فقه التوسط (مقاربة لتقعيد وضبط الوسطية)

الدكتور / نوار بن الشلي

صفحة جزء
- ثلاثة انحرافات عن الوسطية في باب الأحكام:

هذه المسألة من أكثر المسـائل فائدة ودقة، إذ بين فيها ابن القيم ، رحمه الله، طبيعة الانحرافات الحاصلة عن التوسط والاعتدال في تعظيم الأمر والنهي وحددها في:

- ألا يعارض الأمر والنهي بترخص جاف.

- ولا يعرضا لتشدد غال.

- ولا يحملا على علة توهن الانقياد.

ويشرح ذلك بقوله:

«ها هنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي: أحدها: الترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال. والثاني: الغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي. فالأول تفريط والثاني إفراط.... والغلو نوعان:

نوع يخرجه عن كونه مطيعا كمن زاد في الصلاة ركعة، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات الكبار التي يرمى بها المنجنيق، أو سعى بين الصفا والمروة عشرا أو نحو ذلك عمدا. [ ص: 47 ] وغلو: يخاف منه الانقطاع والاستحسار كقيام الليل كله وسـرد صـيام الدهر أجمع بدون صـيام أيام النهي والجور على النفوس في العبادات والأوراد..».

وأما الانحراف الثالث فقد شرحه بعد أن أورد جملة من الأحاديث في التيسير وترك الغلو والتشدد بقوله: «أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه...

وقد بلغ بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة، وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب خمر العنب معللا بالإسكار فله أن يشرب منه ما شاء ما لم يسكر..

ومن العلل التي توهن الانقياد: أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر، فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور، وفي بعض الآثار القديمة: يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا، ولكن قولوا: بم أمر ربنا..

وقد دخل من هذا الفسـاد على كثير من الطـوائف ما لا يعلـمه إلا الله، فما يدرى ما أوهنت العلل الفاسـدة من الانقياد إلى الله، فكم عطلت لله من أمر وأباحت من نهي وحرمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها» >[1] . [ ص: 48 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية