- من تجزئة المعرفة إلى تكاملها:
قبل أن تتطور معارف الإنسان في إطار ما نسميه بالعلوم الحديثة، كانت المعرفة واحدة, وكان البحث والتأليف ينـزع إلى الشمول، حتى بات بوسع أي مؤرخ أن يجد مكانا لكثير من الأسماء الثقافية الكبرى في العديد من فروع المعرفة الحالية.
غير أن ذلك لا يعني بالضرورة: أن الفكر الإنساني كان بموسوعيته مستبطنا وحدة المعرفة، فما شهدته اليونان والرومان من توزيع طبقي لها، وما انطوت عليه التيارات الفلسفية القديمة والحديثة من تجزيئية
>[1] عكستها: المثالية بعقلانيتها ونظرتها النخبوية، والواقعية بماديتها وأحاديتها المصدرية،
[ ص: 184 ] و « البرجماتية » باتجاهاتها الحسية والنفعيـة، ليشيـر إلى غيـاب المنظور التكاملي، حتى شهد العصر الحديث روحا «وضعية»
>[2] حصرت فكرة الوجود بالإنسان والطبيعة، وجعلت من العقل والواقع والتجربة مصادر وحيدة لتحديد المعرفة وبيان قيمتها، واستبعدت بذلك الميتافيزيقيا والكثير من حقائق الإنسان الروحية، وظل يسود ساحة التفكير التفسير الميكانيكي لحركة الكون، الأمر الذي شكل الأرضية الملائمة لتصاعد النـزعة التجزيئية التي ستحتضنها – فيما بعد – ظاهرة « التخصص» في ميدان العلوم.
وإذا كان لا بد من الإقرار بأن مقتضيات التعمق والتوسع في فروع المعرفة، قد فرضت واقع التخصص شرطا لتحقيق الدقة العلمية واستيفاء المهارة العلمية، فذلك لا يلغي حقيقة: أن تطور تنظيم العلوم قد أوجد مناخا
[ ص: 185 ] ذهنيا زاد من إنعاش الـنـزوع التجزيئي الذي لم يكن - كما سنرى – في صالح العلم بوصفه أداة للتقدم بمعناه التكاملي، ولا لصالح العلماء بصفتهم عناصر قيادية في هـذا التقدم، فالتخصص الشديد المنعزل يخلق صعـوبات، وهو – كما يصفه «
شرودنغر Schrodinger»: «ليس فضيلة، ولكنه شر لا بد منه» غير أن ثمن هـذا الشر هـو العقم – كما يقول عالم الرياضيات «
موريس كلارين »؛ الذي يضيف: «ربما تطلب التخصص مهارة فائقة، ولكن قلما يكون ذا معنى» ؛ لأن المعرفة المعزولة التي تحصـلها طائفة من المتخصصـين في حقل ضيق لا قيمة لها البتة، إلا إذا أدمجت في سائر حقول المعرفة
>[3] .
لهذا إذا كان لا يحسن بالعلماء أن يقبعوا في مختبراتهم، ويحبسوا عقولهم في الموضوع الذي أن قطعوا له إيثارا لما أدى إليه التحليل من تعمق في معرفة الأجزاء، فإنه ينبغي عليهم – كما يقول د. جميل صليبا
>[4] - أن يسعوا إلى إدراك علاقات الأجزاء، ثم جمعها في نظريات كبرى تصور حقيقة الكون أكمل تصوير، فإن قيل: إن «التخصص العلمي» الدقيق أولى بالتقديم، وإن تقدم العلم رهن بتقسيم العمل بين العلماء، فذلك لا يتعارض مع مقولة: إن
[ ص: 186 ] الحقائق العلمية متصلة ببعضها، وإن العالم إذا كان بهذا الاتصال أعرف، كان إلى إدراك حقيقة علمه أقرب
>[5] ، وإذا كان بالإمكان تصور المعارف كطبقات تقوم كل طبقة على مادونها، وتفضي إلى ما فوقها، وتصل بين الصرحين معابر فكرية تجري فيها تيارات يتبادل فيها التجريد والتجريب، أخذا وعطاء، فغني عن البيان أن هـذا الترتيب لم يعد ذا أهمية، إلا من حيث تأكيد أن حقـول المعرفة لا يمـكن أن يتقدم أي منها بمعـزل عن الآخر، إذا ما أريد لها أن تبقى معرفة متطورة وبناءة
>[6] .
إن التقدم العلمي أخذ يكشف مؤكدا يوما بعد يوم حقيقة التكامل عبر ما يلاحظ من اتصال وتداخل بين العلوم المختلفة، فالفيزيائي مثلا إذا كان يحتاج إلى الرياضيات باعتبار أن الفيزياء في بعدها التجريبي رياضيات من حيث تقنيتها، فإن الرياضي لا يسعه غير الاهتمام بـ «الفيزياء الرياضية» التي تحل بطريقة استنتاجية بعض المشكلات المطروحة في حقل الفيزياء، ومثله الكيميائي الذي ليس بمقدوره التقدم دون رفد الفيزياء في حقل اختصـاصه، أما عالم الحياة، فيحتاج بالضرورة إلى الكيمياء والفيزياء والرياضيات
>[7] .
[ ص: 187 ] وفي تاريخ العلم نقرأ أن بعض الموضوعات التي كان يعتد بها بصفتها إشكاليات فلسفية، أضحت في عصور لاحقة إشكاليات علمية خالصة، الأمر الذي فرض على ممارس النشاط العلمي المعرفة بطبيعة الإشكاليات الجوهرية الفلسفية التي يستبطنها نشاطه، بل إن عملية جمع المعطيات « الإمبيريقية » تعد – في غياب التصورات المبدئية والفروض العامة – عملية لا طائل ورائها
>[8] .
لقد عرفنا أن نظرية «الحد الأدنى للحد الأقصى» التي جاء بها الرياضي «
ف. نومان » كانت من نتائج تعاونه مع عالم الاقتصاد «
مورجنشنزن »، كما لمسنا ما أوجدته دراسة السلوك الاقتصادي من صلات نافعة بين الاقتصاد وعلم النفس
>[9] ، ونعود اليوم لنرى النظرية العلمية التقليدية التي فصلت بين الجمال والحقيقة، والتي عرفت منذ عصر النهضة الأوربي، تتوارى خلف الاتجـاه العلمي الجـديد الذي أضحـى لا يرى في الجمال إلا وسيلة من وسائل اكتشاف التركيب الجزيئي لحامض ال DNA الذي يقوم بدور مهم في نقل الصفات الوراثية، بل إن أبرز علماء الفيزياء في هـذا القرن يجمعون على أن الجمال هـو المقياس الأساسي للحقيقة العلمية، لدرجة أنه قدم على التجربة
>[10] ، فالعلماء شأنهم شأن الفنانين يعتمدون اعتمادا
[ ص: 188 ] شديدا على الحدس
>[11] ، ولعل من الصواب – كما يقول الفيزيائي «
ستيفن فاينبيرغ Weinberg» – القول: إن عالم الشعر كان مألوفا لدى جميع العلماء الكبار حقا
>[12] حتى قيل: إن العالم الذي يعمى عن رؤية الجمال هـو عالم ضئيل الحظ من العلم.
فهل بعد هـذا يحق لنا الاستغراب إذا ما سمعنا عالما حائزا على جائزة نوبل في العلوم،
كالدكتور محمد عبد السلام يصرح بأن معرفته الدينية كانت أحد روافد الإلهام الذي كشف له عن وحدة القوتين « الكهروطيسية » و « النووية الضعيفة »؟
إن الترابط والتكامل بين العلوم الطبيعية والرياضية والحيوية بات حقيقة واضحة، كما أن الترابط والتكامل بينها وبين العلوم الإنسانية أصبح يقر به الكثيرون، أما فيما بين فروع العلوم الإنسانية نفسها، فلا أظنه يحتاج إلى مزيد من التأكيد، بل إن الترابط والتكامل بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والحيوية أخذت تجليه الكثير من الدراسات، فبات من المعروف -منذ وقت مبكر- ضرورة أن يكون عالم النفس على دراية بالفسيولوجيا والبيولوجيا والوراثة والإحصاء، فضلا عن الفلسفة والاجتماع واللغة، كما أن عالم اللغة أضحى معنيا بالمشكلات التي تتصل بحقل اختصاصه، كالتي تثيرها البيولوجيا
[ ص: 189 ] والفسيولوجيا ، ناهيك عن تلك التي تثيرها علوم النفس والاجتماع والإنثروبولوجيا ، وقد صرنا نرى قنوات اتصال بين « الإبيستمولوجيا التكوينية » (تشكل المعارف ونموها) و «علم النفس التكويني»، كما غدت دراسة الإبيستمولوجيا المذكورة ضرورية لمعرفة البنيات المنطقية والرياضية والحركية، حتى إن أحد المراكز العلمية في
جنيف لم يتردد في إقامة تعاون بين علماء النفس والمنطق والرياضيات والفيزياء والسبرنتيك
>[13] .
فإن عطفنا على المتخصص في الفلسفة، الذي تشغله قضايا لها مكانها في علوم الفيزياء والبيولوجيا والنفس والأخلاق الطبي، فإنه لم يعد بإمكانه التعامل مع تلكم القضايا بشكل متطور دون الإطلاع على أحدث النظريات التي تطرحها العلوم المذكورة
>[14] ، كما أن دراسة التاريخ يمكن أن تستفيد من الجيولوجيا والأحياء، فضلا عن العلوم الأخرى كالاجتماع والإنثربولوجيا والنفس والاقتصاد، فتكامل المعرفة ضمن هـذه العلوم يتيح للمؤرخ توضيح المتغيرات التي حدثت في الماضي
>[15] ، بل يمكننا القول: إن المختص في العلوم الإسلامية، كالفقية مثلا، حري به -إذا كان حريصا على تحري الصواب في استنباطاته الشرعية- أن يقف على أرض صلبة من المعرفة الإنسانية والطبيعية
[ ص: 190 ] والطبية، ولو بالقدر الذي يتعلق بالحالات أو الوقائع التي يتصدى لها، لتلاقي بذلك «الحقيقة الشرعية» «الحقائق الإنسـانية» و «الطبيعية» و «الطبية» دونما تصادم؛ حتى الأديب، لا يمكنه الانعزال عن حقول العلم الأخرى، إنسانية كانت أو طبيعية، إذا ما أراد أن يصف المشاعر الإنسانية بدقة، ويصور دراما الحياة بشكل فذ.
إن ظهور ما يسمى بـ «العلوم البينية Interdsciplinary» التي تعبر عن ارتباط مجال عـلمي «أعـلى» أكثر تعقـدا بمجال علمي «أدنى»، إنما يعكس حالة متقدمة من التمثيل المتبادل والصلة المرموقة بين أفرع العلوم
>[16] وتأكيد تكاملها.
بل ظهر ما يسمى بـ «العلوم الميتامعرفية»، وهي العلوم التي تطفو فوق أجناس المعرفة وفروعها المتخصصة، ومثالها «علم الانبثاق أو الطفور Emergence» الذي يخترق حواجز التخصص ويتناول نطاقا هـائلا من المجالات المعرفية، فمن ممالك النمل ولغته إلى بنية المخ وكيفية عمله، ومن تخطيط المدن ونمط تطورها، إلى تصميم ألعاب الفيديو وزيادة تفاعلها، ومن سلوك الحيوانات إلى تطور البرمجيات ، ومن الإعلام إلى الإعلان
>[17] ، وهكذا.
ترى إلى أي حد تمثلت فكرة التكامل في ذهنية العلماء المتخصصين وممارساتهم؟
[ ص: 191 ]