من اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم
هذه القاعدة خصها
شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله، بمصنف من تصنيفاته القيمة، وقد كان الذي دعاه إلى ذلك اعتراض بعض معاصريه على جواب له في مسألة عدم جواز التشبه بأعياد النصارى، وقد أوضح ذلك في خطبة الكتاب فقال: «.. وبعد، فإني قد نهيت إما مبتدئا وإما مجيبا عن التشبه بالكفار في أعيادهم، وأخبرت ببعض ما في ذلك من الأثر القديم والدلالة الشرعية، وبينت بعض حكمة الشـرع في مجانبة هـدي الكفار من الكتابيين والأميين، وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم وإن كانت هذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة كثيرة الشـعب وأصلا جامعا من أصـولها كثير الفروع، لكني نبهت على ذلك بما يسـره الله تعالى، وكتبت جوابا في ذلك لم يحضرني السـاعة، وحصل بسـبب ذلك من الخير ما قدره الله سبحانه.
ثم بلغني بآخرة أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده لمخالفة عادة قد نشأوا عليها، وتمسكوا في ذلك بعمومات وإطلاقات اعتمدوا عليها، فاقتضاني بعض الأصحاب أن أعلق في ذلك ما يكون فيه إشارة إلى أصل هذه المسألة، لكثرة فائدتها وعموم المنفعة بها ولما قد عم كثيرا من الناس من الابتلاء بذلك حتى صاروا في نوع جاهلية، فكتبت ما حضرني الساعة، مع أني لو استوفيت ما في ذلك من الدلائل وكلام العلماء واستقريت الآثار في ذلك لوجدت فيه أكثر مما كتبه ولم أكن أظن أن من خاض في الفقه ورأى إيماءات الشـرع ومقاصده وعلل الفقهاء ومسـائلهم يشك في ذلك، بل
[ ص: 91 ] لم أكن أظن أن من وقر الإيمان في قلبه وخلص إليه حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه إذا نبه على هذه النكتة إلا كانت حياة قلبه وصحة إيمانه توجب استيقاظه بأسرع تنبيه، ولكن نعوذ بالله من رين القلوب وهوى النفوس، اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه..»
>[1] .
بين
شيخ الإسلام ابن تيمية العلاقة بين التشبه والمخالفة من جهة والمتشبه بهم والمخالفين من جهة أخرى، فذكر ما ملخصه:
- أن المشاركة في الهدي الظاهر يورث تناسبا بين المتشابهين، يقود إلى التوافق بينهم في الأخلاق والأعمال.
- والعكس بالعكس، فإن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة، توجب المخالفة في الأخلاق والأعمال.
- أن التشارك في الهدي الظاهر يوجب الاختلاط وعدم التميز الظاهر، وهذه مفسدة، تئول إلى ذهاب معالم الإيمان وشعار أهل الإسلام
>[2] .
وقد ساق فيه من الأدلة والبراهين الناهية عن التشبه بالكفار وتقليدهم في عاداتهم وأعيادهم.. إلخ ما يقطع بصحة هذه القاعدة كل منصف، غير أنه قد وقع في عصرنا هذا وفي العصور قبله أضعاف ما ذكره الشيخ في مصنفه بما لا يشك عارف بالإسلام ونصوصه مباينته للوسطية التي هي الصراط المستقيم، ونحن نذكر لك أمثلة من ذلك:
«كان السلف يقولون: من فسد من علمائنا ففيه شبه من
اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، وهذا كما قالوا، فإن من
[ ص: 92 ] فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه، وكتمان ما أنـزل الله إذا كان فيه فوات غرضه، وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها
اليهود ، من الكفر واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم وتلبيس الحق بالباطل، فهذا شبهه باليهود ظاهر. وأما من فسـد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه، لا بما بعث به رسوله، وغلا في الشيوخ فأنـزلهم منـزلة الربوبية، وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الاتحاد، فشبهه بالنصارى ظاهر..»
>[3] .
ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه، حيث قال فيما أخرجاه في الصحيحين
( عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشـبر وذراعا بذراع حتى لو سـلكوا جحر ضب لسـلكتموه، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال: فمن؟! ) >[4] .. فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهي عن التشـبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه أنه
( قال: لا تزال طائفة من أمتي ظـاهرين على الحق لا يضـرهم من خـذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) >[5] .
[ ص: 93 ]