أ- توطين البحوث الإنسانية والاجتماعية
حين يتواصل إخضاع البحوث المحلية للمفاهيم والنظريات والمناهج والاهتمامات السائدة في جامعات الغرب ومراكزه، لا تغدو الدعوة إلى بديل آخر مجرد دعوة منطقية، بل تمثل ضرورة تقتضيها الحاجة إلى تملك العلم وتكوين النظام العلمي القادر على منح البحث قيمته وفاعليته المحلية الخاصة.
- ففي مجال البحوث النفسية – مثلا- إذا اعتبرنا أن السعي لاكتشاف «الحقائق النفسية المطلقة» يمثل المهمة الأساس لعلم النفس، فإن السعي للإجابة عن سؤال الهوية السيكولوجية الخاصة يمثل مهمة أساسية أخرى تستحق الأولوية.
فإذا كان الباحث النفسي الغربي لم يقصر جهده على معالجة ما هـو عام، بل ظل معنيا في الأساس بكشف الحقائق النفسية التي يختزنها الواقع الذي ينتمي إليه، فإنه بإمكان الباحث في المجال العربي والإسلامي أن يهتم هـو الآخر بتحديد هـويته السيكولوجية انطلاقا من تشخيصه وتحليله للسمات النفسية والثقافية والحضارية، التي تؤطر مجاله الاجتماعي، وأن يطرح عبر ذلك التساؤلات الخاصة، ويواجه المشكلات النوعية السائدة في ذلك المجال، فيكون بذلك قد وضع الأسس الأولية لتوطين البحث.
إنه لمن المنطق أن يعتمد توطين البحث النفسي في إطار المجال العربي والإسلامي على ما ورد في القرآن والسنة الصحيحة من إشارات وتوجيهات يمكن البناء عليها لطرح بعض المسلمات أو الفروض، أو صياغة بعض
[ ص: 106 ] المفاهيم وإنتاج بعض المقولات، بل بإمكان الباحث العربي والمسلم أن يتبنى نسقا معرفيا خاصا يحدد من خلاله التنظيرات والاتجاهات والممارسات التطبيقية، مع إمكانية الاستفادة من بعض معطيات البحث الغربي والأجنبي عموما، لا سيما على مستوى المعارف العابرة للمجتمعات.
وما يصدق على البحث في علم النفس يصدق في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى.
وإذا كان لبعض الكتاب الريادة في التنبيه إلى بعض المسلمات أو بلورة بعض الأفكار النفسية اعتمادا على المنظور الإسلامي، أو كان لهم سبق الإشارة إلى بعض الموضوعات والإشكاليات المتصلة بالواقع العربي والإسلامي، فإن من الباحثين الأكاديميين من اشتغل على التوطين في هـذا المجال بشكل بناء، وما زال المعنيون بذلك يشقون الطريق – على قلتهم في الوسط الجامعي – وعبر عدد من الدراسات المحلية المهمة حتى وإن لم يوفر ذلك الجهد بعد معرفة أو نتائج سيكولوجية يمكن الإعلان من خلالها عن وجود مدرسة عربية إسلامية في علم النفس
>[1] .
- وفي مجال بحوث الإعلام، كنموذج آخر، نجد أن الدراسات التي تقوم بها الجامعات والمراكز العلمية في
أفريقيا المسلمة مثلا تفتقر إلى المنظور المعرفي المستقل، ولا يلامس أكثرها الإشكالات والهموم المتصلة بشعوب
[ ص: 107 ] المنطقة أو بيئاتها، فالدراسات المسحية التي تجريها مراكز البحوث في هـذا المجال، كثيرا ما تصرف اهتمامها نحو أسواق المستهلكين الأفارقة، وذلك بحكم تمول هـذه المراكز من قبل شركات أجنبية، كما أن عددا من البحوث يجري لصالح بعض وسائل الإعلام الأجنبية التي يهمها قياس مدى شعبيتها في بلدان القارة، وهي لا تقوم بمجملها بأي إنجاز ذي قيمة
>[2] .
ولا يختلف الوضع كثيرا في العديد من جامعات الدول العربية والإسلامية ومراكز بحوثها، ولعل ما شهدته الدراسات والبحوث الإعلامية في فترة الثمانينيات من القرن الماضي من اهتمامات، فيه ما يشير إلى حالة من التبعية تؤكد أهمية الدعوة إلى توطين بحوث الإعلام ودراساته.
والتوطين هـنا لا بد أن ينطلق من رؤية إعلامية تستهدف تنمية الوعي وتحصين العقل، وتدفع باتجاه الاشتغال بقضايا البيئة، وبناء الإنسان، بعيدا عن منطق التبعية وثقافة الاستلاب.
ولا يمكن للتوطين أن يتم على هـذا النحو ما لم تحكم البحث الإعلامي المبادئ والتوجيهات الإسلامية الواردة في هـذا الخصوص، على نحو ما أشرنا إليه في صفحات سابقة، كما لا بد أن يكون الباحث معنيا بالمشروع الحضاري الذي يحدد له الاهتمامات والوسائل والغايات، ليمنح بحوثه السمة والهوية الخاصة.
[ ص: 108 ] وهنا لا بد من التنويه بأن ثمة دراسات إعلامية جامعية ظهرت منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وهي تعتمد الرؤية الإسلامية، وتهتم بقضايا الواقع وشئونه الإعلامية، بحيث يمكن معها القول: إن ثمة جهدا لا بأس به يبذل في مجال التوطين على هـذا الصعيد.
أما بالنسبة لمناهج البحث وأدواته، فمن أولى شروط اختيار المنهج: وجود الترابط المنطقي بين المنهج وطبيعة الموضوعات المعالجة.. ومناهج البحث وقواعده وأدواته هـي ليست مجرد صيغ أو وسائل فنية، بل تعبر على نحو ما عن الرؤى والأفكار التي يحملها الباحث عن الإنسان والمجتمع والكون والحياة، فاعتماد المنهج «الجدلي» يعكس ربما وجهة نظر ماركسية بشأن حركة الأشياء والمجتمعات، والمنهج «الوظيفي» قد يعبر في العادة عن التفكير الرأسمالي المحافظ، كما أن المنهج «الأصولي» الذي تصاغ في ظله المفاهيم أو تستنبط من خلاله الأحكام الشرعية هـو منهج الباحثين ذوي المرجعية الإسلامية.
والحقيقة: أن اختيار منهج بعينه، قد يعبر عن موقف خاص إزاء النظام الاجتماعي القائم، فإذا كان من الشائع استخدام المناهج «الإمبيريقية» و «الوظيفية» في الدراسات الغربية، فذلك ما قد تفرضه طبيعة البناء الاجتماعي القائم المحفوظ، إلا أن هـذه المناهج ليست بالضرورة صالحة للاستخدام في إطار العالم العربي والإسلامي؛ نظرا لاختلاف البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة في العالمين المذكورين، فضلا عن اختلاف المشكلات هـنا وهناك.
[ ص: 109 ] فالمنهج الإمبريقي حين يستخدم أداة لدراسة الظواهر والمشكلات على نحو منفصل عن النسق الاجتماعي العام، ويبحث في الكيفيات لا في الأسباب، فإن ذلك يمثل خيارا ضمنيا لعدم التعرض لأصل البناء القائم، وإذا كان هـذا المنهج يعبر عن التزام الباحث بنظامه الاجتماعي الذي لا يحتاج بنظره إلى أكثر من بعض الإصلاح، فقد لا يناسب ذلك باحثا ينتمي إلى مجتمع متخلف ما زال يعيش مطلب التغيير والبحث عن الهوية
>[3] .
كما أن البحث في منطقه ومناهجه، قد يختلف من باحث إلى آخر، وفقا لاختلاف المنظور الفكري، ففي علم الآثار مثلا نجد – بحكم نشأة هـذا العلم الأوروبية – ثمة اهتماما بالجوانب الحسية والعناصر التوثيقية والأبعاد الفنية لدى الباحث الغربي أكثر من الاهتمام بالخلفيات العقيدية أو الأبعاد القيمية التي ينطوي عليها الأثر، لذلك كثيرا ما يعتمد الباحثون الغربيون في هـذا المجال على المنهج الوصفي، فيما لا يسع الباحث الذي يصدر عن رؤية إسلامية إلا أن يهتم بما يختزنه الأثر من معان ودلالات ولا يكتفي بالوصف.
فالوقـوف على آثار الملـوك أو الحضـارات أو الإمبراطـوريات، وما يتخللها من إيمان أو ضلال، واستقامه أو انحراف، وعدل أو طغيان، وصعود أو هـبوط، يفرض الاستعانة بمنهج «التحليل الثقافي» الذي يمكن من خلاله الكشف عن طبيعة الممارسات وحقيقة الظواهر ومنحى السير، وهذا
[ ص: 110 ] هو منهج القرآن وهو يتعرض لحال الجماعات الغابرة، كما في قوله تعالى:
( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ) (الفجر:6-14) وفي قوله تعالى:
( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ) (الشعراء: 128-132) .
بناء على ما تقدم، ومن خلال ما يفرضه المنظور الإسلامي من اهتمامات، وما يتطلبه من مناهج وأدوات، يمكن الحديث عن توطين البحث الآثاري الذي يشكل مدخلا أساسيا لتوطين علم الآثار
>[4] .
- أما المقاييس والاختبارات واستمارات الاستبار المنتجة غربيا، التي ترتبط في تصميماتها واختيار مفرداتها بقيم واتجاهات وأذواق الأفراد في المجتمع الغربي، فتحتاج هـي الأخرى إلى توطين، لذلك يجدر بالباحث في المجال العربي والإسلامي أن لا يعتمدها في دراسته كما هـي؛ لأن جدواها المعرفية لا ينـتج إلا في السياق الثقافي والاجتماعي الذي أعدت له، ومن ثم فاستخدامها في غير إطارها الأصلي سيكون أمرا مضللا، ما لم يتم إخضاعها للتعديل أو التكييف.
[ ص: 111 ] إن الباحثين الغربييين سواء في مجالات التربية أو علم النفس أو علم الاجتماع أو الإعلام، أو غير ذلك، قد وضعوا مقاييسهم واختباراتهم في ضوء السمات الثقافية للإنسان والمجتمع الغربيين، وأنه من غير الصحيح نقل تلك المقاييس والاختبارات وتوظيفها في دراسات تتعلق بمحيط يختلف عن المحيط الذي وضعت فيه ومن أجله، كما في اختبارات الذكاء عند الأطفال مثلا؛ لأن استخدامها بهذا الشكل لا يمكنه أن يفضي إلى توصيفات أو نتائج موضوعية، بل قد يباعد كثيرا بين النتائج والوقائع
>[5] ، فاختيار العينات قد ينطوي على تحيز ما، وأنه على الرغم من وجود تماثل في كثير من النظم والمؤسسات في المجتمعات الإنسانية، إلا أن النتائج التي تبلغها دراسة ما وفقا لمعطيات مستحصلة من مجتمع معين، قد لا تصدق على عينة مستخرجة من مجتمع آخر
>[6] .
إنه لمن حسن الحظ أن يتنبه عدد من الأساتذة العرب إلى هـذه الحقيقة منذ وقت مبكر حين عمد هـؤلاء إلى «تمصير» أو «تعريب» بعض المقاييس والاختبارات النفسية والعقلية والتربوية والاجتماعية، وعملوا على توطينها
[ ص: 112 ] بإعادة تصميمها وتقنينها وفقا لمعايير ومحاكاة مستوحاة من الواقع المصري أو العربي، وقد خاض علماء النفس المصري معركة قوية في هـذه المجال وهم ينقلون – كما يقول
د. محمد عيسوي >[7] - عددا من المقاييس والاختبارات من أصولها الأوربية والأمريكية إلى البيئة المصرية والعربية ومن ثم منحها الطابع المحلي، حتى الأدوات الرياضية والإحصائية التي يستبطن اختيارها مواقف أو اتجاهات مسبقـة قد تحتاج إلى شـيء من التكييف، على نحو ما أشرنا إليه في فصل سابق.