تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي أرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط،
فقال تعالى:
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد: 25).
ذلك أن هداية النبوة أو هداية معرفة الوحي للإنسان كانت ولا تزال لازمة من لوازم الحياة، على مدار تاريخه الطويل ومراحل عمره وأطواره المختلفة، وطبيعة تكوينه العضوي والنفسي، وقدراته الكامنة على التكيف والتغيير والتغير، وما يتمتع به من خصائص ذاتية خفية يتفرد بها وإن كانت تتماثل مع غيره بالمطلق، الأمر الذي يجعل من هذا الإنسان مخلوقا شديد التعقيد والتداخل والغموض، فهو لغز بكل ما في الكلمة من معنى، وهو عالم مجهول حتى عن نفسه وغيره، وما يعرفه العالم وما حققه العلم في رحلته الطويلة في الكشف عن أغوار الإنسان لا يتجاوز النذر اليسير، حتى ليمكن القول: إن مجموعة الدراسات الإنسانية والاجتماعية لم تتجاوز الشواطئ
[ ص: 5 ] القريبة لشخصية الإنسان وتركيبه النفسي والعضوي وقابلياته وقدراته والتغيرات والاستجابات التي يمكن أن تجرى عليه، كل ذلك يجعل معرفة الوحي هي السبيل إلى معرفة حقيقته وكيفية التعامل معه.
حتى علم النفس الحديث، وكل عمليات التحليل النفسي القائمة على الاستبطان كوسيلة كشف، والاستقراء والاستنتاج كمناهج وأدوات معرفة لم يتجاوز الضفاف، حيث إنه يكتشف كل يوم مجاهيل وأغوار لما تزل مقفولة، وما يحقق من معلومات تبقى نسبية ومهزوزة؛ لأنها لم تتوصل بعد إلى العلمية، فعلم النفس ما يزال حتى اليوم، رغم الكسب الكبير، الذي حققه، خارج نطاق العلم بمناهجه الصارمة والمعلومة، فهو لا يخرج في أحسن الأحوال عن نوافذ معرفية قد تصدق مع إنسان وتفشل مع إنسان آخر.
من هنا نقول: إن قراءة متأنية من معرفة الوحي في الكتاب والسنة للإنسان:
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك: 14)،
هي ضرورة علمية ونفسية وعضوية واجتماعية وثقافية ودينية؛ لأنها وحدها تمتلك الشفرة الدقيقة والبوصلة التي لا تخطئ، التي تمكن من قراءة الإنسان.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، الهادي إلى الصراط المستقيم، وريث (معرفة الوحي) النبوة، التي رافقت تطور الإنسان في مراحل تحضره المختلفة حتى بلغ سن الرشد، الذي يتلاءم مع تلقي النبوة الخاتمة حيث اكتمال النضج وكمال الدين.
[ ص: 6 ]
وبعد،
فهذا «كتاب الأمة» الثامن والعشرون بعد المائة: « النبوة الخاتمة.. الدليل المعصوم للتعامل مع الطفولة»، للدكتورة حصة بنت محمد بن فالح الصغير ، في سلسلة «كتاب الأمة»، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر ، حرصا منها على القراءة الدقيقة التي تمكن من استرداد إنسانية الإنسان، وتحقيق كرامته وتأمين كفايته، وتساهم في إيجاد المناخ المناسب لبناء حياته واكتشاف مواطن الإصابة والخلل التي تعتريه، وبيان فضل النبوة تاريخيا ورسالتها في التحضر والترقي وإعداد الإنسان بشكل سليم للاستشعار بالمسئولية وتحمل الأمانة للقيام بأعباء الاستخلاف والعمران في الأرض وفق منهج الله، والتمحور حول إعداد أو تشكيل إنسان الرسالة الخاتمة لتقديم أنموذج للبشرية يكون محل اتباع واقتداء؛ ذلك الإنسان المسلم، الذي غابت صورته أو تكاد بسبب التشويه الذي يمارس عليه والضغوط المتعددة والاختراقات المتنوعة التي عبثت بشخصيته وصورته وأقامت الحواجز النفسية بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس لمحاصرته وشل حركته.
ولعلنا هنا نطرح السؤال الكبير والمستمر: كيف لنا أن نتسرد هذا الأنموذج الغائب أو المغيب، الذي يثير الاقتداء، فيكون بمستوى قيمه الإسلامية ومنجزات عصره التقنية؟ كيف نسترد هذا الإنسان، إنسان
[ ص: 7 ] النبوة الخاتمة؟ كيف نسترد فاعليته، ونعيده إلى الجادة البيضاء النقية، التي يلحق الهلاك والشقاء كل من يحيد عنها؟ كيف نعيد إليه اليقين بأن تخلفه وعجزه وسقوطه كان بسبب تنكب طريق النبوة وابتعاده عن تعاليمها وليس بسبب استمساكه بها والتزامه بتعاليمها؟
وإذا كان نهوض أي مجتمع مرهونا إلى حد بعيد بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأول، وأن قولة الإمام مالك ، رحمه الله، التي تشكل منهجا وسبيلا للإصلاح ومعاودة النهوض: إنه «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» ، فإن دراسة السيرة للتعرف على الميلاد الأول للإنسان والمجتمع والحضارة يبقى هو المنطلق، وهو الخطوة الأولى على الطريق الطويل: كيف نشئ رسالة النبوة وكيف نما إنسانا ومجتمعا؟ ما هو المنهج، ما هو دليل الحياة الذي خضع له؟ ذلك أن استيعاب النشأة الأولى هو السبيل لمعرفة الحياة واكتشاف موطن الخلل فيها ورسم طريق النهوض من جديد إلى أن ينشئ الله النشأة الآخرة.
فالسيرة هي المحضن، الذي تخلقت فيه أجنة المجتمع ونمت وأثمرت وقدمت نماذج حضارية إنسانية لا يستطيع الزمن أن يتجاوزها، لذلك نقول: إن أية محاولة لاسترداد الشخصية المسلمة، التي تثير الاقتداء وتغري بالاتباع وتدعو الناس بأنموذج لافت وإقامة المجتمع المسلم بكل مواصفاته وقيمه، وإخراج الأمة من جديد، التي يتحقق فيها الحس بالمسؤولية عن الناس وتحقيق الشهادة عليهم
( لتكونوا شهداء على الناس ) [ ص: 8 ] (البقرة:143) والاضطلاع بمسئولية الرقابة العامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واسترداد الفاعلية التي تكاد تنطفئ، سبيلها العودة إلى قيم الوحي، في الكتاب والسنة، وتجسيدها وتنـزيلها على واقع الناس في السيرة، في ضوء هداياته، ذلك أن التعامل مع السيرة يتطلب العودة المبصرة الفقهية القادرة على تحديد مواطن الاقتداء من خلال الاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة.
ذلك أن العودة بحماسة زائدة قد تنتهي إلى حماقات، فالاغتراف بلا فقه ولا بصيرة ولا امتلاك للقدرة على تعدية الرؤية وتحديد مواطن الاقتداء في كل مرحلة وكل حالة إنسانية يتحول إلى نوع من العبث والتنفير من قيم الوحي، والمساهمة السلبية في إبعاد الناس عن قيم الوحي، وتكريس سيرهم في طريق الضلال والضياع.
فالسـيرة حاضنة الأمة الأولى، حاضنة الإنسان في أولى مراحل إسلامه، حاضنة المجتمع في أولى مراحل تشكله، حاضنة الأمة في الخطوات الأولى لمراحـل إخراجها كخـير أمـة أخرجت للناس:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110).
السـيرة هي تربة الإنبات ومنـاخ الإنبات ودليل الإنبات ورعاية النبات ودليل الحياة وتزكية سلوك الإنسان والسبيل إلى بناء إنسان النبوة:
[ ص: 9 ] ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة: 2)،
ونحن اليوم قد لا نحتاج لأدلة كثيرة على هذا الضلال والضياع، بسبب التنكب لطريق النبوة (السيرة)، حيث الإصابات تغمرنا من كل جانب وتأتينا من كل وجهة، سواء في ذلك من تنكروا لمعرفة الوحي وتحولوا عن الاغتراف من السيرة، منجم الحياة، أو الذين تعسفوا في التعامل معها بلا عقل ولا فقه فكانوا أدلة عملية على تنفير الناس وتهريبهم من قيم الوحي، سواء بفهمهم الأعوج أو ممارستهم تنـزيل الأحكام الشرعية والقيم الإسلامية بلا فقه ولا دراية، أو سلوكهم الرديء، أو بتفكيرهم الأخرق وتدينهم المغشوش وذلك بإسقاط الأحكام على رءوس الناس دون أي فهم أو فقه لمحل تنـزيل الأحكام وهو واقع الناس والحال التي هم عليها.
وقـد لا نكون بحـاجـة إلى معـاودة التأكيد أن السـيرة محل التأسي والاقتداء:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب: 21)،
وأنها الوعاء التطبيقي لقيم الوحي في واقع الناس، بحسب حالتهم وحاجتهم واستطاعتهم، وأنها في مسيرتها الطويلة عرضت لكل الحالات الإنسانية التي تعترض مسيرة الحياة ولكل مراحل حياة الإنسان، من مرحلة الأجنة فالطفولة فالتمييز فالمراهقة فالرشد فالكهولة فالشيخوخة فالهرم فالموت، وقدمت الإجابة الكاملة لكل الأسئلة الكبرى التي تحتل الإنسان ولا تنفك عنه، حيث الإجابة من مصدر معصوم عن الخطأ (معرفة الوحي)،
[ ص: 10 ] كما أنها عرضت لبناء المجتمع وسبيل إخراج الأمة، بكل مكوناته واستطاعاته والظروف التي تعترضه وكيفية التعامل معها، من بدء الوحي:
( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق: 1)،
إلى نهاية الوحي وبلوغ مرحلة الكمال والاكتمال:
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة: 3)،
بكل ما اعترى ذلك من السقوط وكيفية التعامل معه والوصول إلى المعافاة ومعاودة النهوض والتمكين.
وحيث إن أقدار التدين لا تبقى على حال واحدة فإن في السيرة معالم هداية مرنة، فإذا كان التمكين فكيف نتعامل، وإذا عرض السقوط فكيف تنتشل الأمـة وتنهـض؟ وهكذا
( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:140)،
( وإن عدتم عدنا ) (الإسراء: 8).
والرسول صلى الله عليه وسلم، محل التنـزيل والبيان وأنموذج الاقتداء، تجسدت قيم معرفة الوحي في سلوكه، حيث حول الفكر إلى فعل وممارسة وسلوك؛ كان المثل الكامل لكيفية التعامل مع كل حالة، حتى ليكاد المتأمل في سيرته، عليه الصلاة والسلام، يتملكه العجب العجاب من هذا الكمال في المثلية والمثالية، وكأنه بعث ليكون أنموذجا للزوج وبناء الأسرة السعيدة فقط، فإذا ذهبنا إلى موقع آخر من مواقع الحياة وجدنا الأنموذج والمثل، ففي المعركة مثلا والتعامل مع النصر والهزيمة المحتملة نجده وكأنه بعث لرسم الطريق العملي للتعامل مع ذلك؛ وكذلك في علاقات الرحم والجوار والتعامل مع الأعداء والخصوم؛ فهو أنموذج الاقتداء للزوج والقائد والصديق
[ ص: 11 ] والجار والمعلم والمربي و.... وهكذا نجد السيرة دليل عمل وتفاعل في جميع جوانب الحياة.
وإذا كانت النبوة بشكل عام، في رسالتها التاريخية، رافقت خطوات الإنسان الأول، وقدمت له دليل الحياة، وتعاملت معه في كل أطواره وأعماره وحالاته -كما أسلفنا- والتي يمكن أن تشكل رؤية مأمونة ودليل عمل معصوم مستمد ممن خلق الإنسان، العالم بمكوناته، بماضيه وحاضره ومستقبله وما يعرض له من تداعيات، تشكل لنا سيرة النبوة دليلا خالدا لكل الحالات المشابهة، التي تعرض للإنسان والحياة، بشكل عام، على مدار التاريخ الإنساني، فإن سيرة النبوة الخاتمة ومسيرتها، حيث انتهت إليها أصول الرسالات السماوية جميعا ومسيرة الأنبياء، تشكل من بعض الوجوه قاموسا أمينا مهيمنا لتعاليم النبوة وتعاطيها التاريخي مع الحياة والأحياء، وأن المؤمن بها هو وريث النبوة منذ النشأة الأولى وحتى ينشئ الله النشأة الآخرة؛ قدمت نماذج للاقتداء لبناء الكمال الإنساني، فهي الدليل اليقيني للتعامل مع الإنسان، بكل حالاته وأطواره، فالرسالة الخاتمة جمعت بين معرفة الوحي والتجربة التاريخية.
وإذا تقرر لدينا أن الإنسان لغز مغلق (صندوق أسود) كان لا بد من شفرة لفك رموزه وأسراره، ذلك أن عالم الإنسان على الرغم من التقدم الهائل في العلوم الإنسانية والاجتماعية والنفسية ما يزال – كما أسلفنا- مجهولا، وأن ما حققه العلم من أدلة وحقائق علمية لم تتجاوز شواطئ الإنسان، ذلك البحر العميق المجهول، وأننا بمقدار ما نكشف من حقائق
[ ص: 12 ] ومعلومات بمقدار ما نكتشف من مجاهيل وأسرار لا تزال مستعصية عن العلم وأدواته؛ وعلى الرغم من جميع مناهج الاستقراء والاستنتاج والتحليل النفسي ووسائل التقويم والقياس، مع ذلك ما نزال نفاجأ يوميا باكتشاف أغوار عميقة في ذات ذلك المخلوق العجيب.
وإذا علمنا أن الإنسان لما يكتشف بعد نفسه التي بين جنبيه، وأن كثيرا منا يحاول الاستبطان ويتخذ من نفسه نافذة يطل من خلالها ليكتشف من حوله، وأنه هو نفسه يتطور بين حين وآخرا ليصبح إنسانا آخر، أدركنا أن هذا المخلوق هو سر الأسرار، وأن شخصيته المغلقة بحاجة إلى مفتاح وشفرة دقيقة للقراءة والمعرفة ووضع الدليل المأمون لمسيرته من الضلال والضياع، تبين لنا أهمية معرفة الوحي كدليل إلى الإنسان والحياة.
وإذا كان الإنسان الكبير الراشد القادر على الحركة والنطق والتعبير عما يكنه في نفسه وما يمكن أن يشكل له ردود أفعال لما يقع عليه، ترصد وتفسر من خلالها شخصيته، ما يزال لغزا مغلقا يحمل الكثير من المفاجآت، التي يصعب التنبوء بها، ويمتلك الكثير المخزون من الطاقات التي لم تظهر بعد، أدركنا أن عالم الطفولة هو لغز الألغاز، وأدركنا صعوبة التعامل معه بشكل سليم، حيث تصبح الحاجة إلى رؤية النبوة وتعامل النبوة مع عالم الطفل آكد وأشد حاجة.
ونستطيع القول إلى حد بعيد: إن الطفولة ابتداء من النطفة ومرورا بمرحلة الأجنة فالولادة، بمراحلها المتنوعة وأطوار نموها (سيكولوجية النمو)
[ ص: 13 ] المتعددة تستحوذ على اهتمام العالم؛ لأنها تشكل مستقبل الإنسانية؛ فخطاب الطفل وتنوعه، أو بشكل أصح أدوات التواصل مع الطفل، تتطور وتتنوع بشكل متسارع حتى تكاد تستوعب الجهد الإنساني؛ فأدب الأطفال بكل أجناس الأدب من قصة إلى رواية إلى حكاية إلى مسرح إلى مرسم إلى أفلام كرتونية، متنوعة الإثارة والهدف، ورصد نتائج هذا الجهد، والتعديل الحاصل والمستمر الذي يكاد يكون يوميا على كيفية التعاطي مع الطفولة والسباق العالمي في احتيازها أصبح شيئا مذهلا.
فتشعب التخصصات والدراسات في الطفولة ومراحل نموها ومشكلاتها وكيفية التعامل معها تتحرك بشكل مذهل وتدفع يوميا بكم يصعب رصده ومتابعته فضلا عن استيعابه والإفادة منه، بل لعلنا نقول: إنه على الرغم من هذه الدراسات المتقدمة، التي تجاوزت عالم الطفولة إلى عالم الأجنة قبل الولادة وبذل الجهود الكبيرة لاكتشاف خصائصها، والتفكير بكيفية التحكم بها قبل الولادة واكتشاف عالم الجنين ومراحل تطوره...، حتى لقد تجاوز ذلك ما يطرأ على جسده من نمو واحتمالات إعاقة وإصابة يمكن أن تكتشفها المجاهر، وعلاقة ذلك بالتغييرات العضوية الفسيولوجية التي تقع على الأم الحامل، إلى محاولات الكشف عن عالم الجنين النفسي والفكري والخيالي، واستكناه ما يمكن أن يحلم به، ومؤثرات الحزن والفرح على كينونته النفسية والعضوية، وكل يوم يأتي بجديد، وكل يوم يعدل القديم... ومع ذلك نقول: على الرغم من كل هذا الكسب العلمي الكبير، وهذه
[ ص: 14 ] التخصصات لمجالات الطفولة، عالم الغد، وآفاقها، مع ذلك ما تزال البشرية تقف على شاطئ هذا البحر الزاخر بالأسرار والرموز والشفرات المستعصية على الحل، وما حققه العالم حتى اليوم من حقائق وأوهام لا يعتبر شيئا، ورحلة البحث ستستمر إلى أن تقوم الساعة، تحمل كل يوم جديدا، وتعدل قديما، وتصوب خطأ، وتؤكد حقيقة.
ونحن لا بد أن نعترف أننا في هذا المجال متخلفون أشد التخلف، وفي أحسن الأحوال مقلدون، نشكل رجع الصدى لتلك الجهود والاكتشافات المختلفة، وندفع بأطفالنا لأحضان (الآخر) دون وعي واستيعاب، وفي كثير من الأحيان ندفعهم لنخلص منهم دون أن ندري بما نقدم عليه، بل لعل أطفالنا كما الحال في شعوبنا وأوطاننا، نشكل مزارع التجارب للآخرين في المجالات كلها وليس على مستوى التعامل مع الأطفال فقط، ذلك العالم المملوء بالأسرار والرموز، الذي لا بد له من أدوات لاكتشاف قابلياته وميوله وتنمية مهاراته وتخصيب خياله العلمي.
من هنا نقول: إن ما نمتلكه من قيم الوحي وخاصة في المجال التطبيقي للسيرة النبوية، التي تشكل الميدان التطبيقي والتنـزيلي لقيم الوحي على واقع الناس، وعلى الأخص في مجال رعاية الطفولة وكيفية التعاطي معها في الأحوال كلها، ومن خلال الوسائل التربوية والتنموية المتنوعة، هي كفيلة باختصار التجربة وتقديم الأدلة اليقينية المعصومة للتعامل المضمون النتائج إذا نحن أحسنا الإفادة منها وامتلكنا القدرة على تعدية الرؤية للواقع القائم،
[ ص: 15 ] ذلك أن معرفة الوحي تختصر لنا الطريق إلى الطفولة، وتحمينا من الخطأ، وتغطي لنا الكثير من الحقائق في هذا العالم الخطير، عالم الطفل، التي وصل إليها العلم بعد هذه الجهود الطويلة والشاقة.
لكن الإشكالية اليوم تتمثل في الانسلاخ عن عطاء السيرة ظنا منا أن الاستمساك بها كان سبب التخلف والعجز، لذلك فالطريق إلى بناء الطفولة السوية المتوازنة إنما يتحقق بتقليد الآخرين واللهاث وراءهم (!) دون أن ندري حقا أن إشكاليتنا إنما هي بالانسلاخ عن قيمنا وليس بالاستسماك بها، كما أسلفنا.
ونحن هنا لا ندعو للانغلاق وعدم الإفادة من تجارب الآخرين وعطائهم العلمي، لكن نقول: إن الإنسان المتخلف، الذي لا يمتلك رؤية ومرجعية، أو هو عاجز عن استيعاب مرجعيته وقيمه، هو أكثر عجزا عن الإفادة من العطاء العالمي فالإفادة من العطاء العالمي.. منوط بالإنسان البصير، الذي يمتلك المرجعية ومعيار الأخذ والرد.
ولعلنا نقول: إن عدم الاستيعاب لكيفية التعاطي مع السيرة في عالم الطفولة وفي غيره من المجالات، والتعسف في تطبيق السيرة على واقع الناس، أوقع بالكثير من المضاعفات وردود الأفعال السلبية عند الأطفال، التي قد تحملهم على كراهية الإسلام، من خلال ممارسة بعض الآباء والأمهات الجهلة الإساءة للطفل باسم الدين، الذين لم يكلفوا أنفسهم أن يفهموا عالم
[ ص: 16 ] الطفولة ومتطلباته، ولا مقاصد السيرة وفقه تنـزيلها على الواقع، فتراهم يستعجلون الشيء قبل أوانه فيعاقبوا بحرمانه.
فقد يحملهم الحرص على أبنائهم إلى إغفال الكثير من السنن وفي مقدمتها سنة التطور والنمو، فتارة نركب على الأطفال عقول الكبار ونحاسبهم على تصرفاتهم دون إدراك لمراحل نموهم؛ وأحيانا نغفل سنة الأجل ونحاول أن نقفز بهم دون اعتبار للزمن، ونحملهم ما لا يحملون، فنقع بعكس ما أردناه؛ وأحيانا لجهلنا نستنكر بعض التصرفات ونعتبرها شاذة وهي في الحقيقة من الأمور الطبيعية لهذه الأعمار، ونحكم على أصحابها بالشذوذ والسلبية، ونلجأ إلى العقوبة والتأنيب وتقليل قيمة الطفل وازدرائه، مع العلم أن الشذوذ والنمو غير السوي إنما يكون لو غابت مثل هذه التصرفات.
وأحيانا تضيق عقولنا فنحكم على الطفل ونختزل حياته ورؤية مستقبله من خلال تصرف واحد قد يكون نزوة عابرة لا يلبث أن يكتشف خطأه ويعود عنه إن أحسنا التعامل معه.
وفي كثير من الأحيان، وهذا هو التعسف الأسوأ في التعامل مع قيم الدين والتأسي بالسيرة النبوية، وذلك عندما يتخلف الطفل عن أداء الصلاة بعد بلوغه سن العاشرة فنقدم على ضربه بقسوة، حتى يخرج الضرب عن وسيلته التربوية للتأديب إلى الوسيلة القهرية الانتقامية الخطيرة، ونعلل
[ ص: 17 ] ذلك بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك الأمر الذي يوضع في غير محله، فلا يحمل إلا الكره من الطفل للرسول صلى الله عليه وسلم وأوامره، والعياذ بالله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) (أخرجه أبو داود ).
فهناك نحو من أربع سنوات بين السبع والعشر لاستنفاد كل الوسائل التربوية في الترغيب والترهيب، وآخر الدواء الكي، كما يقولون، لكن نحن نبدأ بالضرب والتهديد وإبلاغ الطفل أن هذا هو الدين، الأمر الذي ينفره ويغلقه عنا ويشكل له شخصية مزدوجة يصعب علينا معها معرفته وإدراك أبعاد شخصيته لحسن التعامل معه.
لذلك فلنوفر للطفل أجواء الحرية، ونمنحه الشخصية الاستقلالية، ونشعره بالثقة، ونراقب عن بعد لتصرفاته.. فالحرية ثم الحرية ثم الحرية هي التي ينطلق من خلالها الطفل على سجيته وبراءته، ونحن من خلال هذه الحرية الممنوحة نقرأ الشخصية بدقة، ومن ثم نعرف كيف نتعامل معها بشكل سليم؛ أما تحويله إلى صندوق أسود، والتوهم أن السكوت والطاعة الظاهرة هي حقيقة مسلمة نفرح بها فلا يلبث الموضوع وبعد أن يصلب عود الطفل قليلا أن يفاجئنا بانفجارات كبرى وتمرد وشذوذ يصعب معه المداخلة والمعالجة، وقد تم ذلك تحت شعار القيم الدينية، فنكون بذلك نسيء حيث نظن أننا نحسن صنعا، ولا يخفى أن
[ ص: 18 ] بعضا من أبناء المتدينين -بسبب تعسف الآباء والأمهات والمعلمين في التعامل معهم باسم الدين وقيمه- أصبحوا يعتبرون الدين عبئا ثقيلا يتحينون الفرص للانعتاق منه.
ويمكن القول: إن السيرة في تعاطيها مع الأطفال استعملت بالمطلق جميع الوسائل التربوية المتنوعة، التي يمكن من خلالها اكتشاف عالم الطفولة وتنميته وتشكيل شخصيته الاستقلالية وتعويده على تحمل المسئولية فالرسول القدوة صلى الله عليه وسلم تعامل مع عالم الطفل وبنائه وتنميته وتزكيته وتعليمه بالوسائل التربوية المتنوعة، التي تستوعب خصائص الطفل، بكل تنوعاتها ومجالاتها، من بناء عقيدة الطفل، إلى تربية سلوكه وخلقه، إلى تنمية جانبه الاجتماعي والنفسي والعاطفي، والتنويع في وسائل التربية، فالقدوة تارة، وبالموعظة أخرى، وبالقصة والعبرة وبالترويح والتدريب على المعاني والمسالك المتعددة، وفقا لقيم السماء.
وأقول هنا: لقد تمحورت جهودنا واجتهاداتنا وفقهنا حول استنباط الحكم التشريعي وكأنه مقصد الكتاب والسنة فقط(!) وعلى أهمية ذلك وأولويته إلا أنه لا يشكل لنا عذرا لتخلفنا في استنباط الفقه التربوي والاجتماعي والنفسي... الذي يبني الإنسان طفلا ومراهقا وراشدا فالإنسان هو محل الحكم التشريعي.. فإذا كان بعض فقهائنا نظر في المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه زار طفلا فقد طائره الصغير فحزن عليه، وعزاه بقوله:
( يا أبا عمير ما فعل النغير؟ ) (أخرجه البخاري )، فاستنبط منه
[ ص: 19 ] اثنى عشر حكما، من جواز اقتناء الطفل للطيور، واللعب بها، وسنة تعزية الطفل عما يفقده لإشعاره بشخصيته، وتكنيته بأبي فلان أو أم فلان لإعطائه قيمة الكبار، الأمر الذي ينـزع إليه الطفل بشكل طبيعي، وبناء شخصيته الاستقلالية، مما كان أحوجنا أن نمتد بهذا الفقه التربوي، وعلى الأخص في مجال الطفولة، لنشكل رجال ونساء المستقبل بشكل سليم.
لقد نظر لهذا الأثر في إطار الحكم التشريعي من سنة تعزية الصغير، وسنة تكنيته وجواز لعبه، وما إلى ذلك.. وعلى أهمية ذلك لكن ليس الأقل أهمية منه استنباط الأبعاد التربوية ووضع الوسائل والأدوات التي تمكن من حسن التعامل مع الطفولة.
والكتاب الذي نقدمه يعتبر محاولة جادة في استدعاء معرفة الوحي في الكتاب والسنة والسيرة العملية، وتجديد ذاكرة المسلم المعاصر تجاه هذه الكنوز العظيمة في تراثنا التربوي، وبيان كيفية تعاملها مع عالم الطفولة، مجتمع الغد، حيث بات التوجه إلى الطفل يستحوذ على اهتمام الكتاب والمفكرين والباحثين والأدباء والمثقفين والمخرجين السينمائيين والمنتجين والممثلين، ويأخذ مساحات كبيرة من الأنشطة في المجالات المتعددة، ويدخله من يحسن ومن لا يحسن، لتكون له الغلبة المستقبلية في السباق الحضاري.
فالطفولة أصبحت اليوم عالما قائما بذاته له التخصصات المتنوعة، التي تتضافر جميعا لتشكل كيفية التعامل مع هذا العالم وتنميته ومحاولة اكتشافه للارتقاء بقابلياته وإمكاناته ومهاراته؛ ففي علم النفس والتحليل النفسي من
[ ص: 20 ] الشعب المعرفية التي تستهدف الأطفال ما يعتبر من العجب العجاب؛ وليس الأمر أقل من ذلك في علم التربية وعلم الاجتماع وعلم الإنسان فلكل مرحلة عمرية خصائصها ومشكلاتها ووسائل التعامل معها، حتى تجاوز الأمر بالعلماء إلى اقتحام عالم الأجنة ومحاولة استكناه تطور الجنين في مراحله المختلفة.
فالعلوم المستهدفة للطفل كانت ولا تزال علوما متطورة متغيرة، ذلك أن عالم الطفولة عالم لغز مملوء بالأسرار، وهو أشبه بالصندوق الأسود ، الذي يحتوي على الكثير من الكنوز، فهو عالم الرموز والأسرار المخبوءة، وعلى الأخص أن الطفل بطبيعته لا يستطيع أن يعبر عن شخصيته، لذلك فعالم هذا اللغز ما يزال عصيا عن الإحاطة بعلمه، على الرغم مما حققه العلم في ميادينه المختلفة.
ولعلنا نقول: إن ما وصل إليه العلم من معارف مقدورة في إطار عالم الطفولة عرفت أصحابها بالغور البعيد، وأن ما تحقق لم يتجاوز الضفاف بعد هذه الرحلة الطويلة، ولا أدل على ذلك من أن ما أنتج من هذه الدراسات يحمل الكثير من التناقض، ويبنى على الكثير من الظنون وأحيانا الأوهام، ولعل ذلك عائد إلى طبيعة تكوين الإنسان بشكل عام، فإذا كان الإنسان لم يكتشف ذاته بعد، ويتقلب هو نفسه في أطوار متعددة قد لا يتوقعها، وأن الكثير من سلوكه وتصرفاته، الذي يشكل نوافذ شخصيته، ليست بالضرورة صادقة ودقيقة وغير ملتبسة، وإذا كان هذا حال
[ ص: 21 ] الإنسان الراشد، فما بالنا بعالم الطفولة، الذي يتطلب، لقراءته والتعرف إلى أسراره ومخبوءاته، شفرة خاصة تشكل دليلا للتعامل معه؟
وبإمكاننا القول بكل يقين: إن هذه الشفرة لا تتأتى إلا عن طريق معرفة الوحي الصحيحة، عن طريق خالق الإنسان العالم بما خلق،
يقول تعالى:
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ..
ومن هنا نقول: إن هذا الكتاب يشكل لبنة أساسا في الوصول إلى دليل عمل وتعامل مع عالم الطفولة، مساهمة في بناء وتشكيل مجتمع المستقبل، في ضوء قيم الكتاب والسنة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد
[ ص: 22 ]