السنة حجة على الأمة وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة
هذه القاعدة فرع عن القاعدة السابقة ومتممة لها، إذ الشريعة متضمنة في الوحي بنوعيه: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإذا كانت القاعدة الأولى يتوجه بها لمن فسدت آراؤهم حتى ناصبوا الشريعة العداء، فإن هذه القاعدة يتوجه بها إلى طوائف من أبناء المسلمين رضوا الشريعة حكما واطمأنوا بها ولكن شبه عليهم ولم يحسنوا قراءة التراث، ففصلوا بين القرآن والسنة، وربما تركوا السنة الواضحة لاجتهادات وآراء وثقوا بأصحابها، ومرة أخرى نقول لهؤلاء: لا توسط من غير تقديم السنة على آراء الرجال، وليس المقام مقام تفصيل، ولكني أورد ما يقرر هذا المعنى بما يتفق وشرح القاعدة، فأقول:
قال
الإمام الشافعي ، رحمه الله: «أجمع المسلمون أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يدعها لقول أحد»
>[1] ، وروى يوما حديثا فقال له قائل: أتـأخذ به؟ فقال له: «أتراني مشـركا أو ترى في وسـطي زنارا أو تراني خارجا من كنيسة؟! نعم آخذ به، آخذ به، آخذ به، وذلك الفرض على كل مسلم»
>[2] .
وقد تواتر النقل عن الأئمة جميعا قولهم: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
[ ص: 108 ] وقال
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : «سن رسـول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سـننا، الأخذ بها اتباع لكتاب الله عز وجل ، واستكمال لطاعة الله عز وجل ، وقوة على دين الله تبارك وتعالى، ليس لأحد من الخلق تغييرها، ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا»
>[3] .
قال
ابن وهب ، رحمه الله: سمعت
مالكا يقول، إذا جاءه أحد من أهل الأهواء: أما أنا فعلى بينة من ربي وأما أنت فاذهب إلى شاك مثلك فخاصـمه، ثم قرأ
( قل هذه سبيلي ) (يوسـف: 108) . وكان يقول إذا ذكر عنده أحد منهم: «قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : سن رسـول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سـننا..» وكان مالك إذا حدث بها ارتج سـرورا
>[4] .
وتحدث
ابن العربي ، رحمه الله، عن الانحراف الذي اتجه فيه الفقهاء إلى الأخذ بأقوال علماء بلدهم -على ضعفها- فعد ذلك من قواصم العلم، وذلك قوله: « ... ثم حدثت حوادث لم يلقوها في نصوص المالكية ، فنظروا فيها بغير علم، وجعل الخلف منهم يتبع في ذلك السـلف حتى آلت الحال ألا ينظر إلى قول مالك وكبراء أصحابه ويقال: قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلمنكة وأهل طليطلة وأهل طلبيرة، فانتقلوا من المدينة وفقهائها إلى طلبيرة وطريقها، وحدثت قاصمة أخرى تعلم العلم فيرجع القهقري أبدا إلى وراء على أمه الهاوية»
>[5] ،
[ ص: 109 ] ولما ذكر
أبو عبد الله المقري شرط أهل قرطبة قال بعده: «وعلى هذا الشرط ترتب إيجاب عمل القضاة
بالأندلس ، ثم انتقل إلى
المغرب ، فبينما نحن ننازع الناس في عمل المدينة، ونصيح بأهل الكوفة، مع كثرة من نـزل بها من علماء الأمة،
كعلي وابن مسعود ومن كان معهما سنح لنا بعض الجمود ومعدن التقليد أن نأخذ بعمل قرطبة!.. ذهبت قرطبة وأهلها ولم يبرح من الناس جهلها، ما ذاك إلا لأن الشيطان يسعى في محو الحق فينسيه، فالباطل لا زال يلقنه ويلقيه..»
>[6] .
وبمثل هذا علق
الإمام الطرطوشي على اشتراط الأخذ بما جرى به عمل قرطبة فقال: «هذا جهل عظيم»
>[7] ، وينقل هذا الرأي أيضا عن الفقيه
على بن هارون فإنه قال: «إن لم يعتمد على عمل أهل المدينة مطلقا دون تقييد ولا تفصيل، وهي مستقر الوحي ومنـزل الرسالة، فكيف يترجح بعمل أهل قرطبة »
>[8] ، وهكذا نرى أن مستند العمل هو أصل عمل أهل المدينة، وإذا كان النـزاع حاصلا فيه، فكيف بما تفرع عنه! وكيف يكون موقف المتشبث به وهو يجري على الضعيف ويترك المشهور أو الراجح!
[ ص: 110 ]