مقترح لبرنامج تعريبي لعضو الهيئه التدريسية في الجامعة العربية:
إن محورية عضو الهيئة التدريسية في أي مشروع تدريبي تعريبي، تؤكدها حقيقة أن مداخل التعريب الجامعي المتعددة ترتبط عمليا بشخصية (الأستاذ) بحكم مهامه التي تمتد إلى أبرز الأنشطـة التعليمية والعلمية في الجامعة، فهو إذ يحاضر ويسهم في وضع المقررات ويؤلف ويمارس البحث العلمي، فإن أي قرار إداري يستهدف تعريب التعليم لا يمكنه أن يبلغ النجاح المطلوب دون الأستاذ المعرب الجاهز للاضطلاع بدوره في عمليات التعريب.
من هـنا، فإن الشرط الأساس لنجاح أي مشروع تعريبي في الإطار الجامعي، يتوقف على مدى إعداد عضو الهيئة التدريسية للتكيف مع ذلك المشروع، لذلك سنقدم هـنا تصورات ومقترحات تخطيطية لبرنامج تدريبي لتكوين الأستـاذ المعرب والمعرب
>[1] يمكن الأخذ بها في إطار دورة أو عدد من الدورات.
[ ص: 160 ] عناصر البرنامج: تصنيف وتحليل:
إن عناصر البرنامج ومفرداته وأنشطته المقترحة، يمكن إجمالها بشيء من التوضيح والتحليل.
أولا: محاضرات في التوعية بمفهوم التعريب وأبعاده الحيوية، وأهمية الدور الذي يمكن أن يضطلع به الأستاذ الجامعي في هـذا المجال.
في إطار محاضرات كهذه يمكن التعرض للتعريب بصفته إشكالية معرفية، والتعرض له في أبعاده الاجتماعية والقومية والعملية، وإذا كان التركيز على إيضاح الجانب المعرفي مطلوبا، فباعتباره يتصل اتصالا وثيقا بالمعرفة والعلوم والمقررات التعليمية.
كما يمكن أن تتناول هـذه المحاضرات الأبعاد التعليمية والتربوية والعلمية للتعريب:
فالبعد التعليمي يتجلى من خلال عرض ما أثبتته الدراسات التي أكدت أن التعلم باللغة الأم هـو أفضل للطلاب من حيث الاستيعاب وتوفير القدرة على الفهم والتمثيل مما لو كان تعلمهم باللغة الأجنبية، فالطالب عند تعلمه بغير لغته الأولى سيحتاج إلى بذل مجهودين (الأول) فهم اللغة الأجنبية ودلالاتها، و (الثاني) فهم المادة العلمية بعد ترجمتها في ذهنه إلى اللغة الأم، وفي هـذا شيء من الإعاقة وعدم اليسر، حتى بالنسبـة للمتمكن من اللغة الأجنبية المكتوب بها العلم المدروس.
[ ص: 161 ] أما البعد التربوي، فيتبين من خلال إيضاح أن التشكيل الوجداني والفكري للطلبة يرتبط بنوع اللغة التي يتلقون بها ويتثقفون من خلالها، فإذا كانت اللغة لغة أجنبية، فإن التلقي والتثقيف سيحدث في إطار قيم ومحمولات تلك اللغة، وهو ما يمكن تجنبه فيما لو كانت اللغة القومية هـي لغة التعليم.
أما البعد العلمي، فخلاصة القول فيه: إن تأصيل العلم وبناء قاعدته وتحقيق نموه وتوطينه، لا يتم إلا إذا كانت اللغة القومية هـي لغة التعليم، وهي الأداة التي تنجز عبرها البحوث وتتم عبرها الأنشطة التدريبية.
ومن هـنا تبرز القيمة العلمية للتعريب، إذ يمكن بناء على ذلك القول: إن اكتساب العلم وإجراء بحوثه وأنشطته باللغة العربية سيفضي إلى إحداث توازن بين المعرفة واللغـة، بما يجعل من الاكتسـاب المعرفي تمثلا فإبداعا، لا مجرد استهلاك أو تقليد.
كما أن تعريب التعليم العالي حين لا يتم إلا من خلال تعريب المناهج والمقررات والكتب الجامعية وتعريب التدريس والبحث العلمي، فإنه من الطبيعي أن يظل عضو الهيئة التدريسية هـو المحور الذي يتوقف عليه نجاح المشروع التعريبي، على اعتبار أنه يمثل الأداة الحية لتعريب كل تلكم الفعاليات الجامعية المذكورة، كما أن الفاعلية التعريبية التي يمكن أن يمارسها الأستاذ المعرب والمعرب، سينتقل أثرها إلى المتلقين تعليما وتفاعلا مع العلم ومواده التعليمية.
[ ص: 162 ] إن عضو الهيئة التدريسية بصفته قدوة تربوية، سيعكس التزامه بلغته الأم حالة إيجابية تشع على فكر الطلاب ووجدانهم، وتربي عندهم نزعة الاعتزاز بالهوية والخصوصية، وستضعهم في مناخ القيم والاتجاهات والمنهجية التي تتضمنها اللغة العربية، فضلا عما سيشعرهم ذلك المنحى التعريبي بالقيمة التي تختزنها لغتهم، ناهيك عما سينمي لديهم ذلك من إمكانات التفكير العلمي المستقل الذي يدفعهم نحو المبادرة والإبداع.
إن الأستاذ المعرب والمعرب حين يمارس تعريبه لا يكشف للطلبة عن مجرد ثراء اللغة العربية وقابليتها على استيعاب المعارف والعلوم، بل قد يثير في أذهانهم قضايا معرفية مهمة، كأن ينبههم إلى ما تنطوي عليه بعض المصطلحات الأجنبية -وهي تحمل أكثر من مدلول – من وضع يثير الالتباس الفكري, وفي الوقت نفسه ينبههم إلى خصوبة العربية ودقتها في التعبير العلمي وهي تتوافر على أكثر من مصطلح للتعبير عن كل حالة أو درجة من حالات أو درجات الظاهرة الواحدة، وبهذا يمارس المحاضر ممارسة تعليمية تجمع بين اللغة والعلم بشكل بديع، وبهذا النحو يمكن أن يضطلع المحاضر بدور مؤثر في التنشئة العلمية، وفي تكوين الاتجاهات النابعة التي تساعد على توفير مناخ أفضل للإبداع.
إنه من خلال عرض محاضري الدورة للأبعاد الحيوية الثلاثة، التي ذكرناها للتعريب، وبيان أهمية دور الأستاذ في ذلك، ستبرز أهمية التعريب وضرورة النهوض فيه.
[ ص: 163 ] ثانيا: دراسة خصائص اللغة العربية:
إن من شروط المعرب والمعرب أن يكون على علم بخصائص اللغة وظواهرها التي يمكن إجمالها هـنا بما يأتي:
أ- العراقة والاستمرارية:
في الوقت الذي تعرض له كثـير من اللغـات إلى الاندثار أو الذوبان أو الاختلال، فقد ظلت العربية حية ومحتفظة بقواعدها وأصولها العامة عبر القرون، فظلت بذلك لغة حية وقوية، الأمر الذي ميزها بالأصالة والاستمرار، وتلك ميزة لا تعرفها أية لغة من اللغات القديمة أو الحديثة، فقد بادت لغات وأصبحت طلاسم لا يفكها إلا المتخصصون، واستمرت لغات أخرى دون أن يقدر أبناؤها على فهم الكثير من تراثها، لاختلافها في طرائق التعبير، وانحسار كثير من ألفاظها، وانقطاع الصلة بين ماضيها وحاضرها، وتغيرها في النطق والرسم، وغير ذلك مما تتعرض له اللغات.
>[2] إن الناطق بالعربيـة اليوم بمقدوره أن يفهم العربية التي كتبت قبل قرون، بخلاف الفرنسي أو الإنجليزي أو الألماني المعاصر، الذي لا يجد في نفسه مثـل تلك القـدرة إزاء التغـيرات الكبيرة التي طرأت على لغتـه عبر السنين.
[ ص: 164 ] ب- النسق أو النظم اللغوي:
تتميز العربية بصفة النسقية، التي يوفرها ثبات أصولها وقواعدها، فأقسام الكلام فيها معروفة، كذلك ضمائرها وأدواتها وصوغ كلماتها وضبط حروفها وبناء جملها وأساليبها، الأمر الذي يجعل من نظامها علما يمكن السيطرة عليه وجعله في متناول الأفهام.
أما ظاهرة تطابق الإملاء العربي شبه التام مع الألفاظ المنطوقة، فهي من سمات النظامية اللغوية أيضا، فالحرف العربي يحمل صورة نطقية واحدة مع احتفاظ بعض الحروف ببعض خصائصها في سياق الجملة أو ضمن الجملة، كما أن العربية وهي لا ترتبط بنظام نبري محدد، فإنه يجوز النطق ببعض حروفها بأسلوبين مختلفين دون أن يشكل ذلك تغيرا في اللفظ، على خلاف الإنجليزية والروسية، اللتين يمتاز النبر فيهما بالحركة، التي تمثل وحدة صوتية مميزة فوق التركيب، مما يؤثر في معنى الكلمة ويجري عليه التغيير.
>[3] والخلاصة: أن البنية العربية نظام كلي مكون من أنظمة فرعية، مثل نظام الأصوات ونظام المقاطع ونظام النبر ونظام التنغيم ونظام المباني الصرفية، والإعراب والمطابقات والروابط والأدوات والرتب والتضام، الذي يتمثل في الافتقار والاختصاص والتنافي والتوارد.... إلخ.
>[4] [ ص: 165 ] ج- الاقتصاد والإيجاز:
يظهر الجانب الاقتصادي وعنصر الإيجاز في العربية من خلال الأمور الآتية
>[5] :
- الميل إلى التركيز، ويظهر ذلك في أمور كثيرة منها: الإضمار، والتلخيص، ونبذ استعمال الأفعال المساعدة.
- التصنيف والتقعيد: وهو مظهر اقتصادي يساعد على فهم اللغة ودراستها.
- الاقتصاد في الجهد، ويظهر ذلك في بعض الحالات مثل: التأليف، الإدغـام، والإعـلال، والإبدال، والتخـلص من التقاء الساكنين، والمناسبة الصوتية.
- ظاهرة تعدد المعنى للمبني الواحد
>[6] ، وظاهرة النقل سواء في المعاجم اللغوية أو في القواعد النحوية.
كما تتسم العربية بالاختزال، الذي نجده في الأصل الثلاثي للفظ العربي، وفي المفردات والتراكيب ورسم الحروف، وما نراه في بعض المعاني المكونة من كلمة واحدة، وبعضها الآخر المكون من حرف واحد كالضمائر
[ ص: 166 ] وحروف الربط، وأن أقصى عدد حروف العربية ستة حروف
>[7] ، وجملتها قد تتكون من كلمة واحدة، فقد أقول بالعربية وبكلمة واحدة: «استنجـد» ولا يمكن للإنجليزي أن يقولها إلا بأربع كلمات هـي «he asKed for help»، أو أقول: «تلاقيا» فيترجمـها الإنجـليزي: «theyMeet each other»
>[8] ، أو قد تكون الجملة متكونة من عدة كلمات وهي تعبر عن فكرة واحدة، ناهيك عن أن حروف الربط والوصل قد تعمل على تكوين جملة من عدة أفكار مترابطة
>[9] ، وهي ميزة تكسب العربية قدرة التبسيط وتيسير التعلم والتعبير بشكل مكثف عن المعاني الجديدة.
د- القابلية للنمووالتكيف والتطور:
اللغة العربية لغة قابلة لتكوين بني لغوية جديدة، فهي تقدم نفسها بشكل رحيب بحيث تستطيع التعـامل الذاتي مع التغيرات والتطورات المحيطة بحياة الإنسان، ويتجلى ذلك من خلال بعض إمكانياتها المتمثلة في الظواهر الآتية:
- الاشتقاق: يعرف اللغويون الاشتقاق بأنه «تحويل الأصل الواحد إلى أبنية مختلفة لمعان مقصودة لا تصلح إلا بها» أي: أن الحروف العربية الثابتة
[ ص: 167 ] التي يطلق عليها مادة الكلمة أو الجذر مثل: (ك ت ب) تتحول إلى أبنية مختلفة عند إدخال الحركات عليها
>[10] .
والاشتقاق عمدته الأصل الثلاثي للفظ العربي، الذي هـو أيضا من خصائص هـذه اللغة، فالعرب يستكرهون الألفاظ الثقيلة، لذلك أقاموا معظم ألفاظهم على حروف ثلاثة لخفتها وسهولة النطق بها ولإيجازها، ولا تكاد لغة أخرى تشاركها هـذه السمة الواضحة
>[11] .
وقد استخدم علماء العربية أنواعا مختلفة من الاشتقاق منها: الصغير والكبير، والأكبر والكبار
>[12] .
ولقد جعل الاشتقاق العربية كائنا حيا مبدعا قادرا على استيعاب ألوان جديدة من الأفكار والمظاهر الحديثة، كما طوع اللغة لقبول المعاني الواحدة، وساعد على توليد الصيغ وتحديد الدلالات وابتكار المعاني الجديدة.
- الإلصاق: المقصود بالإلصاق إضافة زائدة في صدر الكلمة تسمى سابقة «prefixe»، أو في عجزها وتسمى لاحقة «suffixe» أو في وسطها وتسمى حشوا «infixe». ويغلب على اللغات الأوربية الاعتماد
[ ص: 168 ] على السوابق واللواحق في صوغ الكلمات، ويقل - إن لم ينعدم - استعمال الحشو، أي التدخل في قلب الكلمات بالتغيير أو بالإضافة، وكل ذلك يطلق عليه مصطلح الإلصاق «Affixaion».. واللواصق في العربية نوعان: لواصق اشتقاقية، ولواصق دلالية، أما اللواصق الاشتقاقية فهي الداخلة في صوغ المصطلحات العلمية وغيرها، بحيث تصبح اللاصقة جزءا من بنية الكلمة، وأما اللواصق الدلالية فهي ما يتصل بالكلمة من أدوات تفيد معنى زائدا عليه ولا تعتبر جزءا من بنيتها
>[13] .
- الوحدة والتنوع: سبق أن أوضحنا أن اللغة العربية تتميز بصفة النسقية التي توفرها وحـدة أصـولها وثبات قواعـدها، إلا أن هـذه الصفة لا تحول دون حرية التعبير والتفنن في التوليد والتوسع في أساليب الكلام، فالعربية لغة تتسم بإمكانية التنوع في تراكيبها وصيغها وألفاظها وأساليبها وطرق التعبير عنها.
كما أن نظام الجملة فيها مرن يسمح بالتقديم والتأخير، على خلاف النظام في اللغات الأوروبية كالإنجليزية والفرنسية الذي يستقر استقرارا يكاد يقرب إلى الجمود
>[14] .
إذن، فإلى جانب ظاهرة تماسك التكوين اللغوي، تتوفر في العربية المرونة التي تسمح بالاستيعاب اللغوي لكثير من المستجدات الفكرية والمادية، وهذا ما نجده من خلال الإمكانات التالية:
[ ص: 169 ] القياس: هـو استنباط صيغ لغوية جديدة لم تكن معروفة من قبل، للتعبير عن معان ودلالات جدت على المجتمع، ولم يكن في اللغة ألفاظ تعبر عنها.
ويجري هـذا الاستنباط حين توجد مناسبة ما بين الصيغ المستنبطة والقواعد الأصولية.
والقياس نوعان: لغوي، وإبداعي
>[15] .
- المجاز: وهو يعني لدى علماء البيان: الانتقال بالكلمة من معناها الأصلي إلى معنى جديد، فمثلا «القاطرة» كانت تعني: الناقة التي تتقدم القافلة، وأصبحت الآن تعني: عربة من عربات السكك الحديد. و «السيارة» كانت تعني في الأصل «القافلة» لكنها تعني الآن: «العربة» التي يحركها محرك «موتور» وينتقل بها الناس من مكان إلى آخر، و «الطيار» كان في الأصل اللغوي الفرس الشديد، فيمـا يعني الآن: «قائد» الطائرة، أو صفة ما يطير من المواد الكيميائية، وهكذا بالنسبة إلى ألفاظ أخرى مثل الشاحنة والدراجة والباخرة والمدمرة..
لقد استخدم الأولون ألفاظا كثيرة جدا بطريقة «المجاز» منها «الصلاة» و «الزكاة» و «الصوم».. وبأسلوب المجاز يمكن صك الكثير من المعاني والمفاهيم الحديثة في إطار مصطلحي يوفر معنى عربيا مقابلا للكلمات والمعاني والأسماء الأجنبية.
[ ص: 170 ] - النحت: هـو نوع من الاشتقاق يقوم في أساسه على استخلاص كلمة واحدة من مجموعة من الكلمات توحي بدلالة واضحة على المعنى العام المركب، مثال ذلك كلمة «البسملة» المنحوتة من عبارة «باسم الله» وكلمة «البرمائي» المنحوتة من كلمتي بري ومائي، وهذا يعني: أن النحت ما هـو إلا ابتكار لألفاظ جديدة بطريقة مختصرة.
ولقد قسم أهل الاختصاص النحت إلى أربعة أنواع هـي: الفعلي، والوصفي، والاسمي، والنسبي
>[16] .
- التعريب: نقصد بالتعريب هـنا استخدام اللفظ الأعجمي عربيا، بعد تطويعه لمنهج اللغة العربية في بنيتها وأصولها، وتلوينه بلونها، سواء بزيادة أحرف لهذا اللفظ، أو بتغيير حرف أو أكثر، أو بتغيير حركة حتى تتلاءم مع العربية ويسهل على اللسان العربي استعمالها والنطق بها، وقد ذكر أبو حيان الطرق والأساليب التي استخدمها العرب لهذا الغرض، وجعلها ثلاثة طرق
>[17] يمكن الرجوع إليها في مظانها.
وغني عن البيان أن تعريب بعض الألفاظ الأعجمية وضمها إلى الألفاظ العربية فيه إثراء للغة، ورفد لها بألفاظ ودلالات لم تكن معروفة من قبل، وإذا كان العرب القدامى قد فعلوا ذلك، فإن طبيعة العربية تسمح بهذا التعريب لإدخال الأسماء والمفردات الحديثة التي أوجدتها مستجدات العصر الحديث ومخترعاته.
[ ص: 171 ] هذه هـي أبرز خصائص العربية، يضاف إليها خصائص وسمات أخرى كالتوليد والتحديث، وغلبة الجملة الفعلية على الجملة الاسمية، وتأخير الفاعل، وعدم الابتداء بساكن، وغير ذلك.
ومما يمكن قوله أخيرا: إن العربية بأصالتها ومرونتها لا تأبى الاستفادة من بعض الصيغ والأساليب الموجودة في اللغات الأجنبية إذا كانت مستساغة ولا تتعارض مع القواعد العامة اللغوية أو الثقافية، وكذلك قبولها التبسيط والتجديد بما يتلاءم مع العصـر ومتغيراتـه، وليسـت لغـة الصحافة العربية
>[18] ذات الأسلوب السلس والمركز إلا أنموذجا حيا يجمع بين الاقتباس المقبول والتبسيط.
إن إطلاع الأستاذ الجامعي على هـذه الخصائص وتكوينه فكرة دقيقة واضحة عن اللغة العربية، بأصولها وقواعدها وأساليبها وإمكانياتها، وما هـو متاح في سياقها من مرونة وتطور وإبداع، مع مقارنتها باللغات الأخرى، لهو من الضرورات لتكوين الثقافة اللغـوية وتنمية القدرة على ممارسة التعريب المطلوب.
[ ص: 172 ] ثالثا: دراسة علم المصطلح:
في إطار التثقيف التعريبي، لا بد من إلقاء بعض المحاضرات، واقتراح بعض الدراسات المتعلقة بعلم المصطلح، وفي هـذا الخصوص يمكن تقديم الوحدات الدراسية الآتية:
- تحديد معنى المصطلح.
- دراسة العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي.
- الأهمية الفكرية والدلالية للمصطلحات في الحقل الآيديولوجي والسياسي والإعلامي والبيئي والاجتماعي.
- المصطلح العلمي وتصنيفه من حيث الشكل والمعنى.
- دراسة المصطلح العلمي في العصر الحديث من حيث إنواعه ومواصفاته، بما يوفر التعمق والتوسع في هـذا الخصوص.
- معرفة الأصول والمعايير السليمة لترجمة المصطلحات ووضعها، ثمة مبادئ وأصول عامة لترجمة المصطلحات لا بد من مراعاتها، مع الحفاظ في الوقت نفسه على أصالة الفكر وسلامة التفكير.
وقد اقترح د. جميل الملائكة
>[19] عددا من تلك المبادئ والأصول يمكن تقديمها في إطار البرنامج التدريبي، وهي:
[ ص: 173 ] - إخضاع وضع المصطلح لأدنى متطلبات وحدة الفكر.
- توحيد المصطلح قيد الاستعمال.
- ينظر إلى المدلول الاصطلاحي للمصطلح الأجنبي قبل معناه اللغوي.
- تصبح الترجمة الحرفية للمصطلح إذا طابق معناه اللغوي مدلوله الاصطلاحي.
- يلزم لواضـعي المصطلحـات إتقان لغتين، فضلا عن التخصص العلمي.
- دراسـة المدلولات المتقـاربة علميا، ووضـع مصطلحاتـها في آن واحد.
- إدخال المصطلح المعجم المختص قبل ظهوره في المعجم العام.
- ضرورة تعريب المصطلح أو الإشارة إلى مظان تعريبه.
- تجنب استعمال اللفظ الواحد لأكثر من مدلول قدر الاستطاعة.
- الإفادة من الخزين الكبير من الألفاظ القديمة «المناسبة».
- يوضع المصطلح لأدنى علاقة بين معناه اللغوي والاصطلاحي.
- اللفظ المهجور قد يضفي على المصطـلح خصوصية لا يوفرها الشائع المتداول.
- الإفادة من المرادفات في مصطلحات المدلولات العلمية المتقاربة.
- يتخذ مصطلح واحد للمدلول العلمي والحضاري.
[ ص: 174 ] - لا يقتصر في وضع المصطلح على لغة أجنبية واحدة.
- الإفادة من قابلية العربية للنمو بالاشتقاق.
- الالتزام بشروط استخدام الألفاظ الأجنبية في اللغة العربية.
وكانت ندوة توحيد منهجيات وضع المصطلحات العلمية الجديدة، التي سبق أن عقدت بمدينة الرياض في العام 1980م، بإشراف مكتب تنسيق التعريب في الوطن العربي قد اقترحت المبادئ الآتية
>[20] :
- ضرورة وجود مناسبة أو مشاركة أو مشابهة بين مدلول المصطلح اللغوي ومدلوله الاصطلاحي، ولا يشترط في المصطلح أن يستوعب كل معناه العلمي.
- وضع مصطلح واحد للمفهوم العلمي الواحد.
- تجنب تعدد الدلالات للمصطلح الواحد في الحقل الواحد، وتفضيل اللفظ المختص على اللفظ المشترك.
- استقراء التراث العربي وإحياؤه بخاصة ما استعمل أو استقر منه من مصطلحات علمية عربية صـالحة للاستـعمال الحـديث، وما ورد فيه من ألفاظ معربة.
- الاستفادة من المنهج الدولي في اختيار وتنظيم المصطلحات العلمية، كالتصنيف والترتيب بحسب الحقول والفروع وتقسيمات المفاهيم.
[ ص: 175 ] - استخدام الوسائل اللغوية في توليد المصطلحات العلمية الجديدة؛ والأفضلية طبقا للترتيب التالي: التراث، فالتوليد، بما فيه من مجاز واشتقاق وتعريب ونحت.
- تفضيل الكلمات العربية الفصيحة المتواترة على الكلمات المعربة.
- تجنب الكلمات العامية إلا عند الاقتضاء، وبشرط أن تكون مشتركة في لهجات عربية عدة، وأن يشار إلى عاميتها بأن توضع بين قوسين.
- تفضيل الصيغة الجزلة الواضحة، وتجنب النافر والمهجور من الألفاظ
>[21] .
- تفضيل الكلمة الدقيقة على الغامضة أو المبهمة، ومراعاة اتفاق المصطلح العربي مع المدلول العلمي للمصطلح الأجنبي دون التقيد بالدلالة اللفظية للمصطلح الأجنبي.
- في حالة المترادفات أو القريبة من الترادف، تفضل اللفظة التي يوحي جذرها بالمفهوم الأصلي بصفة أوضح.
- تفضيل الكلمة الشائعة على الكلمة النادرة أو الغريبة، إلا إذا التبس معنى المصطلح العلمي بالمعنى الشائع المتداول لتلك الكلمة.
- عند عدم وجود ألفاظ مترادفة أو متقاربة في مدلولها ينبغي تحديد الدلالة العلمية الدقيقة لكل واحد منها، وانتقاء اللفظ العلمي الذي يقابلها.
[ ص: 176 ] - مراعاة ما اتفق المختصون على استعماله من مصطلحات ودلالات علمية خاصة بهم، معربة كانت أو مترجمة.
- إجراء التعريب عند الحاجة، وبخاصة مع المصطلحات ذات الصيغة العالمية والتي تعبر عن معنى أو حقيقة عامة أو مطلقة، أو مع الألفاظ ذات الأصل اليوناني أو اللاتيني، أو أسماء العلماء المستعملة كمصطلحات، أو مع العناصر أو المركبات الكيمياوية أو نحو ذلك.. وعند تعريب الألفاظ الأجنبية يراعى ما يأتي:
أ- ترجيح ما سهل نطقه من رسم الألفاظ المعربة عند اختلاف نطقها في اللغات الأجنبية.
ب- التغيير في شكل الألفاظ حتى تصبح موافقة للصيغة العربية ومستساغة في إطارها.
ج- اعتبار المصطلح المعرب عربيا، ويخضع لقواعد اللغة، ويجوز فيه الاشتقاق والنحت، وأن تستخدم فيه أدوات البدء والإلحاق، مع موافقته للصيغة العربية.
د- تصويب الكلمات العربية التي حرفتها اللغات الأجنبية، واستعمالها باعتماد أصلها الفصيح.
ه- ضبط المصطلحات بعامة والمعرب منها بخاصة بالشكل؛ حرصا على صحة نطقه ودقة أدائه.
[ ص: 177 ] رابعا: استخدام منتج التعريب من مصطلحات ومؤلفات، وإعادة إنتاجه وإشاعة استعماله في مجالات البحث والتدريس والحوار:
إن من الأنشطة التي ينبغي حث أعضاء الهيئات التدريسية على ممارستها والتعود عليها:
- كتابة المحاضرات وإلقاؤها بالعربية، ذلك أن تعريب المحاضرات وغيرها من الأفضل أن يكون سابقا على التعريب المكتوب؛ لأن الحاجة إلى الممارسة التعليمية هـي التي تهدينا إلى الأخذ بالملائم من الصيغ والألفاظ، فالألفاظ اللغـوية لا تفرض فرضا، ولكن استعمالها هـو الذي يرسخها ويحكم دلالتها
>[22] .
- كما إنه من الضروري أن يهتم عضو الهيئة التدريسية بتوحيد المصطلحات، والارتكان في ذلك إلى ما اتفقت عليه المجامع اللغوية والجامعات والمراكز المتخصصة وغيرها من الجهات المعنية دون الالتفاف إلى الترجمات أو التعريبات الشاذة أو المنفرة التي تفتـقر إلى الإجماع أو الدقة، أو التي لا تشكل اتجاها عاما.
- استخدام المنتج التعريبي وإشاعته وتوسيع مساحة استخدامه، كتابة وقراءة وحـديثا، سواء على نطـاق التدريس أو البحـث أو المحاضرات،
[ ص: 178 ] أو النشر كتبا أو في الدوريات، ذلك أنه من الضروري أن يتعود الأستاذ على استعمال المصطلحات المعربة في كتاباته ومحاضراته، فالاستعمال هـو الذي يرشح المصطلح المناسب، ويبرز المقبول منه، ومن ثم يسهم في توحيد المصطلحات في مجال تداولها العربي الواسع.
- إن الأستاذ معني بمتابعة جهود المجامع اللغوية ومراكز التعريب وأعمال الجامعـات والمؤسسـات الأخرى المختصة، ومن المفيد أن يتابع ما تنشره في هـذا المجال المجلات والدوريات المتخصصة، والاستفادة من إنتاج هـذه الروافد وإنجازاتها، سواء في مجال التأليف أو صك المصطلحات أو ترجمة الكتب أو وضع المعاجم أو الدراسات، والتعاون مع كل تلك الجهات، والاشتراك في أعمالها أو أنشطتها المختلفة.
خامسا: التدريب على اللغة العلمية العربية:
ثمة معايير وسمـات موضوعية عالمية للغة العلمية مثل: التحديد، والدقة، والموضوعية، والبعد عن ألفـاظ الظن والتخمين، والوضوح والبساطة في التركيب، والسهولة في اللغة، والابتعاد عن الصور البلاغية والتكرار والترادف - إلا للضرورة - ونحو ذلك من مواصفات.. ومن شـروط المعرب والمعرب أن يـكون ملما بهذه اللغة وشروطها، ومستوعبا لمعاييرها وسماتها، ومتدربا على ممارستها في كتاباته وأنشطته التعريبية المختلفة.
[ ص: 179 ] وهذا يعني بالضرورة: التدرب على تطويع اللغة لهذه المعايير والمواصفات الفنية والعـلمية، والعربية بطبيعتها مطواعة لذلك في السابق وفي العصر الحديث.
وفي هـذا الإطار يمكن حث الأساتذة على مطالعة كتب التراث العلمي العربي ذات العلاقة بالتخصص، ويمكن لأساتذة الدورة اقتراح بعض المؤلفات العربية في مجالات العلوم المختلفة التي من شأنها أن تضع أعضاء الهيئات التدريسية في مناخ اللغة والمفردات والمصطلحات والتعابير العـلمية المتصلة بمجال تخصصهم، الأمر الذي قد يساعدهم على اختيار بعض المصطلحات والصيغ العربية المناسبة، التي يمكن إحياؤها وإعادة إنتاجها في مجال التداول والتعريب الحديث.
إضـافة إلى ضرورة أن يطالعوا الكتب الحديثة، التي تتناول شروط اللغة العلمية في إطار اللغة العربية
>[23] .
سادسا: تبادل الزيارات بين أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات العربية المختلفة لون آخر من ألوان التدريب على التعريب:
من متطلبات التدريب التعريبي الاهتمام بالزيارات المتبادلة بين أساتذة المادة العلمية الواحدة في الجامعات العربية، كي يتبين لحـديثي العهد منهم
[ ص: 180 ] أو المهتمين بالتعريب بشكل عام مشاهدة تدريس تلك المادة في الجامعات التي تمرست على تدريسها باللغة العربية.
فاختلاط الزملاء في نطاق المحاضرات واللقاءات، وتوفير فرص التشاور والتواصل بينهم بالشكل المباشر، من شأنه أن يشجع غير المتجهين للتعريب نحو الاتجاه إليه، ويزيل الحواجز النفسية التي تحول دون ارتياد مجاله، كما أنه ينمي ثقافة المتجهين إليه، ويوسع مدركات الذين يشرعون في الخوض فيه ويطور خبراتهم ومكتسباتهم اللغوية والفنية.
لقد أثبتت بعض الزيارات المتبادلة التي حدثت بين أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات العربية المعربة من جهة، والتي تعيش هـاجس التعريب من جهة أخرى، جدوى هـذا الأسلوب وفائدته الملموسة.
[ ص: 181 ] وخلاصة القول :
إنه لا بد من التأكيد أن الأهمية المركزية لعضو الهيئة التدريسية في المشروع التعريبي تستدعي ضرورة الاهتمام بتدريبه وتوفير فرص اكتسابه لمختلف المعارف التعريبية.
كما لا بد من تأكيد أن الاهتمام بالتدريب على هـذا الصعيد يظل محكوما بمدى إيمان عضو الهيئة التدريسية بأهمية التعريب، وتوفر الدوافع الذاتية للانخراط في برامجه التي تحتاج ولا شك إلى بذل الوقت وتوطين النفس على التعلم والاستزادة من المعرفة والمهارات، خاصة وأن التدريب على التعريب والانخراط في دوراته يتوقف على مدى توفر الخلفية العلمية والمهارية السابقة الخاصة بأساسيات النحو والصرف وفن الترجمة وعلم اللغة المقارن.
ثم إنه لا بد أن نؤكد أولا وأخيرا أن التعريب مع التزامه بالشروط اللغوية والفنية التي تعرضنا لها، لا بد أن يجري في إطار حاضنة التوطـين التي تعـني: أن لا يتم التعامل مع العلوم المنقولة أو المترجمة ومفاهيمها ومصطلحاتها ومدركاتها إلا وفقا لشرط التأصيل والبناء العلمي المنخرط ضمن السياقات المعرفية والاجتماعية والبيئية الخاصة، وهذا يعني: ألا تكون الترجمة حرفية بالضرورة، بل لا بد أن تخضع لخصوصيات البيئة الاجتماعية والطبيعية، وشروط الاستنبات، ومقتضيات التطور المجتمعي الخاص، بما يساعد على التأسيس لنظام معرفي من شأنه أن يكون حاضنة لتطوير وإبداع علوم نابعة، ليس على مستوى الإنسانيات، بل على مستوى حقول الطبيعة والرياضيات والتكنولوجيا وغيرها؛ لتصبح الترجمة بهذا من عوامل توطين المعرفة والعلوم في المجال العربي والإسلامي.
[ ص: 182 ]