التخطيط الأسري
تحتفظ السنة الشريفة بأمثلة كثيرة للتخطيط واعتبار المستقبل داخل الأسرة المسلمة وفي حدودها. وقد اخترت من ذلك نموذجين واضحين في تقرير مبدأ هـذا التخطيط وتطبيقه.
أولا: مثال العزل
- أحاديث العزل:
هذه واحدة من أهم الطرق القديمة في اجتناب الحمل. وقد كان العرب يعرفونها ويأخذون بها، ومنهم الصحابة رضوان الله عليهم، حتى
( قال جابر رضي الله عنه : كنا نعزل والقرآن ينـزل. ) وفي رواية:
( كنا نعزل على عهد رسول الله، فبلغه ذلك ولم ينهنا ) >[1] .
( ولما تحرج من ذلك بعض الصحابة وخافوا ألا يجوز سـألوا الرسـول صلى الله عليه وسلم فأجابهم: «لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هـي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون ) >[2] .
وأحاديث العزل كثيرة ومشهورة، حتى إن عددا مهما من دواوين السنة خصصت لها بابا مستقلا ضمن كتاب النكاح، وبينها تعارض اجتهد
[ ص: 120 ] العلماء في رفعه، وقد ذكر
ابن القيم بعضها ثم قال: «هذه الأحاديث صريحة في جواز العزل ، وقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة»
>[3] . وذكر بعضهم
الإمام مالك >[4] .
- اختلاف العلماء
ورغم أن أحاديث الإباحة أكثر وأقوى، كما قال
البيهقي >[5] ، فإن الأخرى صحيحة أيضـا وظاهرها يمنع العزل. من هـنـا نشأ الخلاف. قال
أبو حامد : «فإن عزل، فقد اختلف العلماء في إباحته وكراهته على أربع مذاهب: فمن مبيح مطلقا بكل حال، ومن محرم بكل حال، ومن قائل يحل برضاها ولا يحل دون رضاها، وكأن هـذا القائل يحرم الإيذاء دون العزل. ومن قائل يباح في المملوكة دون الحرة»
>[6] . ثم صحح أن العزل مباح، وفعله من باب ترك الأولى والأفضل فقط، قال: «وإنما قلنا: لا كراهة. بمعنى التحريم والتنـزيه؛ لأن إثبات النهي إنمـا يمكن بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا أصل يقاس عليه. بل هـهنا أصل يقاس عليه، وهو ترك النكاح أصلا، أو ترك الجماع بعد النكاح، أو ترك الإنـزال بعد الإيلاج، فكل
[ ص: 121 ] ذلك ترك للأفضل، وليس بارتكاب نهي، ولا فرق»
>[7] . وهذا الذي يقوله
الغزالي -أعني أن الأصل في العزل الإباحة- هـو مذهب الجمهور.
العزل تخطيط
وإنما كان كذلك لأن الزوجين لا يريدان أن يكون لهما ولد في المستقبل القريب، « والنبي صلى الله عليه وسلم أقر هـذا التدبير؛ إذ حين ذكر العزل عنده سأل الصحابة لم يفعلونه فقالوا: الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها، ويكره أن تحمل منه، والرجل تكون له الأمة ويكره أن تحمل منه »
>[8] .
( وكان لصحابي آخر غاية أخرى من العزل، قال: أشفق على ولدها، أو على أولادها. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : « لو كان ذلك ضارا ضر فارس والروم ) >[9] .
إذن فالعزل تخطيط أسري، وراءه بواعث معينة، وقد ذكر العلماء بعضها، ومنها ما جاء في الأحاديث السابقة، فالزوجان يعزلان إما:
1 - خشية علوق الزوجة الأمة، فيصير الولد رقيقا، وكان في العرب من يأنف أن تحمل منه الإماء.
2 - أو خشية أن تصير الزوجة الأمة أم ولد، وهذه لا يجوز بيعها.
[ ص: 122 ] 3 - أو مخافة دخول الضرر على الرضيع؛ إذا كانت المرأة حديثة الولادة، وهو وطء الغيلة فيه أحاديث.
4 - أو خوفا على المرأة نفسـها إذا كان الحمـل المتتـابع يجهدها، أو حفاظا على جمالها.
5 - أو فرارا من كثرة العيـال؛ إذا كان الرجـل مقـلا فيرغب عن قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب
>[10] . وهذه الدوافع كلها تتعلق بالمستقبل.
لذلك قال
الغزالي : «إن قلت: فإن لم يكن العزل مكروها من حيث إنه دفع لوجود الولد، فلا يبعد أن يكره لأجل النية الباعثة عليه؛ إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة، فيها شيء من شوائب الشرك الخفي. فأقول: النيات الباعثة على العزل خمسة»
>[11] . وذكر بعض ما تقدم، وأنه ليس جميع النيات منهي عنها، ولذا صحح الغايات: 5.4.1. وأورد نيتين فاسدتين:
- أن يعزل كراهة أن يرزق بإناث.
- أو أن تكون المرأة تبالغ في التحرز من الحمل ولواحقه.. كمن لا تريد الحمل أصلا
>[12] .
النتيجة التي نصل إليها هـي: إن العزل تخطيط سـليم من حيث المبدأ، إلا إذا كان له غاية لا تحمد في الشرع، فإن للوسائل حكم مقاصدها.
[ ص: 123 ] العزل لا يرد القدر
وقد يعترض على هـذا التخطيط الخاص -كما يمكن ذلك في كل تخطيط بشري- بأنه معاندة للقدر ومضادة له. والحمد لله أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كفانا بنفسه مئونة الرد على هـذا السؤال،
( فقد جاءه رجل وقال: إن لي جارية هـي خادمنا وسانيتنا، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال صلى الله عليه وسلم : «اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها»، فلبث الرجل، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت. فقال: «قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ) >[13] .
( إن القـدر لا يرده شيء، وضـرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا لذلك من باب العزل نفسـه، فقال: « لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولـدا ) >[14] . فالعـزل سبب كسائر الأسباب، ولا يقول أحد: إن الأسباب ترد القدر، وإنما العزل نفسه من القدر.
[ ص: 124 ] وهذا توجيه نبوي كبير؛ إذ لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك الإعداد والتخطيـط. وهو قـاعدة مطردة في شـئون المستقبل وتحدياته: لا ندع العمل تعللا بالقدر، فهو نفسه من القدر. وهذا علاج للجمود والوهن الحضاريين، لو أخذت به الأمة كان لها شأن آخر.
العـزل وأد خفـي؟
( قالت جدامة الصحابية، رضي الله عنها : حضرت رسول الله في أناس فسألوه عن العزل، فقال: «ذلك الوأد الخفي ) >[15] . واعتبر
عياض أنه: «ليس مقتضى قوله هـذا التحريم، بل التشبيه، كما قيل في الرياء : الشرك الخفي »
>[16] .
ولابن القيم وغيره رأي حسن في شرح هـذه الكلمة، قال: أما «تسميته: وأدا خفيا؛ فلأن الرجل إنما يعزل عن امرأته هـربا من الولد، وحرصا على أن لا يكون، فجرى قصده ونيته وحرصه على ذلك مجرى من أعدم الولد بوأده، لكن ذلك وأد ظـاهر من العـبد فعلا وقصدا. وهذا وأد خفي له، إنما أراده ونواه عزما ونية، فكان خفيا»
>[17] .
[ ص: 125 ] ولا بد من تـأويل حديث جدامة،
( فقد جاء عن جابر أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن اليهود تحدث أن العزل الموؤدة الصغرى ، قال: «كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه ) >[18] .
ثانيا: مثال الادخار
إذا كان بعد أداء حقوق المال جاز، وإلا فهو الكنـز الذي ذكر الله جل شأنـه:
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) (التوبة:34) .
آية الكنـز
( وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نـزلت هـذه الآية كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر : أنا أفرج عنكم. فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هـذه الآية. فقال عليه السلام : «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم»، فكبر عمر ) >[19] .
أي: إذا لم يكن ادخار فمن أين تؤخذ الزكاة ويقسم الإرث؟ ولذلك قال
أبو عبد الله القرطبي : «لو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله، وليس في الأمة من يلزم هـذا، وحسبك حال الصحابة وأموالهم»
>[20] .
[ ص: 126 ] النبي يدخر
ولنا في سـيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بيان شاف في المسألة،
( فقد روى عمر رضي الله عنه أن أموال بني النضـير كانت مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فـكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله ) >[21] .
( وفي رواية البخاري : كان عليه السلام يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم ) >[22] . وهذا صريح في جواز الادخار، وأنه لا ينافي التوكل
>[23] ، وهو غير الاحتكار .
قـال
القرطبـي : في الحديث ما يدل على جواز ادخار قوت العيال سنة، ولا خلاف فيه إذا كان من غلة المدخر وأرضه. أما إن ادخر شراء من السوق، فأجـازه قوم ومنعه آخرون إذا أضر بالناس. وهو مذهب
مالك في الاحتكار مطلقا
>[24] .
الجمع بين الأدلة
لكن ورد عن
أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخر شيئا لغد
>[25] . وحمل بعض العلماء هـذا الحديث على الادخار لنفسه، وذلك لعلو
[ ص: 127 ] مقامه في التوكل. بينما الحديث السابق يتعلق بالادخار لأهله وعياله قياما بحقوقهم ومراعاة لحاجاتهم
>[26] . وفيه احتمالات أخرى مما لاح لي؛ منها: أنه ربما كان لا يدخر شيئا من العطاء الذي كان يأتيه من ولاته على الأقاليم؛ إذ كانت عادته عليه الصلاة والسلام أن يفرق ذلك كله في المسلمين، لا يترك منه شيئا لغد. أو يحتمل أن ذلك كان قبل أن يفيء الله عليه أرض بني النضير؛ يعني لم يكن يدخر؛ لأنه لا يجد، وقد كان أهل المدينة في شظف من العيش قبل الغزوات.
مـدة الادخـار ومـداه
وقد وقف بعض العلماء عند ظاهر اللفظ، فحددوا زمن الادخار بالسنة. وهو من مفهوم اللقب الذي يضعفه جمهور الأصوليين. لذلك استدل
الطبري بالحديث على إباحة الادخار مطلقا، وقال
ابن حجر : هـو استدلال قوي لأن «التقييد بالسنة إنما جاء من ضرورة الواقع؛ لأن الذي كان يدخر لم يكن يحصل إلا من السنة إلى السنة، لأنه كان إما تمرا وإما شعيرا. فلو قدر أن شيئا مما يدخر كان لا يحصل إلا من سنتين إلى سنتين لاقتضى الحال جواز الادخار لأجل ذلك»
>[27] . وهذا وجيه؛ لأن الذي يحدد مدة الادخار هـو نوع السلعة أو الشيء الذي يراد ادخاره، فعمل النبي
[ ص: 128 ] الكريم عليه الصلاة والسلام يشرع لمبدأ جواز الادخار، بل استحبابه، وتفاصيـل ماذا ادخر وكم...؟ لا يلتفت إليها؛ لأنها تتغير بتغير الزمان والمكان والأحـوال، فهذه عملية تنقيح المناط التي تزيل الأوصاف غير المؤثرة في الحكم.
وقد حكى
الغزالي أقوال بعض
الصوفية في الحد الذي إذا بلغه الادخار قدح في التوكل، فقيل: أربعون يوما، وقيل: أكثر، وقيل: أقل... الشاهد عندنا أن الغزالي علق على ذلك بقوله: «هذا اختلاف لا معنى له بعد تجويز أصل الادخار. نعم يجوز أن يظـن ظـان أن أصـل الادخار يناقض التوكل، فأما التقدير بعد ذلك فلا مدرك له»
>[28] .
ومن هـذا أيضا يستخـرج مدى الادخـار ومجاله؛ أعني: فيم يكون. إذ الظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ادخر تمرا أو شعيرا، لكننا إذا أعملنا حكمة الادخار لا صورته فإننا نستنبط أمرين:
1 - الأصل عموم الادخار، فكل ما تمس إليه الحاجة يمكن الاحتفاظ به، ولذلك فإن أبواب الادخار كثيرة: من الدواء والغذاء، إلى الآلات والألبسة، إلى الماء والهواء... إن احتيج لذلك.
2 - علمنا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أن ندخر لأسرنا، وفيه تنبيه على الادخار لما هـو أكبر منها كالشعب أو الأمة، لهذا ينبغي للدولة
[ ص: 129 ] المسلمة أن تكون لها سياسة مدروسة للادخار المستقبلي في جميع المجالات، خاصة تلك التي تتعلق بالنواحي الاستراتيجية في حياة الأمة، أو ما يطلق عليه: الأمن الغذائي، والأمن الدفاعي، والأمن السكاني... إلخ.
ادخـار الصحـة
وهذا مثال لشمول فكرة الادخار أمورا قد لا تخطر على البال، وهي مع ذلك أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما في وصيته
لابن عمر رضي الله عنهما : " «وخذ من صحتك لمرضك» "
>[29] . إن المتبادر إلى الذهن من معنى الحديث هـو أن على الإنسـان المسارعة بالعمـل الصـالح والطاعات في زمن العافية والقـوة؛ لأنه في المرض يعجز عن كثير منه. لكن طبيبا مختصا -كما يحكي
القرضاوي - التفت إلى معنى آخر: وهو أنه من المفروض في كل إنسان أن يحافظ على صحته بأسبابها؛ من الحركة والاعتدال في الجهد والغذاء المناسب... حتى يكون عنده رصيد من الصحة والقوة، تتراكم لديه مع الزمن، بحيث يستطيع أن يقاوم به في حالات المرض والوهن
>[30] . وهذا استنباط بديع من السنة المعجزة.
[ ص: 130 ]