص: 97 ] - المسئولية والمساءلة
تتراوح الممارسات التربوية والفكر التربوي بين الدعوة إلى وضع إجراءات محكمة لضمان المساءلة وبين احترام المهنية والمساءلة الذاتية. الموقف الإسلامي من هـذا الموضوع متوازن. كما هـو معروف لا بد أن يتحمل الناس مسئولية أعمالهم. المديرون والمدرسون ليسوا أنصاف آلهة. يجب أن يكون لديهم حس بالمسئولية وأن يحرصوا على عمل ما يجب عمله. المقاييس الموضوعية يجب استخدامها في المساءلة، ولكن ذلك يجب أن يصاحبه جهد لتنمية المساءلة الذاتية، ذلك أن الإنسان لديه القدرة على الالتفاف حول الإجراءات والقواعد مهما كانت محكمة. لذلك فإن تنمية حس المسئولية الذاتية والخوف من الله يعمل بفعالية ضد السلوك اللامسئول. وغرس الإحساس (أننا مساءلون في الآخرة) يولد الحس بالانتماء والوعي واليقظة. أما إن كنا مساءلين فقط أمام الإدارة فربما افتقر أداؤنا إلى التماسك والاتساق.
حتى تكون المساءلة ذات معنى يجب أن تكون الواجبات والأعباء معقولة. على سبيل المثال فالمدرسون مطالبون الآن بأداء أعمال تتراوح بين مل جليسات الأطفال والتدريس المبدع إضافة إلى الأعباء الإدارية والإرشادية والكتابية، هـناك مديرون يثقلون كاهل المدرسين بالأعباء مثلا بهدف تحقيق نتائج ترضي الإدارة العليا. المديرون يتعرضون لحالات من هـذا
[ ص: 98 ] النوع، فالإدارة المدرسية لها أعباؤها أيضا. وضغوط العمل والاحتراق النفسي موثقة جدا في الأدبيات، ويجب مساءلة المدرسين والمديرين في ضوء جهودهم التي لا تدر عائدا كثيرا (على الأقل من ناحية مادية) . يجب وضع جميع المتغيرات التي تلعب دورا في تشكيل الأحداث في وضع معين بالاعتبار. على سبيل المثال تحصيل التلاميذ هـو محصلة تفاعل متغيرات كثيرة مترابطة تتراوح بين أداء المدرس والبيئة المدرسية. ولذلك ليس من المعقول اعتبار المدرس المسئول الوحيد عن تحصيل التلاميذ.
- اتخاذ القرار
اتخاذ القرار هـو قلب العملية الإدارية. وقد اختزل (سيمون) الإدارة في اتخاذ القرار، وتبعه في ذلك مئات الباحثين لاحقا.
من المنظور الإسلامي الشورى هـي آلية صنع القرار. وهي لا تقتصر على تقديم النصح لمن يطلبه بل تعني إخضاع قضايا السياسة العامة للنقاش والجدل والحل من قبل ممثلي الجماعة
( وشاورهم في الأمر ) [آل عمران: 159].
وردت الشورى ومشتقاتها في أربعة مواقع في القرآن الكريم [الشورى: 48، آل عمران: 158، مريم: 29، البقرة: 233]، وقد ارتبطت في اثنتين منها بالشئون العامة
( وأمرهم شورى بينهم ) [الشورى: 38]،
( وشاورهم في الأمر ) ، أما في سورة مريم فوردت بمعنى الإشارة إلى الشىء أو الاتجاه .
[ ص: 99 ] وفي موقع رابع وردت بمعنى التداول بين الرجل والمرأة بشئون الأطفال. من معاني الشورى اللغوية المثيرة للاهتمام: (استخراج العسل من تجويف صغير في الصخر حيث يضعه النحل البري، أو استخراج العسل من أقراصه وأماكن أخرى) .
يجب أن يكون نطاق الشورى واسعا ما أمكن ولا قيود على الشورى إلا أنه لا شورى في موضع النص من جهة، وعلى نتيجة الشورى ألا تناقض نصا قطعيا من جهة أخرى.
ومجيء الأمر بها بين الأمر بالصلاة والزكاة لا يدع مجالا للشك بإلزاميتها في نظام الحياة الإسلامية، ومنه النظام التربوي، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالمشاورة فماذا عن غيره؟
يفترض في الشورى أن تقودنا إلى الاقتراب من الحقيقة. وهي تلغي المطلق من حياة المسلمين، وتلغي الجور على حقوق الآخرين أو خداعهم. والشورى تضمن عملية التطبيق، لأن الذين سيتحملون المهام يكونون قد شاركوا في صياغتها من خلال الشورى.
المؤهلون للشورى يعرفون في الفكر الإسلامي بأهل الحل والعقد (الحكماء وأصحاب القرار والمؤهلون للاجتهاد) . ويرى المفكرون المسلمون المعاصرون أن من تلك المؤهلات: المعرفة بالقرآن والسنة، المعرفة العامة، التجربة والخبرة العملية، الأقدمية، النزاهة وحسن الخلق.
[ ص: 100 ] ونقول اجتهادا: إنه قد يكون من المفيد التعامل مع الشورى بشكل تطوري نمائي، فكل مدرس يمكن أن يكون من أهل الحل والعقد في وقت أو آخر، تبعا لخبرته وتخصصه ودرايته وتبعا لطبيعة الموضوع.
وتمشيا مع مبادئ الإسلام في العدالة فيجب إعطاء أي شخص يتأثر بقرار الحق في المشاركة في صنع القرار أو على الأقل أن يستمع لرأيه. على سبيل المثال يجب الاستماع للمعلم فيما يتعلق بتوزيع الأماكن والجداول والواجبات على المعلمين. يمكن للمديرين توزيع جداول مؤقتة مثلا ويطلب منهم تقديم تغذية راجعة بشأنها على أن يكون مفهوما أنه لا يمكن تلبية مطالب الجميع.
الهم الرئيس هـو أن يكون هـناك شورى صادقة ذات معنى، ذلك أن هـذا المبدأ النبيل قد يساء استخدامه. حتى تكون هـناك شورى صادقة يجب ألا تكون هـناك شللية، ولا محاباة ولا خوف. وهذا يمكن أن يتحقق عندما تصبح الشورى جزءا من الثقافة وليس تقليعة عابرة أو وسيلة للتحايل أو إضفاء الشرعية على قرارات تكون قد اتخذت مسبقا. المدير الذي يطرح آراءه ويطلب الموافقة عليها لا يمارس الشورى. ولا المدير الذي يفتتح اجتماعا بقوله: (لقد اتخذت رأيا وأريد رأيكم بشأنه....) . يمكن أن يحدث ذلك في حالة طارئة ولكن يجب ألا يكون ذلك هـو الأصل. والمدير الذي يتبرم من الآراء المعارضة أو يوجه إزاءها عبارات تحمل طابع التهديد أو يقم بأعمال لتنفيذ التهديد، أو يكشف عن ميوله وتفضيله سلفا قبل الاجتماع لا يمارس الشورى.
[ ص: 101 ] تتطلب الشورى مستويات اتصال متعددة وإشراكا للعاملين في حل المشكلات وصنع القرار، وبيئة تتسم بالانسجام والتعاون والخلو من المشاكل. وهذا من شأنه زيادة الإنتاجية.
من أجل تحقيق شورى حقيقية يجب الاعتراف بالفضل لأهله وعدم التقليل من شأن أحد أو بخسه حقه أو سرقة أفكار الآخرين وتقديمها باسم الشخص نفسه. يجب أن تكون هـناك شفافية وانفتاح
عقلي، وهذا لا يتأتى إلا بتوفر الاحترام والثقة والتمكين وحرية التعبير والاستعداد للانتقاد وقبول الآراء المخالفة. بل يجب النظر إلى الآراء المخالفة باعتبارها نعمة. يجب ألا يستهزأ برأي مخالف، بغض النظر عن موقعه في الهرم التنظيمي أو خلفيته
الاقتصادية والاجتماعية، بالعكس يجب أن يحترم ويستمع إليه. وعلى المدير ألا يتردد في قبول الآراء المختلفة حال اقتنع بها. من ناحية أخرى يجب تجنب المماحكات اللفظية والمواقف الدفاعية، لأنها تتناقض مع جوهر الشورى.
ولكن يجب ألا تؤدي الشورى إلى الشلل المؤسسي. يجب أن نتذكر دائما أن جودة القرار هـي الهدف وليس عدد المشاركين في صنع القرار.
الشورى تهدف إلى توافق يفيد الجماعة أو المؤسسة التي ستتخذ القرار. وفي حالة عدم التوافق يمكن اللجوء للتصويت:
( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة.... ) >[1] في حالة الخلاف كن مع الأغلبية.
[ ص: 102 ] يجب أن تهدف الشورى إلى ارتياد السبل المختلفة والحلول الجديدة إنها عملية فكرية تتسم بالصرامة وتعمل على استطلاع الأعماق وعدم الإبقاء على بديل دون دراسة. بعدها فقط يمكن اتخاذ القرار. ولأن البشر يعتورهم النقص فلا يمكن المضي بالشورى إلى ما لا نهاية بل لا بد من وقت محدد على المدير عنده أن يمتلك الحزم لاتخاذ القرار ويتوكل على الله وينفذ القرار فعليا. والتوكل هـو اعتماد القلب على الله والثقة به، يقين القلب بقوة وحكمة وعدالة الخالق وأن كل شيء بيده. يمنح التوكل الإنسان حسا بالتفاؤل ويأتي بعد الشورى والعزم.
تنفيذ القرار يجب أن يكون عملا مرجعيا بغض النظر عن المواقف التي تسبق اتخاذ القرار. يجب احترام رأي الأقلية قبل اتخاذ القرار ولكن على الأقلية أن تلتزم بالقرار بعد اتخاذه. على المعارضين إدراك أن مشاركتهم بالنقاش يرتب عليهم تحمل مسئولية تنفيذ القرار، بغض النظر عما إذا كانوا قبل ذلك من المعارضين للقرار. الحس بالمسئولية الجماعية مهم جدا لضمان أن كل شخص يعبر عن رأيه بأمانة وصدق.
وأخيرا يجب أن يسترشد القرار بمنظومة القيم والأخلاق الإسلامية. الشورى الصادقة تنجح مع الحس الجمعي والأمانة والتوافق والاعتراف بالأخطاء وتصحيحها وتقدير (الآخر) ، ولا تعمل بنجاح مع المماحكة والغيبة وسحب البساط والنفاق وعدم الإخلاص والجبن والأنانية والميل للفضائح والمجاملة.
[ ص: 103 ]