إسلامية المعرفة والبديل
مما تقدم, حيث تبين لك حضور الرؤية الإسلامية في صلب البديل المقترح واستراتيجية دعمه وتطويره، فإن ثمة حقيقة أساسية لا بد أن نشير إليها، وهي: أن ظواهر الخطأ، والمحـدودية العقلية، وفقدان اليقين المطلق أمور تلازم الجهد البشري في حقـل المعرفة، وتجعـل من الحاجة إلى الوحـي -بما يقدمه من يقين معرفي، وإجابات إلهية عن أسئلة الإنسان وملابسات حياته الفردية والاجتمـاعية - ضرورة حيوية وعلمية في المطلق، مثلما هـي ضرورة علمية خاصة في إطار المجتمع، الذي يؤمن بذلك الوحي ومقرراته.
غير أن ثمة تحفظا بهذا الشأن ينبغي مراعاته وهو: أن المداخلة الإسلامية في عملية تأصيل العلم وبنائه، ينبغي أن تتم في إطار من الوعي بمقولة: إن الإسلام «مذهب لا علم»
>[1] .
أي أنه إذا كان بإمكان «المذهبية» الإسلامية أن تنعكس على بعض مسلمات العلم الأولية وتؤثر في صياغة بعض مفاهيمه وبناء نظرياته الاجتماعية – كما تسمح بذلك الطبيعة المعيارية لبعض أنشطة العلوم الإنسانية – إلا أن ذلك ينبغي أن لا يؤثر في حيادية العملية العلمية بصفتها بحثا «منهجيا» في أسباب الظواهر ووصفا دقيقا لخصائصها وتحليلا لعلاقاتها
[ ص: 38 ] ورصدا ماديا واجتماعيا لتكراراتها وانتظاماتها، ومن ثم استنباطا لقوانينها العامة أو النسبية.
إن المعيارية (أحـكام القيمة وما ينبغي أن يكون) لا يمكن، استبعادها - على خلاف ما يزعم - عن مكونات العلم الإنساني «فالعلوم التي تظل تنطوي على القيمة هـي العلوم التي تنطوي موضوعاتها على القيمة» والمنهجية الإسلامية إذ تستوعب المعيارية في بنائها العلمي، تشترط أن تكون هـذه المعيارية مقرونة بالموضوعية في تلازم وتوثيق
>[2] وبالقدر الذي تسمح به طبيعة الموضوعات الفردية أو الاجتماعية المدروسة من جهة، والإطار الاجتماعي والمرحلة التاريخية التي تنتمي إليها هـذه الموضوعات من جهة أخرى، فضلا عما تسمح به وظيفة الفرع العلمي الذي يدرس تلك الموضوعات، وهذا الشرط منسجم بطبيعته مع المعيارية الإسلامية؛ لأن الموضوعية بالمعنى المذكور توفر المعلومة الصحيحة، وتحترم الحقيقة، ومن شأنها مساعدة التخطيط والتطبيق على خدمة مقاصد الشريعة وأهداف المجتمع.
وأخيرا يمكن القول - مع كل ما قدمناه - إن دعوة البديل العلمي في مجالنا العربي والإسلامي تمثل في حقيقتها ظاهرة صحية، وإن أي جهد يصب في اتجاهها ينطوي على قيمة تنويرية، وفعل يسند حركة التغيير، ويخدم في النهاية مشروع النهضة المعاصر الذي بازدهاره يزدهر البديل.
[ ص: 39 ] أما العلوم الطبيعية فهي لا تنجو من بعض الإشكاليات المثارة في حقل العلوم الإنسانية، ولو على مستوى بعض مسلماتها وأفكارها وغاياتها؛ فآيديولوجيا يمكن أن نتذكر عالم الأحياء المشهور «
ليسنكو » في العهد الستاليني حين حاول التوفيق بين النظريات البيولوجية وبين الفلسفة المادية الديالكتيكية ؛ وميتافيزيقيا يمكن القول: إن عددا غير قليل من المفاهيم والتفسيرات العلمية مبني على افتراضات مسبقة وغير تجريبية، فنظرية
داروين - مثلا- على الرغم من تجربتها كانت تصدر عن النظرة الميكانيـكية التي لا ترى في حركة الوجود إلا حركة آلية وليس من ورائها أية قوة عليا.
ومن ناحية المطلق والنسبي، فإنه مع ثورتي «الكم «Quantum والنسبية «Relativity» يمكن القول: إن كل حقيقة مطلقة في الطبيعة قد تتحول إلى حقيقة نسبية في مرحلة علمية تالية.
أما على مستوى الغايات، فليس بخاف أن بعضا من معطيات العلوم الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية أخضعت للتحكمات السياسية والأغراض النفعية واللاإنسانية أحيانا إلا أنه – مع ذلك – لا يبلغ الإشكال في إطار هـذه العلوم حدود الأزمة التي يبلغها في إطار العلوم الإنسانية، نظرا لطبيعة الاختلاف بين هـاتين المجمـوعتين، إذ إن أبرز ما تتمـيز به العلوم الطبيعية - على الرغم مما ذكرناه - هـي الموضـوعية واللامعيـارية إلى حد كبير، إذ لا تسمح أكثر مفاهيمها ونظرياتها بالتحكم الآيديولوجي أو إدخال عنصر القيمة فيها، ولهذا ترتفع في مجالها نسبة الحقائق التجريبية، على خلاف
[ ص: 40 ] العلوم التي مجالها الفرد والمجتمع، حيث لا تمثل الحقائق المنضبطة في مكوناتها إلا القليل، بل يغلب على تلك المكونات البعد الفلسفي والتنظير الفكري والتضمين الآيديولوجي والانحيازات التي يحكمها الاختلاف، على الرغم من ادعاء أصحابها الحياد والموضوعية، وسعيهم لمحاكاة مناهج البحث وأدواته المتبعة في العلوم الطبيعية.
من هـنا تبرز إشكالية الموضوعية في العلوم الإنسانية أكثر مما تبرز في حقل العلوم الطبيعية، غير أنه فيما يخص التوطين فالإشكالية واحـدة في كلا الحقلين، مع تباين وتفصيل سنوضحه بعد حين.