مقصود الإطلاق في الأوامر والنواهي أن تحمل على التوسط
هذه القاعدة من قواعد فهم النص الشرعي على التوسط ، وهي من نفائس ما قرره
الشاطبي ، رحمه الله، وذلك قوله: «إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أشياء وأمر بأشياء، وأطلق القول فيها إطلاقا ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط، لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي، فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة، والنهي عن مساوي الأخلاق وسائر المناهي المطلقة، -وقد تقدم أن المكلف جعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومنته-..»
>[1] .
فالأوامر والنواهي في القرآن الكريم تأتي على ضربين:
الأول: أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء، وعلى كل حال، لكن بحسب كل مقام، وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل موضع، لا على وزان واحد، ولا حكم واحد، ثم وكل ذلك إلى نظر المكلف، فيزن بميزان نظره، ويتهدى لما هو اللائق والأحرى في كل تصرف، آخذا بين الأدلة والمحاسن العادية، كالعدل والإحسان، والوفاء بالعهد، وإنفاق عفو المال، وأشباه ذلك، ألا ترى إلى
( قوله في الحديث: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) >[2] ؟ فقول الله تعالى:
( إن الله يأمر بالعدل [ ص: 94 ] والإحسان ) (النحل: 90) ، ليس الإحسان فيه مأمورا به أمرا جازما في كل شيء، ولا غير جازم في كل شيء، بل ينقسم بحسب المناطات. ألا ترى أن إحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب، وإحسـانها بتمام آدابها من باب المندوب، ومنه إحسان القتلة كما نبه عليه الحديث، وإحسان الذبح إنما هو مندوب لا واجب، وقد يكون في الذبح من باب الواجب، إذا كان هذا الإحسان راجعا إلى تتميم الأركان والشروط. وكذلك العدل في عدم المشي بنعل واحدة ليس كالعدل في أحكام الدماء والأموال وغيرها، فلا يصح إذا إطلاق القول في قوله تعالى:
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل: 90) ،
أنه أمر إيجاب أو أمر ندب، حتى يفصل الأمر فيه وذلك راجع إلى نظر المجتهد تارة، وإلى نظر المكلف وإن كان مقلدا تارة أخرى، بحسب ظهور المعنى وخفائه.
الثاني: أن تأتي الأوامر والنواهي في أقصى مراتبها، ولذلك تجد الوعيد مقرونا بها في الغالب، وتجد المأمور به منها أوصافا لمن مدح الله من المؤمنين، والمنهي عنها أوصافا لمن ذم الله من الكافرين. ويعين ذلك أيضا أسباب التنـزيل لمن استقرأها، فكان القرآن آتيا بالغايات تنصيصا عليها، من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك، ومنبها بها على ما هو دائر بين الطرفين، حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع، فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين، كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف، لقربها من الطرف المذموم، أو مظنة الرجاء، لقربها من الطرف المحمود، تربية حكيم خبير.
وقد روي في هذا المعنى: عن
أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، في وصيته
لعمر بن الخطاب عند موته حين
[ ص: 95 ] " قال له: ألم تر أنه أنـزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيده إلى التهلكة، أولم تر يا
عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم، لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخشى أن أكون منهم، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيء، فإذا ذكرتهم قلت: إني مقصر، أين عملي من أعمالهم "
>[3] .
وحيث كان القرآن آتيا بالطرفين الغائيين حسـبما اقتضاه المسـاق، فإنما أتى بهما في عبارات مطلقة تصدق على القليل والكثير، فكما يدل المساق على أن المراد لأقصى المحمود أو المذموم في ذلك الإطلاق، كذلك قد يدل اللفظ على القليل والكثير من مقتضاه، فيزن المؤمن أوصافه المحمودة فيخاف ويرجو، ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضا ويرجو.
ولهذا كان تحقيق المناط الخاص في تنـزيل الأحكام عاصما من الانحراف، قال
الشاطبي ، رحمه الله: «ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو طردي بإطلاق.. فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل»
>[4] .
[ ص: 96 ]