المبحث الثالث

وسائل التربية الإسلامية

1- التربية بالقدوة:

القدوة في التربية هي أفضل الوسائل جميعا وأقربها إلى النجاح، فمن السهل تأليف كتاب في التربية، ومن السهل تخيل منهج ولكن هذا المنهج يظل حبرا على ورق ويظل معلقا في الفضاء ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض، ما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه، عندئذ يتحول المنهج إلى حقيقة، إلى حركة، إلى تاريخ، والله سبحانه وتعالى وضع هذا المنهج المعجز وجعل له بشرا تحمله لكي يعرف الناس أنه حق ثم يتبعوه، فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة للنـاس، حيـث قال تعالى:

( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب: 21)

ووضع في شخصه الصورة الكاملة للمنهج الإسلامي، الصورة الخالدة على مدار التاريخ، فقد كان صلى الله عليه وسلم عجيبة من عجائب الكون، شخوص كثيرة مجتمعة في شخص واحد.. رجل سياسة يشيد أمته من الفتات المتناثر.

رجل حرب يضع الخطط ويقود الجيوش ويحارب وينتصر كقائد متخصص كل همه القتال؛ وأب وزوج ورب أسرة كبيرة كثيرة النفقات، [ ص: 80 ] نفقات النفس والفكر والشعور فضلا عن نفقات المال؛ وصديق قريب وصاحب للناس تشغله همومهم وتملأ نفسه مشاعرهم ويعودهم ويزورهم ويعينهم ويمنحهم من مودته وعطفه؛ وعابد متحنث لربه كرجل منقطع للعبادة.

ومع ذلك فهو قائم على أعظم دعوة شهدتها الأرض، الدعوة التي حققت للإنسان وجوده الكامل.. كل هذه الشخوص المتفرقة مجموعة في شخصه، ذلك محمد بن عبد الله النور الذي بهر العالمين، وحق للناس أن يحبوه كل ذلك الحب ويعجبوا به ويتبعوه؛ وكان قدوة للناس في واقع الأرض يرونه تتمثل فيه هذه الصفات كلها وهذه الطاقات فيصدقون هذه المبادئ الحية لأنهم يرونها رأي العين، ولا يقرأونها في كتاب ويرونها في بشر فتتحرك لها نفوسهم ويحاولون أن يقتبسوا منه صلى الله عليه وسلم لذلك كان أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل، وكان مربيا هاديا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به، وهذه القدوة باقية ما بقيت السماوات والأرض.

والإسلام يرى أن القدوة أعظم وسائل التربية، فيقيم تربيته الدائمة على هذا الأساس، فلا بد للطفل من قدوة في أسرته ووالديه لكي يتشرب منذ طفولته المبادئ الإسلامية، ولا بد للناس من قدوة في مجتمعهم تطبعهم بطابع الإسلام لكي يحملها الأمانة لمن يربوهم من الأجيال، ولا بد للمجتمع من قدوة في قائدهم أو زعيمهم تتحقق في شخصه المبادئ وينسج على منواله المحكومين؛ والقدوة للجميع هي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم التي تتمثل فيها كل مبادئ الإسلام وقيمه وتعاليمه؛ وحين يتكون مجتمع إسلامي فإنه يشرب [ ص: 81 ] أطفاله مبادئ الإسلام عن طريق القدوة القائمة في هذا المجتمع متمثلة في الأسرة والوالدين >^[1] .

إن الولد الذي يرى والده يكذب لا يمكن أن يتعلم الصدق.

والولد الذي يرى أمه مستهترة لا يمكن أن يتعلم الفضيلة.

والولد الذي يقسو عليه أبوه لا يمكن أن يتعلم الرحمة والتعاون.

والأسرة هي المحضن الذي يبذر في نفس الطفل أول بذرة.

وينبغي أن تكون سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم جزءا دائما من منهج التربية سواء في المنـزل أو المدرسة أو الكتاب.

فهذا الطفل ابن عباس ، رضي الله عنهما، عندما يشاهد أمـامه من يقوم الليل فإنه يسارع لذلك ويلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ( بت عند خالتي ميمونة ليلة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في بعض الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا يخففه عمرو ويقلله جدا ثم قام يصلي فقمت فتوضأت نحوا مما توضأ ثم جئت فقمت عن يساره فحـولني فجعلني عن يمينه ثم صلى ما شاء الله ) >^[2] .

وأخرج أبو داود ( عن عبد الله بن أبي بكره ، رحمه الله، قال: قلت لأبي: يا أبت، إني أسمعك تدعو كل غداة: اللهم عافني [ ص: 82 ] في بدني اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت، تعيدها ثلاثا حين تصبح وثلاثا حين تمسي، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهن فأنا أحب أن أستن بسنته ) ، ذلك لأن الطفل عبد الله بن أبي بكرة كان يراقب أدعية والده ويسأله عنها ويجيبه والده.

وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تدلنا على أنه كيف كان يربي الناس عامة والأطفال خاصة من خلال القدوة كثيرة، فقد كان يقول ليقتدى به، فمن أحاديثه التي أمر فيها بالإحسان إلى البنات ورعايتهن وأنه يجب على كل عائل بنات أن يحسن صحبتهن ويقتدي به صلى الله عليه وسلم حيث إنه أب لبنات وكان يحسن إليهن، ما رواه أبو سعيد الخدري ، رضي الله عنه، قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة ) >^[3] .

فينبغي على كل مرب الإحسان إلى البنات وعدم الرجوع لعادات الجاهلية من إهانة البنت وعدم إكرامها، بل التخلق بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق بالبنت وإحسان صحبتها والصبر عليها، لما في ذلك من الأجر العظيم الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم الوالد إذا عمل ذلك بأنها ستكون حجابا له من النار ويكون قد عمل بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة ) >^[4] . [ ص: 83 ]

ولنا أن نتساءل: ما حق البنت في الوقت الحاضر الذي إذا قمنا به نكون قد عملنا بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والإجابة:

- رعايتها حق الرعاية وذلك بالاهتمـام بإصلاحها والرقي بتعليمها -بالمنـزل والمدرسة- الدين والخلق ودعوتها للاقتداء بفضليات النساء اللاتي كن مضرب المثل في الخلق مثل أسماء بنت أبي بكر وصفية بنت عبد المطلب ونسيبة بنت كعب وخولة بنت الأزور وغيرهن كثير؛ لأن البنت إذا صلحت فإننا ننتظر من ابنها أن يكون رجلا صالحا.

- النهي عن كراهية البنت، فالقرآن الكريم أولا وأخيرا صحح النظرة الجاهلية العقيمـة التي تدعـو إلـى كراهية البنت، حيث قال تعالى:

( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (النحل: 58-59)

وأيضا السنة النبوية صححت هذا المفهوم الخاطئ، فعن ابن عمر " أن رجلا كان عنده بنات فتمنى موتهن فغضب ابن عمر، فقال: أنت ترزقهن؟ " وهذا خطاب نبوي إلى الوالدين في تصحيح التصور عن البنات وعدم الكراهية لهن والمؤانسة لهن.

وقد ذكر ابن القيم ، رحمه الله، تحليلا لقوله تعالى:

( يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ) (الشورى:49)،

أن ما قدره الله من الولد فقد وهبه الله الزوجين، وبدأ بذكر الآيات قيل: جبر لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانهن، وقيل -وهو أحسن- إنما قدمهن لأن سياق [ ص: 84 ] الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الوالدين؛ وعند ابن القيم وجد آخر أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدونهن؛ وتأمل كيف نكر الله سبحانه الإناث وعرف الذكور فجبر نقص الأنوثة بالتقديم وجبر نقص الأخير بالتعريف.

وقد يكون للعبـد فيهـن خـير في الدنيا والآخرة، وقال صالح ابن أحمد : كان أبي إذا ولد له ابنة يقول: الأنبياء كانوا آباء بنات، إذن ينبغي إزالة التصور الفاسد عن البنـات وعـدم الكراهية لهن وإجلال الحب لما أحبه الله ووهبه للوالدين، وأن الخير فيما يختاره الله، والمساواة بين الذكر والأنثى، وعدم المفاضلة بينهم، ومن ثـم تربيتهن تربية إسـلامية لما لهذه التربية من أهمية ودور كبير؛ فالبنت هي أم المستقبل وصانعة الأجيال والأبطال.

فللقدوة الحسنة أثر كبير في نفس الطفل، فهو يقلد والديه كثيرا؛ ووالداه يطبعـان فيه أقـوى الآثار، والرسول صلى الله عليه وسلم يحثنا عـلى أن نكون قدوة حسنة لأبنائنا في خلق الصدق أثناء تعاملنا معهم، فقد أخرج أحمد عن أبي هريرة ، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كـذبة ) . وأخـرج كـذلك عن عبـد الله ابن عامر ، رضي الله عنه، قال: ( أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله، تعال أعطك، فقال لها [ ص: 85 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيـه تمرا، قـال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة ) .

فالوالدان مطالبان بتطبيق أوامر الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في جميع أحوالهم وسلوكهم؛ لأن أطفالهم يراقبون هذه الأحوال وتلك السلوك ويلتقطونها سواء، أكانت حسنة أم سيئة. فلذلك يجب على الآباء والمربين انتهاج الطريق الصحيح ليتمثل أبناؤهم ذلك الطريق.

ولكي يتخذ الأطفال آباءهم ومربيهم قدوة وأسوة لهم ينبغي أن يتعايشوا معهم ويعيشوا واقعهم؛ لأن ذلك يعطيهم الأمن والشعور بالقبول وفي ذلك مجال لنمو حياتهم الاجتماعية والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أمثلة رائعة في ذلك مثل:

إلقاء السلام على الصبيان، فالسلام تحية الإسلام ومفتاح المحبة والقبول بين الناس سواء ألقيته على من عرفته أم لم تعرفه، وهي سنة تربوية عظيمة للأطفال خاصة.

فإنه صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يزور الأنصـار ، ويسـلم على صبيانـهم، ويمسح على رءوسهـم، ويدعو لهـم، ويخصـهم بالأسئـلة والحـديث، ( فعن أنس بن مالك ، رضي الله عنه، أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ) >^[5] . [ ص: 86 ] وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر بالأولاد وهم يلعبون ألقى عليهم السلام، ووقف ينظر إليهم، وكان يخاطب الصغير منهم بما يثير اهتمامه منهم فيقول سائلا الطفل عن عصفوره الخاص: ( يا أبا عمير ما فعل النغير ) >^[6] .

وكان صلى الله عليه وسلم يصطحب معه إلى المسجد الحسن أو الحسين لحضور الصلاة جماعة، فلقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر وهو حامل الحسن أو الحسين، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته (في وسط الصلاة) سجدة أطالها، فقال: إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها فظننا أنه قد حدث أمر أو أنه قد يوحى إليك، قال: فكل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني -أي جعل ظهري مطية للركوب- فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ) .

كل هذه المواقف التربوية النبوية لنا فيها أسوة حسنة في تربيتنا لأبنائنا؛ لأن مرحلة الطفولة مرحلة إعداد وتدريب الطفل بالدور المطلوب منه في الحياة، فهي أطول مرحلة من مراحل الإنسان، ومن هنا كانت حاجته شديدة لملازمة والديه، فينبغي لوالديه التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيق سنته، [ ص: 87 ] وبالتالي سيتأسى بها الطفل ويتمثلها في حياته.