السماحة معمول بها ما جرت على أصول الشرع
وهذه القاعدة تفصيل وبيان مكمل للقاعدة السابقة، فالحكم بالتوسط هو وقوف بين التشديد المتنطع والتيسير المفرط، وليس من ضرورة التوسـط اللجوء إلى التيسـير مطلقا، بل ملاحظة التيسير لا بد من أن تزامنها ملاحظة مدلولات النصوص واتجاهاتها ومراميها المحققة للخير والصلاح.
إذ التيسير روح، والنصوص بمثابة الجسد لهذه الروح، فلا يعتنى بالروح ويهمل الجسد، وهذا هو المتفق مع
( قوله صلى الله عليه وسلم : بعثت بالحنيفية السمحة ) >[1] ، لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها، حسب تعبير الشاطبي
>[2] .
ومما يدل على أن التسـاهل والتيسـير غير معتبر بإطلاق، ما نلمحه في قـول الله تعالى:
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) (النساء: 97) .
[ ص: 52 ] فالتيسـير لم يعتبر هنا، ولم يرخص لهؤلاء بالقعـود في أرض يذل فيها الإسـلام وأهـله، فذلك مناف للعزة التي ينبغي للمسـلم أن يسـعى للاصطباغ بها.
وفي قـول الله تعالى:
( وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا ) (التوبة:81) ،
فقد يسبق إلى الوهم أن شدة الحر قد تسبب التخفيف إن وقعت، والحقيقة ليسـت بذاك، لأن التخفيف هنا يتنافي مع مقصـد من مقاصد الشـارع، وهو سيادة الإسلام، ولن تكون له سيادة مع الركون إلى الدعة والتخفيف والتيسير المطلق من كل القيود.
وفيما روى
البخاري ( عن أم سلمة ، رضي الله عنهما ، أنها قالت: «جاءت امرأة إلى رسـول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، مرتين، أو ثلاثا، كل ذلك يقول: لا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ) >[3] . فلم يسمح صلى الله عليه وسلم للحادة بالاكتحال لمجرد التداوي؛ لأن ذلك قد يتخذ ذريعة من بعض النساء للتزين للخاطب قبل انقضاء العدة، ولأن الحكم الشرعي في العدة أخف بكثير مما كانت تعانيه المعتدة في الجاهلية.
[ ص: 53 ]