المبحث الثالث
القيم العثمانية في «كوسوفا»
>[1]
جاء العثمانيون إلى «
كوسوفا » وهم يحملون هـم الدعوة إلى الرسالة الخاتمة إلى الأرض، رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ذاكرتهم أن طريق الدعوة فيها إلى الإسلام وإقامة المؤسسات والبنيات التحتية اللازمة لتمكين المسلمين من أداء شعائرهم الدينية وممارسة أنشطتهم الاجتماعية ليس أمرا سهلا؛ لأنها كانت تحكم قبلهم بوساطة الصرب النصارى الأرثوذكسيين، الذين اشتهروا بالتعصب لمذهبهم الديني وثقافتهم الصربية.
جاءوا وفي يدهم خطة عاقلة متبصرة وطموحة لإدارة الدولة وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين وإقامة مؤسسات اجتماعية ودينية واقتصادية وسياسية تقوم على تقديم الأهم على المهم وأخذ مشاعر ورغبات أهل البلاد بعين الاعتبار عند الإقدام على أي خطوة من الخطوات عن طريق إشراك أعيانهم ورؤسائهم في الأمر.
[ ص: 163 ] أدى التزام العثمانيين بالبرنامج السابق إلى تحقيقهم للعديد من النجاحات في الميادين المختلفة، تجاه رعاياهم في «
كوسوفا »، ومن أهمها، فيما أرى:
أولا: نشر الإسلام في «كوسوفا»
سلكت في معالجة هـذا الجانب منهجا يقوم على إبراز عدد الأسر المسلمة والأسر النصرانية في كل مدينة من المدن – المذكورة في هـذا البحث – الكوسوفية على حدة واستعنت في ذلك بالسجلات العثمانية؛ لأنها تتوافر على معلومات مهمة في هـذا الجانب فالسجل العثماني الخاص بمدينة «
ووشترييا » الذي جمع في عام 892هـ/1486م و893هـ/1487م أوضح أن بها 43 بيتا مسلما و33 بيتا نصرانيا وهذا يعني أنها مدينة ذات أغلبية مسلمة
>[2] .
أما مدينة «بريشتينا» فإن سجلها الذي كتب في عامي 892هـ/1486 و 893هـ/1487م قد أوضح بأنها مدينة ذات أغلبية نصرانية لأنها تأوي 51 بيتا مسلما و 248 بيتا نصرانيا
>[3] .
وأما مدينة «
بييا » فإنها تعتبر من المدن الكوسوفية التي أنجبت رجالا كان لهم إسهام واضح في مجال الإدارة، فإليها ينسب محمود بك الذي تدرج
[ ص: 164 ] في الإدارة حتى أصبح السنجاك
>[4] بك الأول لولاية الدوغاجين في عام 867هـ / 1462م، وهو مؤسس عائلة البغوليين في مدينة بييا
>[5] .
أما عن تصنيف سكانها وفقا لإحصائية عام 890هـ / 1485م فهي تضم 33 بيتا مسلما، وهذا يعني تفوق النصارى عدديا فيها على المسلمين. ولكن زحف الإسلام قد استمر وبخطى أسرع في هـذه المدينة والقرى المجاورة لها ومدن وقرى «كوسوفا» الأخرى بعد هـذا التاريخ
>[6] .
ثانيا: إشراك الألبانيين في المناصب العليا في الدولة العثمانية
يعتبر منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) من المناصب العليا في الإدارة العثمانية فهو أعلى منصب بعد منصب السلطان، وقد تولى هـذا المنصب عدد كبير من الألبانيين خلال الحكم العثماني لبلاد البلقان بلغوا اثنين وأربعين ألبانيا
>[7] .
ثالثا: إيقاف سياسة التطهير العرقي للألبانيين
كان الألبانيون عرضة لتطهير العرقي إبان حكم البيزنطيين والصرب والبلغار واليونانيين لبلادهم ولم تتوقف هـذه السياسة اللاإنسانية إلا بعد مجئ الفاتحين العثمانيين المسلمين؛ لأن العثمانيين يحتكمون في أعمالهم كلها إلى دين - وهو الإسلام - يساوي بين جميع معتنقيه في الحقوق والواجبات
[ ص: 165 ] ويوفر مساحة كبيرة من الحرية لمن فضلوا الاحتفاظ بدينهم والعيش بين المسلمين وفقا للشروط التي تحددها السلطة المسلمة الحاكمة
>[8] .
رابعا: نشر ثقافة التسامح الديني
كانت الدولة العثمانية متسامحة دينيا مع رعاياها من غير المسلمين بالمقارنة مع الدول الأخرى التي حكمت بلاد البلقان، فملك الصرب «استفان دوشان» مثلا كان يأمر بالعقاب بالحرق بالنار لكل ألباني، ومصادرة بيته وأمواله، أما المسلمون العثمانيون فلا يطلبون ممن أراد الاحتفاظ بدينه سوى الالتزام بدفع الجزية
>[9] .
خامسا: السماح لأهل البلاد الاحتفاظ بلغتهم
فرضت الأنظمة والدول التي تعاقبت على حكم بلاد البلقان لغتها ودينها، فالبيزنطيون فرضوا ديانتهم (المسيحية) على البلقانيين وثقافتهم اليونانية، أما الصرب فقد فرضوا عليهم مذهبهم الأرثوذكسي النصراني ولغتهم الصربية، أما العثمانيون فلم يعرف عنهم إكراه لأحد على تعلم لغتهم أو الدخول في دينهم وإنما كانوا يتركون له المجال للاحتفاظ بلغته الأم وتعلم غيرها من اللغات التي يراها مفيدة له في دينه ودنياه
>[10] .
[ ص: 166 ] سادسا: فتح الطريق أمام الكوسوفيين الألبان لتقلد المناصب العليا المدنية والعسكرية في بلادهم
كانت «
كوسوفا » خاضعة للاحتلال الصربي، وتحت هـذا الاحتلال حرم الألبان الكوسوفيون من تقلد الوظائف العليا المدنية والعسكرية... لأن المحتلين ينظرون إليهم كأناس من الدرجة الثالثة، ولكن أحوال الكوسوفيين قد تحولت إلى الأفضل بعد الفتح العثماني لبلادهم، إذ أصبح بإمكانهم شغل الوظائف العليا في الدولة، مدنية كانت أم عسكرية، طالما توافروا على شروطها
>[11] .
سابعا: السماح للألبان الاحتفاظ بالعادات والتقاليد
التزمت الدولة العثمانية بالمنهج الإسلامي، ذلك المنهج الذي يسمح للداخلين في الإسلام بممارسة عاداتـهم وتقـاليدهم والاحتفاظ بـها طالما لا يوجد تعارض بينها وبين تعاليم الإسلام
>[12] .
ثامنا: المساواة بين الجميع أمام القانون
التزم العثمانيون بعدالة الإسلام، فساووا بين جميع رعاياهم أمام القانون، والتزموا بتطبيق الأحكام الصادرة من القضاء على من ثبتت عليهم الإدانة، حتى ولو كانوا من الأسرة الحاكمة نفسها
>[13] .
[ ص: 167 ] تاسعا: عدم تخطيط الدولة العثمانية لتهجير الألبان
لم تخطط الدولة العثمانية لتهجير الألبان من أوطانهم أثناء حكمها، وإحلال عناصرها التركية مكانهم، كما فعـل الصربيون واليونانيون
>[14] ولكن مع ذلك فهناك من المؤرخـين من اتهم العثمانيين بتهجـير الألبان من أوطانهم مستندين إلى هـجـرات بعض الألبان إلى إيطاليا. ولكن في حقيقة الأمر فإن هـجرة الألبان إلى إيطـاليا لـم تبدأ في فترة العثمانين وإنما بدأت منـذ فترة الحـكم الصربي، والعنـاصر الألبانية التي هـاجرت إلى إيطاليا في زمن العثمانيين لـم تهاجر بضغط منهم وإنمـا هـاجرت بمحض إرادتها مدفوعة بدوافع شخصية، منها ما هـو اقتصادي ومنها ما هـو اجتماعي وشخصي.
عاشرا: توفير أسباب الاستقرار والتطور
التزم العثمانيون سياسة متعقلة تجاه رعاياهم، حيث لم ينحازوا إلى طائفة ويخصوها بالامتيازات على حساب الطوائف الأخرى، وإنما حاولوا جهدهم المساواة بين الطوائف والشرائح الاجتماعية المختلفة في الحقوق والواجبات
>[15] .
[ ص: 168 ]