توطين البحوث التكنولوجية
ج- إجراء البحوث التكنولوجية من الوظائف التي يمكن للجامعة الاضطلاع بها عبر مراكزها ومعاملها وورشها، ومن خلال جهود باحثيها وأعضاء هـيئاتها التدريسية.
والجامعة كجهة علمية حري بأن تعنى بالبحوث التطبيقية التي من شأنها تكييف المعالجات وأساليب التعامل سواء مع ما يتم استيراده من تكنولوجيا أو مع ما يتم ابتكاره محليا.
وفي المجال العربي والإسلامي بوسع الكليات الهندسية والصناعية والزراعية والطبية أن تشتغل بهذا الاتجاه منفردة أو بالمشاركة مع الكليات والمؤسسات والورش المحلية أو الإقليمية انطلاقا من الأسس والمعايير الآتية:
1- نقل التكنولوجيا الأجنبية يجب أن يتم بناء على فهم المبادئ والأصول العلمية، التي تقوم عليها تلك التكنولوجيا، وليس باستيرادها حزمة واحدة «pacKage» وفقا لما يسمى بعملية تسليم المفتاح «Tarn – Key point» التي هـي ليست أكثر من صفقه تجارية تتعلق بسلع رأسمالية
>[1] . وإذا كان هـذا الأسلوب متبعا في الدول المتقدمة، فبصفته نشاطا داخليا، وهو لا يتناسب مع البلدان التي تفتقر إلى التكنولوجيا والتي يجـدر بها اكتساب المعرفة والعنصر الناعم من منظومة التكنولوجيا «Soft–Ware» حتى يكون النقل أساسا للمحاكاة.
[ ص: 118 ] وفي كل الأحـوال لا بد من اتباع استراتيجـية يبدأ من خلالها بالسهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المعقد، مع مراعاة مبدأ الخطوة خطوة.. وإذا كان التقـليد يمثل البداية، فيجب أن يتم ذلك انطلاقا من معرفة خواص كل قطعة ودورها، ثم إجراء البحوث التي تحدد سبل التكنولوجيا وآفاقها الواعـدة لتجاوز حالة التقليد إلى التجديد ومن ثم الإبداع الخاص.
2- الاهتمام باستيراد أو ابتكار تكنولوجيا ذات كفاءة اقتصادية، ومعيار الكفاءة هـنا هـو التوافق بين المنتج وظروف البيئة ومـا يحيط بها من شروط.
وهذا يعني على صعيد البحث: إنه يجب تجنب البحوث التي تعمل من أجل تكنولوجيا تتطلب بطبيعتها استخداما كثيفا للطاقة، أو تعتمد على موارد أو رءوس أموال عالية، لا سيما في بلدان تعاني من شحة أو نقص في ذلك، أو إنها لا تتوجه أساسا لتلبية احتياجات الغالبية من السكان، أو تضر بالبيئة، أو لا تعالج ما هـو قائم من مشاكل.
كما أنه سيكون من المنـاسب أن تجرى البحوث التي تعمل على تطوير ما هـو قائم من التقنيـات المحـلية المقبولـة، وأن يراعى في سياق ذلك ما هـو متحقـق من نمو، عـلى ما نحو ما فعلته بلدان
كالصين وكوريا وغيرها.
[ ص: 119 ] وإنه من الحيوي الاهتمـام بالبحـوث المتصـلة بمشـاكل قائمـة، أو ما يسمى بـ «تقنية الضرورة»
>[2] التي يمكن التأسيس عليها بحثا وإنتاجا فيما بعد.
3- الاستغلال الحسن للتكنولوجيا المستوردة، وذلك عن طريق توفير خبرة الاستيعاب، وفتح الآفاق نحو إحداث التطوير، وحـتى اجتراح ما هـو جديد من المبتكرات، على نحو ما فعلته
الصين بعدما توقفت عنها المساعدات السوفيتية، أو مما فعلته
إيران بعد الحصار لا سيما على صعيد التكنولوجيا العسكرية، أو ما فعلته بعض الجماعات في
نيجيريا إبان الحرب، حيث أظهر الانفصاليون براعة في إنشاء مصافي صغيرة لإنتاج البترول والمازوت والكيروسين
>[3] .
وهذا يعني: أن الاعتماد على الذات أحد شروط بناء التكنولوجيا الوطنية، لا سيما في ظل التعامل النفعي الذي تمارسه الدول المتقدمة والشركات المتعددة الجنسية مع بلدان العالم الإسلامي والثالث، الذي ظل محكوما بالمصالح والأنانيات، حتى إن الشركات الكبرى حين تجري بحوثا في تلكم الدول لم تكن لتستهدف ترقيتها أو ترقية متدربيها بقدر ما تستجيب لاستراتيجيات الشركة الأم ومصالحها
>[4] .
[ ص: 120 ] 4- لا بد عند إجراء البحوث التكنولوجية من مراعاة العناصر القيمية والثقـافية السـائدة في المجتمع، فمن التكنولوجـيا ما يحمـل في تكوينه أو استخدامه معاني أو دلالات متحيزة، أو أغراض مفسدة، أو حتى إجرامية، كما هـو الحال في التجارب أو التقنيات التي تعمل على الإضرار بالكيان الفردي أو الجماعي للإنسان بطريقة شاذة أو مدمرة، أو كما هـو في حالة النظم المعمارية التي تعكس نمطا ثقافيا لا يتوافق مع عوائد المسـلمين أو التزاماتهم الشرعية، أو في حالة بعض التكنولوجيات الزراعية أو الصناعية التي تصطدم بعوائد الفلاحين أو العمال أو أنماط حياتهم.
ففي مثل هـذه الحالات لا بد من استبعاد التجارب أو التقنيات المرفوضة من جهة، وإجراء التوفيق الممكن بين ما يراد تصنيعه أو إنتاجه وبين الثقافة السائدة في المجتمع.
5- ضرورة أن تستوعب البحوث طبيعة العلاقة بين التكنولوجيا والبيئة المحلية، سواء في أبعادها الطبيعية أو الجغرافية أو المناخية، فالتكنولوجيا لا تحقق فاعليتها بمجرد النقل، بل لا بد من استنباتها في أرض الواقع، ودمجها عضويا ضمن سياقاته وتشابكاته المتعددة، تأسيسا على رؤية متكاملة تتناول الزوايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والعلمية في آن واحد، وإلا فالمظاهر المجلوبة لا تعبر عن تقدم حقيقي أو تنمية حقيقية، فالاقتصار على كثرة السيارات وارتفاع العمارات واستخدام الأجهزة الحديثة على اختلافها وتنوعها، لا يعني بالضرورة تقدما تكنولوجيا، مادام ذلك لا يعد
[ ص: 121 ] من الإنتاج المحلي، ولا هـو في الحد الأدنى خاضع للتبيئة والتوطين، «فللعلم والتكنولوجيا بعد منظومي من حيث إنهما يتفاعلان مع المحيط والبيئة، ومقياس التقدم فيهما هـو مستوى التحكم الذاتي الذي تحرزه تلك البيئة »
>[5] .
ولعلنا نجد جدلية العلاقة بين التكنولوجيا والبيئة واضحة في تجربة مساكن «
النوبة الجديدة » التي أنجز بناؤها بتكنولوجيا الإسمنت المسلح، ولم تراع فيه حرارة المنطقة، الأمر الذي أدى إلى فشل التجربة، حيث ترك النوبيون بيوتهم الجديدة، وعادوا يبنون بيوتا أخرى من اللبن والطين المطلي بالجير على الطريقة التقليدية الملائمة
>[6] .
6- توثيق العلاقة بين الجامعة وأجهزة القرار في مجالات الدراسة والبحث والتصميم والتطوير، دفعا لأعضاء الهيئات التدريسية والكادر العلمي نحو الإسهام بمشروعات التنمية وإبداء الرأي وتقديم المشورة للكثير مما تخطط له الدولة أو تنفذه، أو ما تقوم به القطاعات الصناعية أو الإنتاجية الوطنية أو الأجنبية.
من هـنا لا بد - على مستوى آخر - من اتباع سياسة الإشراف العلمي المشترك مع الجامعات الأجنبية بالنسبة للطلبة المبعوثين، ضمانا لتوجيه أبحاثهم وأعمالهم نحو خدمة الواقع الوطني، بالنحو الذي يحقق الفائدة المرجوة.
[ ص: 122 ]