الخير في الاتباع والشر في الابتداع
وبمعناها قول بعض السـلف: اتبع ولا تبتدع، وقول بعضـهم أيضا: لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، أو لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها.. الخ من العبارات والكلمات الدالة على تحقق الصلاح والخير في اتباع سيرة السلف، من الصحابة والتابعين بإحسان، وأن ترك ذلك إلى الابتداع والإحداث مظنة الشر والخسران.
وأصول هذه القاعدة كثيرة جدا، قرآنا وسنة، وتواردت بمعناها كلمات وعبارات نيرة في كلام الصحابة رضي الله عنهم ، والتابعين بإحسان
>[1] .
[ ص: 87 ] فمن ذلك:
( عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنهما ، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشـتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السـبابة والوسطى. ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) >[2] .. وفي رواية:
( وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ) >[3] .
وعن
عائشة رضي الله عنها ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ) >[4] .
قال
الحافظ ابن رجب الحنبلي : «وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام وهو ميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث «الأعمال بالنيات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء»
>[5] .
[ ص: 88 ] وقال
الإمام الشوكاني : «وهذا الحديث من قواعد الدين لأنه يندرج تحته من الأحكام ما لا يأتي عليه الحصر، وما أصرحه وأدله على إبطال ما فعله الفقهاء من تقسيم البدع إلى أقسام وتخصيص الرد ببعضها بلا مخصص من عقل ولا نقل، فعليك إذا سمعت من يقول هذه بدعة حسنة بالقيام في مقام المنع مسندا له بهذه الكلية وما يشابهها من نحو قوله:
( كل بدعة ضلالة ) طالبا لدليل تخصيص تلك البدعـة التي وقع النـزاع في شأنها بعد الاتفاق على أنها بدعة، فإن جاءك به قبلته وإن كاع كنت قد ألقمته حجرا واسـترحت من المجادلة.
ومن مواطن الاستدلال لهذا الحديث كل فعل أو ترك وقع الاتفـاق بينك وبين خصمك على أنه ليس من أمر رسـول الله (وخالفك في اقتضائه البطلان أو الفسـاد) متمسـكا بما تقرر في الأصول من أنه لا يقتضي ذلك، إلا عدم أمر يؤثر عدمه في العدم كالشرط، أو وجود أمر يؤثر وجوده في العدم كالمانع، فعليك بمنع هذا التخصيص الذي لا دليل عليه إلا مجرد الاصطلاح، مسندا لهذا المنع بما في حديث الباب من العموم المحيط بكل فرد من أفراد الأمور التي ليست من ذلك القبيل، قائلا: هذا أمر ليس من أمره، وكل أمر ليس من أمره رد فهذا رد، وكل رد باطـل فهذا باطل، فالصلاة مثلا التي تـرك فيها ما كان يفعله رسول الله أو فعل فيها ما كان يتركه ليست من أمره فتكون باطلة بنفس هذا الدليل، سواء كان ذلك الأمر المفعول أو المتروك مانعا باصطلاح أهل الأصول أو شرطا أو غيرهما، فليكن منك هذا على ذكر»
>[6] .
[ ص: 89 ] وعن
أبي البختري قال: " بلغ
عبد الله بن مسعود أن قوما يقعدون بين المغرب والعشاء يقولون: قولوا كذا، قولوا كذا، قال عبد الله: إن فعلوا فآذنونني، فلما جلسوا أتوه فانطلق معهم وعليه برنس، فأخذوا في تسبيحهم، فحسـر عبد الله عن رأسـه البرنس وقال: أنا عبد الله بن مسـعود؛ فسكت القوم، فقال: لقد جئتم بدعة ظلما، وإلا فضـللنا أصـحاب
محمد صلى الله عليه وسلم ، قال
عمرو بن عتبة بن فرقد : أسـتغفر الله يا ابن مسـعود وأتوب إليه. فأمرهم أن يتفرقوا. "
وفي رواية
( قال: يا معشر القراء، استقيموا، فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا ) >[7] .
وأخرج
عبد الرزاق من طريق
الشعبي قال: «جاء رجل إلى
شريح فسأله عن دية الأصابع. فقال: في كل أصبع عشرة إبل. فقال: سبحان الله هذه وهذه سواء، الإبهام والخنصر! فقال: ويحك إن السنة منعت القياس، اتبع ولا تبتدع.»
قال
الإمام مـالك ، رحمـه الله: ومن أحـدث في هذه الأمة شـيئا لم يكن عليه سـلفها فقد زعم أن رسـول الله خان الدين؛ لأن الله تعالى يقول:
( اليوم أكملت لكم دينكم ) (المائدة: 3) فما لم يكن يومئـذ دينا لا يكون اليوم دينا»
>[8] .
[ ص: 90 ]