2- التربية بالموعظة:
في النفس استعداد للتأثر بما يلقى إليها من كلام، وهو استعداد مؤقت في الغالب، وذلك يلزمه التكرار.. والموعظة المؤثرة تفتح طريقها إلى النفس مباشرة عن طريق الوجدان، تهزه هزا، وتثير كوامنه لحظة من الوقت، لذلك لا تكفي الموعظة وحدها في التربية إذا لم يكن بجانبها القدوة والوسط الذي يسمح بتقليد القدوة وتشجيع على الأسوة بها؛ وحين توجد القدوة الصحيحة فإن الموعظة تكون ذات أثر بالغ في النفس، وتصبح دافعا من أعظم الدوافع في تربية النفوس؛ ثم إنها من جانب آخر ضرورة لازمة، ففي النفس دوافع فطرية في حاجة دائمة إلى التوجيه والتهذيب، ولا بد في هذا من موعظة، فقد لا يسرق الوالد ولا الأم ولكن الطفل يجنح إلى السرقة بدافع من دوافع الأطفال حينئذ لا بد من الموعظة، موعظة لطيفة خفيفة مؤثرة ترد الطفل إلى صوابه، وتعوده على مكارم الأخلاق.
والإنسان الكبير كالطفل الصغير في حاجة دائمة إلى المواعظ، فقد يعدل الحاكم ويظلم المحكومون مدفوعين بما ركب في طبيعة الإنسان من ضعف واتباع للشهوات، فلا بد من الموعظة
>[1] .
[ ص: 88 ]
والقرآن الكريم مليء بالمواعظ والتوجيهات، وهو موعظة للمتقين، قال تعالى:
( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به ) (النساء: 58).
( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) (لقمان: 13).
فإن كثرة الكلام في كثير من الأحيان لا تؤتي أكلها في حين نجد الموعظة الحسنة تثمر... ولقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم، هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي وائل قال:
( كان عبد الله ، رضي الله عنه، يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظـة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخـولنا (أي يتعهدنا) بها مخافة السآمة علينا ) >[2] .
من هذا نجد اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بتربية الأولاد تربية إسلامية صحيحة والأنبياء من قبله، فقد كان المرسلون، عليهم السلام، يوصون أولادهم بتقوى الله وتوحيده،
قال تعالى:
( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) (البقرة: 132)؛
[ ص: 89 ] ووصيـته سبحـانه قديمـة ما زال يوصـي بـها عباده حتى يرث الأرض ومن عليها.
وقد كان جانب العقيدة من أهم الجوانب التي اعتنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرسها في نفوس الناشئة منذ صغرهم، لأن ذلك أدعى لسلامة الفطرة ولأن التوحيد هو الغاية من البعثة، فقد ظل ثلاثة عشر عاما يدعو إليه، وذلك واضح في تلقينه صلى الله عليه وسلم للغلام ابن عبـاس ، رضي الله عنهما، مبادئ العقيدة الصحيحة كما جاء عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:
( كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) >[3] .
إن هذا الحديث عظيم، فيه فوائد كثيرة ومسائل مهمة في العقيدة والسلوك والأخلاق والآداب وغيرها، قال الإمام ابن رجب ، رحمه الله: وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش لما فيه من
[ ص: 90 ] الفوائد الجمة التي فيها: اهتمام النبي بتوجيه أمته وتنشئتها على العقيدة السـليمة والأخلاق الفاضلة، فنلاحظ أنه حين ركب الغلام الصغير مع النبي صلى الله عليه وسلم لقنه كلمات قليلة الألفاظ كبيرة المعنى لها نتائجها في الدنيا والآخرة، وهذا الاهتمام بالجيل ينبغي أن يكون سمة جميع المربين من آباء ومعلمين، وهذا الأسلوب الهادئ الجميل أسلوب التعليم الحسن منه صلى الله عليه وسلم بمناداة الغلام ليلفت انتباهه ويستجمع ذهنه ويشوقه إلى ما سيقوله من فوائد سيستفيد منها في بضع كلمات
( احفظ الله يحفظك ) احفظ حدوده، المحافظة على الصلاة، المحافظة على الطهارة؛ لأنها شرط لصحة الصلاة، حفظ الحواس، ومن ثم حفظ الله للإنسان في صغره وصباه وشبابه وحال ضعفه وقوته ومرضه وصحته، وحفظه لدينه، وحفظه عند موته من الزيغ والهلاك فيتوفاه على شهادة الحق، وحفظه بعد موته في القبر والحشر وفي الدار الآخرة فما أحوج الإنسان في ذلك اليوم إلى حفظ الله ورعايته لينجو من أهوال ذلك اليوم.
يقول ابن رجب ، رحمه الله: «يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة؛ ومعرفة العبد لربه نوعان: معرفة عامة وهي علم بعباده واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه. ومعرفة خاصة وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه.
[ ص: 91 ]
وأنه ينبغي للمؤمـن ألا يسـأل أحـدا إلا الله فهو قريب مجيب، وألا يستعـين إلا به سبحـانه، وإن كل شيء يحصـل في هـذه الحياة وما يصـيب الإنسان من خـير أو شر إنمـا هـو بتقـدير الله، سواء رضـي العبـد بذلك أم لم يرضـ، فعـلى المؤمن أن يؤمن بذلك تمام الإيمان ليتحقـق الركن السـادس من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقدر خيره وشره
>[4] .
فلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته أسوة حسنة في توجيهه للناشئة التوجيه الصحيح وموعظتهم الموعظة الحسنة، فقد كانوا هؤلاء الناشئة على قدر كبير من الحرص على العلم والأخذ عنه صلى الله عليه وسلم وحفلت السنة النبوية بالعديد من المواقف التعليمية التي يخص فيها صلى الله عليه وسلم هؤلاء بوصية أو موعظة أو تعليم حكمة، ومن ذلك تعليمه لمعاذ ، رضي الله عنه، عندما سأله عن أعظم المسائل في التوحيد فيقول، رضي الله عنه:
( كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: يا معاذ، هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحـق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا ) >[5] .
[ ص: 92 ]
ويوصي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما، وصية بالغة عظيمة يرويها بنفسه:
( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) >[6] .
والسنة النبوية مليئة حافلة بالأحاديث التي تشير إلى موعظة الأبناء والناشئة والتي كان لها أكبر الأثر في تنشئتهم التنشئة الإسلامية الحقة، فقد تشربها أطفال الصحابة، رضوان الله عليهم، وأبناء السلف الصالح، فينبغي لكل مرب أن يؤصلها في أبنائه لينتهجوا نهج ناشئة السلف من الاقتباس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم: فمن مواعظه صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته للناشئة:
روى الإمام أحمد مختصرا والطبراني واللفظ له عن عبد الله بن أبي أوفى ، رضي الله عنهما، قال:
( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه آت فقال: شاب يجود بنفسه قيل له: قل: لا إله إلا الله، فلم يستطع، فقال: أكان يصلي؟ فقال: نعم، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضنا معه فدخل عـلى الشاب فقال له: قل لا إله إلا الله، فقال: لا أستطيع، قال: لم؟ قيل: كان يعق والدته، فقال صلى الله عليه وسلم: أحية والدته؟ قالوا: نعم، فقال لها: أرأيت لو أججت نارا ضخمة فقيل لك: إن شفعت له خلينا عنه وإلا أحرقناه بهذه النار أكنت تشفعين له؟ قالت: يا رسول الله، إذن أشفع، قال: فاشهدي الله وأشهديني أنك قد رضيت عنه، قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن [ ص: 93 ] ابني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام، قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذه من النار. )
فهذا الحديث يعطي موعظة ودروسا في وجوب بر الوالدين وطاعتهما؛ لأنها مقرونة بطاعة الله عز وجل، وأن الإخلاص في برهما ينجي صاحبه من النار ومن الظلمات.
وكما اعتنى صلى الله عليه وسلم بتوجيه الأبناء لبر آبائهم كذلك دعا الآباء للاهتمام بأبنائهم والدعاء لهم وتوجيههم، فبدلا من أن يكون الأب سببا في إفساد الطفل بالدعاء عليه ليكن سببا في صلاح الطفل فيدعو له كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دعا للأطفال فبارك الله في مستقبلهم بالعلم والولد والمال، فقد أخرج البخاري
( عن ابن عباس ، رضي الله عنه، قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة ) ، وفي رواية
( علمه الكتاب ) ، وبفضل دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح ابن عباس في كبره حبر الأمة وترجمان القرآن.