المنظور التكاملي للعلوم
وإعادة بناء المناهج التعليمية
التكامل المعرفي: الفكرة والمقومات
إذا سلمنا بفكرة أن المعارف والعلوم ترتبط ببعضها وتتكامل في عمليات كشف الحقائق وإصدار الأحكام، فإن من المفيد أن نشير إلى أن المعرفة تستند -بصفتها التكاملية- إلى المقومات الآتية
1- تكامل المعرفة في ضوء شمولية مصادرها:
إذا كان «العقـل» و «الحـس» و «التجربة» هـي المصادر المعتمـدة للمعرفة في إطار منظـورها الغربي، فـإن «الوحـي» يمثل مصدرا أساسا في المنظور المعرفي الإسـلامي، بل يتقدم – عنـد قطعية وروده ودلالته- على تلكم المصـادر؛ باعتبـاره مكملا أو موضحا أو مرشدا لها، كما إنه يمثل قاعدة الوصل بين الإدراك الجزئي والمـدارك الكلية التي توفرها النصـوص، التي تعـكس نظرة الدين نحو الكون والإنسان وغايات الوجـود، يضـاف إلى ذلك أن نظرية المعرفة الإسلامية لا تستبعد
[ ص: 199 ] «الحدس» و «التذوق الروحي» كمصادر للكشف
>[1] ، ولو على صعيد الأفراد في أقل تقدير.
وبهذه التعددية والشمولية في المصادر تتوضح أمامنا صورة التكامل في تكوين المعرفة.
2- تكامل المعرفة في ضوء وحدة الحقيقة الناتجة عن واحدية الصانع
إن طابع الحقيقة موحد في كل المجالات الإنسانية والطبيعية والدينية، وعلى تنوع المظاهر والأشكال، وهذه ظاهرة مردها إلى أن جميع سنن الوجود الطبيعية والإنسانية مصدرها الله الواحد، الذي
( له مقاليد السماوات ) (الزمر:63) ،
والحق: أنه لو كان لهذا الكون أكثر من خالق، لتصادمت السنن وفسدت قوانين الوجود، ثم إن المعرفة الدينية الصحيحة لا يمكن أن تتعارض مع القوانين والسنن التي تحكم الطبيعة والوجود، لهذا تميزت نظرة الإسلام نحو العلوم بالكلية، فالآداب والفلسفة والدين والطبيعة كلها حقول تنتمي إلى وحدة معرفية متداخلة ومتكاملة،
[ ص: 200 ] وهذا ما كان يدركه العديد من علماء المسلمين، الذين اتسمت جهودهم بالموسوعية، وعدم الاقتصار على التخصص.
3- تكامل المعرفة في ضوء وحدة التكوين الإنساني والوجودي
الإنسان «جسم» و «عقل» و «روح» و «وجدان»، ولا يصح النظر إلى عناصره بشكل مجزأ، ومن ثم فالتعرف على الحقيقة الإنسانية لا يمكن أن يتم دون استحضار تلك المكونات جميعا، كما أن النمو الإنساني لا يتم إلا من خلال نمو تلك العناصر بشكل متكامل، وهذا مطلب يقود تربويا إلى ضرورة التعامـل مع المعرفة عـلى نحو متكامل، لذلك لا بد من هـذا المعتـقد عند مقاربة مختلف الظواهر الإنسانية والكونية للوصول إلى فهم أكثر شمولية ودقة.
من هـنا علينا القول: إن مبدأ وحدة المعرفة هـو مبدأ إسلامي بامتياز، وإنه يتعين انطلاقا من هـذا المبدأ أن نتعامل مع العلوم المختلفة بصفتها نظاما كليا حتى في حالة التعاطي مع تخصص محدد، ففي دراستنا للشخصية العربية مثلا، لا بد من استحضار الجوانب التاريخية والاجتماعية والدينية والأدبية؛ لأنه لا يمكن فهم هـذه الشخصية وتغيراتها إلا في إطار التعرض لكل تلك الجوانب التي تعالجها علوم التاريخ والاجتماع والدين والأدب وغـيرها، كما أن دراسة ظاهرة أنثروبولوجية ما، يقتضي الإلمام بمداخل من علوم التاريخ والاجتماع واللغة والآثار والاجتماع والفلكلور والفيزيولوجيا للوقوف على طبيعة تلك الظاهرة وكشف حقيقتها.
[ ص: 201 ] وبناء على ذلك، لا بد من القـول: إن أي علم من العلوم الإنسانية، وهو يعالج ظاهرة نوعية، لا يسعـه إلا إبقاء النظر مفتوحا على سائر الظواهر الأخرى.
والأمر كذلك في المجال الطبيعي، حيث تتشابك الظواهر الفيزيائية بالكيميائية والحيوية، ولا يمكن دراسة ظاهرة طبيعية بشكل دقيق دون الأخذ بنظر الاعتبار بقية الظواهر، حتى الظواهر الإنسانية لها مستوى من الارتباط بالظواهر الطبيعية، فكمية الدم ونسبة الأوكسجين والكربون والمواد الغذائية والميكروبات تؤثر في المشاعر والسلوكيات على نحو أو آخر، كما تؤثر المسكرات والمخدرات في تلك المشاعر والسلوكيات
>[2] .
أما ما يتعلق بالطب البشري فليس بمقدورنا استبعاد المؤثرات النفسية، ذلك أن كثيرا من الأمراض الجسدية كالقرحة وضغط الدم واضطرابات التنفس ذات منشأ نفسي، ولمواجهة أمراض كهذه لا بد من المدخلين العضوي والنفسي معا، وفي الحقيقة: إن العوامل الاجتماعية والحضارية والمادية تسهم مجتمعة في بلورة الحالة الصحية للإنسان، ولا يمكن تبين الصحة وتشخيص المرض بمعزل عن أي من تلك العوامل.
لذلك نقول: إن اتصال فرع علمي بالفروع العلمية الأخرى على صعيد البحث أو التحقيق هـو حاجة يفرضها العلم، ولا يمكن أن يطمسها
[ ص: 202 ] الاستـقلال النسبي لأي فرع من الفروع
>[3] ، فالظاهرة في كل حقـول المعرفة لا يمكن فهمها حق الفهم إلا من خلال الظـواهر الأخرى، من هـنا لا بد من القول: إن المنهج المنظومي «system approach» الذي ينظر من خلاله إلى مختلف الظواهر الإنسانية أو الطبيعية بوصفها وحدة واحدة، إنما يمثل المنهج العلمي الصحيح، مع إبقاء التحفظ على أن وحدة المعارف والعلوم وتكاملها تظل مقيـدة بحدود طبيعة الإنسـان وغاياته التي تأبى الخضوع المطلق لأدوات الضبط والقياس والتحكم التي تستخدم في دراسة الظواهر الطبيعية
>[4] .
تجزئة المعرفة: عوامل النشأة وإشكاليات الظاهرة:
عرف المنـزع التجزيئي في تحديد المعرفة وإنتاجها قديما وفي العصر الحديث، ولمعرفة طبيعة نشأة هـذا المنـزع، لا بد أن نشير إلى العوامل الآتية:
أ- الثنائيات الوجودية وتجزئة المعرفة: النظرة الثنائية للإنسان تمثل صـدى لثنائية الخـالق والمخلوق، والدين والدنيـا، والحقيقة: أن الإنساني لا يمكن عزله عن الطبيعي، كما أن العيني لا يمكن فصله عن الغيبي، والتأليف بين هـذه الثنائيات هـو جوهر الأطروحة الإيمانية في الإسلام
>[5] .
[ ص: 203 ] إن وحدة المعرفة التي تعتمد الترابط بين الإنسان والطبيعة والكون والخالق، تقتضي النظر إلى الظواهر بشكل متداخل، مع تغلب الظاهرة موضع الدراسة
>[6] ، لهذا فإن تزايد الجهود المنصبة على إنشاء المنظور التكاملي الذي يجمع المساهمات المعرفية للعوالم المختلفة، من شأنه أن يقلل من تحيز كل تخصص وادعاءاته المعرفة المبالغ فيها، لذا فالأخذ بالتكاملية
«Interdisciplinarrity» بدلا من الأحادية «Reductionists» يعني: تبني مبدأ تعدد المؤثرات في السلوك الإنساني
>[7] ، وانطلاقا من هـذا المنظور يمكن التحدث عن إعادة تنظيم المناهج التعليمية وتجديدها.
ب- النظرة الطبقية للاجتماع البشري وتجزئة المعرفة: منذ أيام اليونان والرومان كانت المعرفة تجزأ بناء على منظور طبقي، يتعاطى مع الأصناف المعرفية تبعا للتقسيمات الاجتماعية، فما كان يطلق عليه بـ «الفنون السبعة الحرة» يقدم لطبقة بعينها هـي الطبقة الراقية في مقابل «المهن الحرة اليدوية» التي لا تليق بطبقة الأحرار، وكانت تقدم لمن هـم أدنى، لهذا كان انتقاء المعرفة وتوزيعها يعكس توزيع القوة ومبادئ الضبط الاجتماعي على نحو تمييزي، لهذا يصح القول: إن التوزيع الاجتماعي للمعرفة كان يظهر كلما كان التصنيف الاجتماعي بارزا وقويا، فيما كانت توزع المعرفة بشكل متكامل كلما كان التصنيف الاجتماعي منخفضا.
[ ص: 204 ] والحقيقة: إن قيام الحواجز بين أنواع المعرفة تبعا للتصنيف الطبقي يعمل على تفتيت نظرة الإنسان نحو عالمه، والفلاسفة والتربويون الذين يعتمدون المناهج الدراسية على أساس المفهوم المطلق لمجموعة من أشكال المعرفة تتوافق والمجالات التقليدية للنظم المعرفية «Disiciplines» بما بينها من حواجز، يقعون في خطأ كبير، وهم لا يدركون أن نظم المعرفة إنما هـي بنى اجتماعية تاريخية، وأن الحدود بينها تعسفية ومختلفة، ولا ينبغي أن تكون لها الأولوية في المناهج الدراسية، وإنما تكون الأولوية للصلات التي يستطيع المتعلم إيجادها بالعالم الطبيعي والاجتماعي دون قوالب تجريدية
>[8] .
ج- النـزعة النفعية المباشرة وتجزئة المعارف والعلوم وتشعبها: بات من المبرر الأخذ بالتخصصات وتوظيفها للأغراض العلمية، إلا أن الاحتباس في تلك الدوائر إلى درجة الحصر المعرفي واعتماد ذلك كآيديولوجية، هـو أمر خاطئ، ولا يمكن عن طريقه الوصول إلى المعرفة الحقة، إلا أن هـيمنة النـزعة النفعية المباشرة أخذت تدفع بالبحث العلمي وبنظام إعداد المناهج التعليمية نحو الدوائر التخصصية الضيقة التي كثيرا ما تدير ظهرها لمعلومات مهمة تحتويها العلوم الأخرى.
[ ص: 205 ] لقـد سبق
لأمريكا في معرض محاولتها إصلاح التعليم أن كرست تجزئة المعرفـة عبر تأكيدها على لون معين من المعارف، وذلك كرد فعل على تفوق
الاتحاد السوفيتي في حقل الفضـاء، يوم أن تمـكن هـذا الاتحاد في العام 1957م من إطلاق أول قمر صنـاعي، وقد تجلى هـذا الموقف بعد عقد مؤتمر ضـم أبرز العلماء والباحثـين، وتمخض عنـه ظهور كتاب «برونر» المعنون «The Process Of Education» والذي نودي من خلاله باعتماد النظم المعرفية المستقلة، وبوضع الحواجز بين المواد التعليمية، لدرجة صارت معايير التفوق لا تشتق إلا من التخصص والتعمق في النقـاط المدرسـية الدقيقـة، الأمر الذي أدى إلى حصر التعليم في دوائر مغلقة, غير أنه لم يمض غير عقد من الزمان حتى انقلب «برونر» على نفسه، وصار يعيد النظر في عمليات بناء المنهج، ويقول بضرورة اتباع الطريقة التي لا بد أن يراعى فيها التوازن والدمج والتكامل بين النظم المعرفية المختلفة
>[9] .
وعلى خلفية النـزعة النفعية نرى أن الانحصار في التخصص بات يظهر في البلاد العربية والإسلامية على نحو متهافت، لدرجة أضحى الكثير لا ينظر إلى المعارف والعلوم والمهارات إلا بعين تاجر المفرق: هـذا «مربح» فهو علم، وهذا «غير مربح» فهو ليس علما، وهذا المنطق قلل من شأن قيمة
[ ص: 206 ] الآداب والفنون، وكانت النتيجة أن ظهر متعلمون متخصصون لكنهم أميون في المجالات الإنسانية الحية
>[10] .
حتى في الحالات التي حشرت خلالها بعض المواد الإنسانية كالدين والتربية الفنية ضمن المناهج، كان يترسب في الذهن عند الكثير من الأساتذة والتلاميذ أن هـذه المواد مواد هـامشية ولا قيمة لها، لا سيما في ظل النظم التي تعفي هـذه المواد من معايير النجاح والرسوب.
وبالمنطق التجاري المشار إليه أخذت القيمة النسبية للعلوم والمهارات تتباين من مجتمع إلى آخر، ومن حقبة إلى أخرى، وذلك بحسب معايير التوظيف ومقتضيات سوق العمل والمردود النفعي، وما يسود الواقع من أنماط اقتصادية وتجارية.
والحقيقة: أن القيمة النفعية للتخصصات ليست أمرا غير مرغوب فيه، إلا أن القيمة الحقيقية لذلك لا تتحقق إلا بمقدار ما يلبي التخصص الدقيق احتياجات التخطيط ومشروع التنمية، فضلا عن إشباع الحاجات الحالية والمستقبلية للمجتمع، وهذا لا يتحقق من غير أن تربط التخصصـات المختلفة بعضها ببعض، وتتعاون بعيدا عن الفصل المتعسف
>[11] .
[ ص: 207 ] إشكاليات التجزئة ونتائجها
إن تفجر المعرفة وتزايد الفروع العلمية، والإيغال في التخصص والتشعيب، وشيوع المضمون الطبقي لأصناف المعارف، وضغوط العولمة وأسواق العمل، فضلا عن تصاعد النـزعة النفعية، قد عمق ظاهرة التجزئة المعرفية، التي انعكست في المناهج التعليمية وفي طرق تدريسها، وكان لذلك نتائج سلبية منها:
أ- الانفصام المعرفي والجهل بحقيقة التكامل بين العلوم
إن الطالب والمتخصص في العلوم الطبيعية كثيرا ما يجهل في العلوم الإنسانية، وكلاهما قليل الإدراك لحقيقة الاتصال المنطقي بين الحقلين المذكورين، بل أن التجزئة المعرفية قد أدت بالتخصصات الدقيقة إلى أن تنعزل عن المعارف والتخصصات، التي تقع في دائرة الحقل الذي تنتمي إليه، مما نجم عنه عدم وعي المتعلم بالبنى الكلية للعلم الذي يتخصص فيه، فضلا عن جهله بعلاقة قوانين تخصصه بقوانين العلوم الأخرى.
ب- الجهل بالأسس الفلسفية للعلوم
إن ثمة فروضا ومسلمات، إن لم نقل رؤى آيديولوجية، تنطلق منها العلوم الإنسانية والطبيعية تسبق العلم وقد ترافقه، كثيرا ما تقدم تلك العلوم مدرسيا بمعزل عن الوعـي بالأسس أو المنطلقات الفلسفية والعقائدية التي تستبطنها، ولنا من علم التحريك الحراري، ومن نظرية الكم، ومن علم الكون أمثلة لذلك.
[ ص: 208 ] والحقيقة: أن أهمية التوعية بالأسس الفلسفية للعلوم ضرورية في المدارس العربية والإسلامية التي تتعاطى علوم الغرب، حيث تبدو الحاجة إلى التفكيك هـنا قوية، وذلك للتمييز بين ما هـو أيديولوجي وما هـو علمي، وبين ما هـو علمي نسبي وما هـو علمي مطلق.
ج- إغفال السياقات الاجتماعية لانبثاق المعرفة وتأسيس العلوم
من السلبيات الأخرى للمنظور التجزيئي: أن يتم تلقي العلوم وفهمها بمعزل عن إدراك سياقاتها الاجتماعية والزمنية والجغرافية، الأمر الذي يجعلها منفصلة عن أطر النشأة وسياقات التطور، ومن ثم الحيلولة دون إدراك عناصرها ومتغيراتها الآيديولوجية وقوانينها النسبية التي تحكم المساحات الكبرى من موضوعاتها.
د- الانشطار الثقافي في المجتمع
كان من أبرز الانعكاسات الاجتماعية السلبية لتجزئة المعرفة: إنتاج متعلمين ينفصل بعضهم عن بعض تحت عنوانين هـما: الثقافة الأدبية والثقافة العلمية، وبما يشبه الجزر المعرفية، ولعل تعبير «الثقافتين» الذي طرحه الكاتب البريطاني «سنو» للتعبير عن حالة الانفصام المعرفي في المجتمع الإنجليزي ما زال صالحا –كما يقول
د. عبد السميع سيد أحمد – لوصف العالم الفكري المعاصر، ولوصف عالمنا الثقافي، سواء على مستوى الثقافة العلمية الجامعية أو على مستوى الثقافة العامة
>[12] .
[ ص: 209 ] هـ- وإجمالا نقول
إن تجزئة المعرفة والانحصار في تخصص معين من شأنه أن يؤدي إلى حال من الفراغ الفكري كثيرا ما يدفع بالمتخصص إلى مط نطاق تخصصه وتحويله إلى نوع من الآيديولوجيا ، التي يفسر بها العالم بعدد محدود من المقولات، وهذا في حقيقته -كما يقول
د. نبيل علي - يقود إلى الوقوع في فخ شبـه العلم «Quasi–Science»
>[13] ، وهي نتيجة لا يمكن أن تقدم لنا العلماء والمتعلمين الذين يعول عليهم في مشروع التغيير. أهمية إعادة بناء المناهج التعليمية على قاعدة تكامل المعرفة
إن النتائج السلبية لتجزئة المعرفة، التي أشرنا إليها، يمكن تجازوها عند اعتماد مبدأ التكامل في بناء المناهج الأولية والجامعية، وقد تظهر قيمة هـذا المنحى على صعيد توفير الدقة العلمية، والتقدم في البحث، فضلا عن التجويد في العملية التعليمية.
فبخصوص الناحية التعليمية ثبت أن التعليم الذي يربط المبادئ والنظريات في هـذا التخصص بالمبادئ والنظريات في ذاك التخصص هـو التعلم الأكثر فعالية وجدوى
>[14] ، كما أن الدراسة التي تلبي احتياجات التلميذ العقلية والمادية والروحية والأخلاقية والجمالية والعلمية، هـي الدراسة الكفيلة
[ ص: 210 ] بمساعـدته على تحقيق النمو المتكامل، لا سيما أن المتلقي لا يتعامل بطبيعته مع الاحتياجات إلا على نحو كلي، لهذا فتقديم المعرفة على نحو متكامل ينسجم مع طبيعة تكوين التلميذ
>[15] بل إن الربط والتكامل يساعد على الاستيعاب وإبقاء المعرفة في الذاكرة مدة أطول، على خلاف المعلومات المجزأة أو غير المترابطة
>[16] .
ومن الجدير بالذكر: أن جامعة «كيل Keele» هـي من أوائل الجامعات التي أقامت مناهجها على أساس إزالة الحواجز التقليدية بين التخصصات، حتى إنها أنهت الثنائية بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وبين التخصص والثقافة العامة
>[17] .
كما أن بعض الجامعات في الدول الصناعية حين اكتشفت قصورا لدى خريجي العلوم الهندسية والطبيعية في حقل اللغة القومية، عمدت إلى إخضاعهم إلى التدريب اللغوي، حتى إن بعضها في
بريطانيا والولايات المتحدة ما عاد يمنح شهاداته التخصصية إلا بعد اجتياز امتحان في مادة الأدب الإنجليزي.
[ ص: 211 ] الواقع أن التخصـص المغـلق، الذي يفتـقر لقنوات الاتصـال بالعلوم المجاورة أو المغذية أو المضيئة، قد يؤدي بأصحابه إلى الجهل بالكثير من أبعاد المعرفة الإنسانية المهمة، وهذا ما أخذ يشعر به الجميع، ومنهم الطلاب، ففي عام 1964م قام «P-marris» (من
إنكلترا ) بدراسة حول شكوى الطلاب بخصـوص ما يتـلقونه من معـارف، فنقل عن أحـدهم قوله: «إنه لشيء سيء حـقا أن تزداد معرفتك ضيقا يوما بعد يوم بسبب التخصص، إنني أفضل نظرة أوسع، لقد درست العلوم طيلة حياتي، ولكن معرفتي بالتاريخ وما إليه محدودة جدا..»؛ ونقل عن آخر في جامعة «ليدز» قوله: «أظن أن الدراسة يجب أن تكون أقل تخصصا، الدروس في وضعها الراهن تتعامل مع الفروع النظرية فقط من العلوم الرياضية، إنني أعتقد أنك يجب أن تضمن الدرس بعض الأفكار حول الكيفية التي يمكن بها تطبيق الرياضيات على العلوم الأخرى، وفي النهاية كيفية تطبيق الفلسفة على العلوم الاجتماعية، إنني أعتقد أن هـناك نقصا كبيرا في إظهار كيف تتـكامل الرياضيـات مع الموضوعـات الأخرى، إننا لا نستطيع أن نقيم حدودا حول الموضوعات العلمية المختلفة أو نصنفها في صناديق صغيرة»
>[18] .
[ ص: 212 ] إن بناء المناهج التعليمية على أساس التكامل بين العلوم، والربط بين العلم وما يجاوره أو يغذيه أو يوسع من آفاقه، أمر ضروري على صعيد التعمق المعرفي وحيازة الدقة العلمية، فالتكامل والتواصل ومعرفة المشترك بين الفروع والمجالات المختلفة وإدراك ما بينها من تداخل وتبادل، سيسـاعد ولا شك على التكوين العلمي الذي من شأنه أن يولد شمولا في الرؤية وسيطرة في الوقت نفسه على التخصص بشكل سليم.
لقد أدرك عدد من العلماء المسلمين هـذه الحقيقة، فذاك
أبو حامد الغزالي على الرغم من نظرته السلبية للفلسفة، ظل يؤكد ضرورة أن ينال المتعلم من كل شيء بطرف؛ إدراكا منه لأنه ما من علم إلا وله ارتباط بغيره من العلوم، وقد سبق لإخوان الصفا أن قرروا في رسائلهم ضرورة التنوع في المعرفة وعدم قصر التعليم على جانب واحد.
ويعد على الصعيد التربوي الحـديث «
جان دكرولي » من أكثر التربويين الذين لامسوا بكتاباتهم موضوع «التربية الشمولية» معتبرا أن الأطفال بطبعهم يذوبون عناصر الأشياء، وأن ردة فعلهم نحوها تتم في إطار وحدة واحدة
>[19] .
[ ص: 213 ] محاولات «علم المناهج التعليمية» بين التجزئة والتكامل
تعرض تنظيم المنهج ذو المنحى التقليدي والمسمى بـ «منهج المواد الدراسية» إلى النقد الشديد؛ نظرا لكونه يقوم على الفصل بين المواد، وقد نظر إليه على أنه يؤدي إلى تجزئة المعرفة وتفتيتها، ولا يعرض المعلومات على نحو تترابط خلاله الحقائق والمفاهيم، فضلا عن كونه يقدمها معزولة عن ميادينها التطبيقية، فيحرم بذلك المتلقي من انتقال أثر التدريب.
لهذا أجرى المتخصصون تعديلات على هـذا المنهج من خلال اقتراحات تنظيمات أخرى مثل «منهج المواد المترابطة» و «منهج المواد المندمجة» حيث لا فواصل أو حدود بين المواد، فـ «علم الحيوان» يتواصل مع «علم النبات» وكلاهما يتواصل مع « البيولوجيا »، و «علم التاريخ» يترابط مع «العلاقات الدولية»، وهكذا بالنسبة إلى بقية العلوم، حيث تتكامل المعرفة والأهداف التربوية سعيا لتحقيق النمو الشامل
>[20] .
وقد اقترح اختصاصيو المناهج التعليمية تنظيمات أخرى مثل: «منهج المجالات الواسعة» و «منهج النشاط» و «المنهج المحوري» و «منهج الوحدات الدراسية» وهي جميعا تطمح إلى إزالة الحدود بين المواد، وتعمل على تحقيق وحدة المعرفة وترابطها أفقيا، على النحـو الذي يدرك من خلاله التـلاميذ ما بين المعارف والعلوم من صلات
>[21] .
[ ص: 214 ] وعلى الرغم من كل هـذه المقترحات والبدائل، فإن طرحها لم يتم بالشكل الذي يمكن من خلاله استيعاب المضامين الفلسفية والحقائق العلمية والرؤى الاجتماعية الدقيقة لفكرة الوحدة والتكامل، كما أن أغلب المدارس والجامعات في مجالنا العربي والإسلامي ما زالت وفية -من حيث الواقع- للتنظيم التقليدي للمنهج، بدليل أن منهج المواد المنفصلة ما برح هـو السائد في عمليات تنظيم المواد وطرق تدريسها.
وحتى إذا ما ظهرت هـنا أو هـناك محاولات للإصلاح؛ انطلاقا من مبدأ وحدة المعرفة وتكاملها، إلا أن معظم التدريسيين سواء على المستوى الأساسي أو الجامعي يظلون أقرب إلى المنهج التقليدي منهم إلى المنهج التكاملي، ذلك إنهم حتى وإن حاولوا استحضار فكرة التكامل، إلا أن عدم استيعابهم لهذه الفكرة يجعلهم يطبقونها بطريقة شكلية، لا سيما إذا كانت الإدارات التعليمية العليا ليس لديها الإيمان أو الوضوح الكافي بإشكالية التجزئة والتكامل على الصعيدين المعرفي والتعليمي.
والحقيقة: أن إعداد المنهج في ضوء مبدأ التكامل المعرفي ليس مجرد عملية شكلية يضطلع بها اختصاصيون فنيون، بل هـي في الجوهر رؤية لفلسفة المعرفة، ووعي بالأبعاد الاجتماعية والمقاصد الكلية التي يحملها المبدأ المذكور، وهذا يعني: أن الإعداد على النحو المذكور ليس عملا إجرائيا يتم بإضافة مواد طبيعية أو شرعية إلى المناهج الإنسانية، أو بإضافة مواد ثقافية عامة إلى هـذا التخصص أو ذلك، كما هـو الجاري في معظم المحاولات الإصلاحية بمدارسنا اليوم.
[ ص: 215 ] إن الإدماج والتكامل حري بأن يعكس موقفا معـرفيا، ويعبر عن عقلية خاصة لها تجلياتها عبر العلوم المختـلفة، سـواء على مستوى البحث في هـذه العلوم أو على مستوى تدريسها، وبما يشكل في النهاية «نظاما معرفيا» يترجم في مدارسنا الرؤية الخاصة للإنسان المسلم إزاء الكون والإنسان والحياة.