4- التربية بالقصة:
تعد القصة من وسائل التربية، التي لها دور كبير في شد انتباه الطفل ويقظته، وتحتل المركز الأول في الوسـائل الفـكرية المؤثرة في عقل الطفل لما لها من متعة وتأثير، وهي مادة حية يتسلى بها الأطفال، وتعد أفضل أسلوب لتثبيت المعاني لديهم بعيدا عن الأمر والنهي والوعظ المباشر، ومفيدة جدا في إخراج الطفل من إيحاءات البيئة المحلية المحددة إلى بيئة أرحب وأفضل تتمثل فيها المبادئ الأخلاقية وتمكن من إدراك الأمور العقلية المجردة مثل الإيمان والحب والإخلاص، حيث إن القصة بما فيها من أشخاص وأحداث تساعد على تقريب تلك المعاني بصورة مجسدة حية وتجعل الطفل يتشرب الأخلاق والمفاهيم والعادات، التي تجعل منه إنسانا صالحا ناجحا.
لذا فإن كل الحكايات التي نحكيها له يجب أن تستهدف هذين المعنيين، قصص الأنبياء وقصص أبطال الإسلام؛ لأن القصة سلاح فعال فعلينا أن نعرف متى نستخدمه وكيف نستخدمه.
[ ص: 106 ]
ويجب أن نذكر القصص المبسطة التي وردت في كتاب الله: كقصة آدم ، عليه السلام، وتبيان الغاية من خلق الناس جميعا وخروجهم من الجنة بسبب طاعة آدم لوسوسة الشيطان فهو عدونا اللدود.
وقصة إبراهيم ، عليه السلام، وقصة أصحاب الفيل.. وقصة سليمان ، عليه السلام، والهدهد ففيها إغراء جميل وإثراء لخيالهم مع التركيز على عبادة الله فهو القادر الذي ينطق الطير ويفهم من يشاء لغة الطير والنمل.
وكذلك يمكن أن يستفيد الأطفال من قصة النفر الثلاثة، الذين آواهم الغار وأطبقت عليهم الصخرة وكيف أزيحت عن باب الغار بسبب أعمالهم الصالحة التي دعوا الله بها وتوسلوا إليه بسببها؛ وهذه القصص النبوية والتاريخية اعتمدت على حقائق ثابتة بعيدة عن الخرافات والأساطير، فهي قصص تبعث في نفس الطفل الثقـة بهذا التاريخ وتعطيه اندفاعا وانطلاقا وتبني فيه شعورا إسلاميا وإحساسا عميقا؛ فأخبار الأنبياء والصالحين والعلماء من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس وتبعث إلى التأسي بـهم، وشاهد ذلك قوله الله عز وجل:
( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) (هود: 120).
قال الإمام أبو حنيفة : «الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم»
>[1] .
[ ص: 107 ]
فالقصة لها أهمية كبيرة في قوة التأثير واستمرار الأثر إذا ما قورنت بالكلام العادي؛ لأنها كما ذكرنا تمثل الحياة بكل معانيها من نشاط وحركة وانفعال ومواقف.
والإنسان يميل بفطرته إلى سماع القصة أو قراءتها أو روايتها. فنلاحظ أن الأطفال يحبون أن يسرد عليهم والدهم أو والدتهم أو جدتهم القصص، فهم يتلهفون لسماع القصة ويبدوا عليهم الانفعال وتظهر على وجوههم التعبيرات وهم يسمعون حوادث القصة وما جرى لأبطالها.
ويمتد تأثير القصة إلى تقليد أبطالها؛ لأن القصة لها أثر في نفوس الصغار أكثر من نفوس الكبار، فالصغير يجد نفسه بطلا في القصة التي تدور حولها الأحداث فينبغي أن يكون أبطال القصة يمثلون الإيمان بالله أو الخلق النبيل، وتكون القصة ذات أثر بعيد وواضح من مجرد تقديم الوصايا والحكم؛ لأن الطفل يدرك المحسوس الذي يباشره بالعين أو الأذن أو اليد أو الأنف، وهو بحاجة إلى فهم أمور عقلية مجردة في طفولته سواء المتأخرة أو المتوسطة مثل التعاون والمحبة والإخلاص والصدق إلى غيرها، فهي أفكار مجردة تساعد القصة بما فيها من أشخاص وأحداث على تقريب تلك المعاني والأفكار بصورة حية مجسدة.
والسنة النبوية مليئة بالقصص التربوية الهادفة، التي يقتبس منها الطفل ويتشرب كثيرا من المعاني والأخلاق العظيمة في حياته، فمما روي
( عن السيدة عائشة ، رضي الله عنها، أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها [ ص: 108 ] فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة ) >[2] ، وذلك بسبب رحمتها ورأفتها.
فهذه القصة فيها دليل على كرم السيدة عائشة، رضي الله عنها، على قلة ما لديها، وحكمتها في إعطاء ثلاث تمرات لثلاثة أفراد؛ وعدالة الأم في القسمة وتقديم ابنتيها على نفسها، وإيثارها بنصيبها رغم حاجتها، والدقة في عدالة التوزيع، واستحسان الرسول ( لما جرى، والنتيجة بتبشيره لها برضا الله والجنة
>[3] .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا، قال: في كل كبد رطبة أجر ) >[4] .
في هذه القصة فوائد عظيمة يستفيد منها الصغير والكبير، فقد ورد في شرح صحيح البخاري أن الله أثنى على الرجل وقبل عمله وجازاه بفعله بدخوله الجنة.
[ ص: 109 ]
فهذه قصة نبوية تربوية يتربى من خلالها الأطفال على حب الخير والمجازاة عليه، ففي سقي البهائم والإحسان إليهم أجر كبير، وفي كل كبد رطبة أجر وإحسان لعموم الناس؛ لأنه إذا حصلت المغفرة بسب سقي الكلب فسقي المسلم أعظم أجرا.
وبالمقابل لقصة الرجل الذي سـقى الكلب قصه المرأة مع القطة، التي لم تطعمها ولم تتركها تأكل من فضلات الأرض حتى ماتت فدخلت بسببها النار، فعن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النار، قال: فقال: والله أعلم، لا أنت أطعمتها ولا سقيتها حين حبستيها ولا أنت أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض ) >[5] .
في سرد هذه القصة مواقف تربوية رائعة من عدم إيذاء الحيوانات ووجوب الرأفة بها والإحسان إليها، فكما دخل الرجل الجنة بسبب الإحسان إلى الكلب فكذلك دخلت المرأة النار بسبب الهـرة، التي حبستها لم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى الرأفة بالحيوان وعدم إيذائه والإحسان إليه، لذلك فمن الأولى الإحسان إلى الناس وعدم إيذائهم والرفق فيهم.
وللطفل اليوم، فيما قصه له الرسول صلى الله عليه وسلم عن طفولة المؤمنين وتضحيتهم لدين الله أسوة حسنة، ولما بذله أطفال الصحابة قدوة يسـير فيها على درب الإيمان، لا يخاف في الله لومة لائم، وكذلك في قصة غلام الأخدود قدوة للأطفال.
[ ص: 110 ]
فقد روى مسلم عن صهيب ، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاما يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتـلى فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك؛ فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك، قال: ربي، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: ... إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا [ ص: 111 ] بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه [ ص: 112 ] فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق ) >[6] .
قصة تربوية نبوية رائعة، تربي الطفل على الثبات على العقيدة والتضحية من أجلها، والصدق والاستقامة والجرأة في الحق، والتضرع إلى الله ودعائه، وأنه هو القادر على كل شيء.
فالطفل المسلم اليوم في مواجهته للتحديات المعاصرة الكثيرة والخطط والمؤامرات والدراسات التي تدبر ضده كي تحرفه عن دين الله ومنهجه فهو في مقابل ذلك يحتاج إلى التضحية في سبيل الله والثبات على منهجه، فعند ذلك يتذوق حلاوة الإيمان.
والقرآن يستخدم القصة لجميع أنواع التربية والتوجيه، التي يشملها منهجه التربوي: تربية الروح وتربية العقل وتربية الجسم، وهو يستخدم كل أنواع القصة: القصة التاريخية الواقعية المقصودة بأماكنها وأشخاصها وحوادثها؛ والقصة الواقعية التي تعرض نموذجا لحالة بشرية؛ والقصة التمثيلية التي لا تمثل واقعة بذاتها ولكنها يمكن أن تقع في أي لحظة من اللحظات وفي أي عصر من العصور.
فهناك قصص الأنبياء وقصص المكذبين بالرسالات وما أصابهم من جراء تكذيبهم، وهي قصص تذكر بأسماء أشخاصها وأماكنها وأحداثها على وجه التحديد والحصر كقصة موسى وفرعون وعيسى وبني إسرائيل وصالح وثمود ونوح وقومه.
[ ص: 113 ]
كذلك قصة بني آدم فهي من أهم القصص التوجيهي في القرآن وهي قصة البشرية الأولى وقصـة البشر كلهم على مدار التاريخ،
قال تعالى:
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة:30).
فقصة آدم ، عليه السلام، في القرآن تعرض لنا لحظة الضعف البشري، الذي أصابه فنسي نفسه وعهده مع ربه وجنح إلى شهوة من شهواته فاستزله الشيطان، والقرآن يعرضها هكذا، ولكن الآداب الأوروبية بما فيها من انحراف تعرضها على أنها مفخرة لآدم وبطولة وهي آداب توحي للناس بعصيان ربهم والإغراق في الشهوات لكي يحققوا ذواتهم، كأنما الطريق الوحيد لإثبات الذات هو الشهوات والعصيان، وكأنما الطاعة لله هي انعدام الشخصية، فهذه النظرة فوق ما فيها من مرض وانحراف تعيش في مستوى الأطفال، فالطفل وحده هو الذي يظن أنه يثبت وجوده حين يعصي، ويلغي كيانه إذا أطاع، ولكنه حين يكبر وينضج حين يفهم الحياة وحقيقتها يعرف أن هناك طريقين لا طريقا واحدا لإثبات الذات: طريق الطاعة وطريق العصيان، فهـذه هي حقيقـة البشرية على الأرض وهي الحقيقة التي ترمز لها قصة آدم في القرآن
>[7] .
[ ص: 114 ]
وقصة عمير بن أبي وقاص ، رضي الله عنه، الذي بكى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخبره في غزوة بدر وهو ابن ست عشرة سنة في هذه الغزوة، وغير ذلك من القصص التي تجعل الطفل يتعايش مع جو التضحية والبذل من أجل العقيدة.