إذا قابل الشرع ما طلبه الطبع كان المقصود الوسط
هذا ضـابط في فهم نصوص الشـرع، التي ورد ظـاهرها بمقابلة ما تقتضيه الغريزة ومناقضة ما يستدعيه قانون الجبلة والخلقة التي فطر عليها الإنسان، وقد أخذته مما قرره الغزالي، رحمه الله، في كلامه الآتي قريبا، فإذا كان الإنسان مجبولا على حب المال ووجدنا من النصوص ما يبغض إليه ذلك مثلا أو يوحي بالمنع منه علمنا أن المقصود الاعتدال في تحصيله.
وإذا طلب الطبع سماع الصوت الحسن وطربت له النفس، ثم وجدنا من النصوص ما ينفر عن سـماع الغناء، علمنا أن المقصود الاعتدال في السماع، فلا يمنع كله ولا يباح كله، وفي النصوص الشـرعية ما يرشد إلى ما يجوز وما لا يجوز وليس المقام مقام تفصيل.
والأمر بالتوسط في الإنفاق على حاجات الإنسان من مأكل ومشرب وملبس... إلخ لا يعني بأية حال مخالفة طبيعته أو معاكسة رغباته، وإنما المراد منه معالجة هذه الرغبات بما يحفظ الإنسان، فمن أسرار حكمة الشريعة، كما يقول الغزالي:
«أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى وكان فيه فساد جاء الشرع بالمبالغة في المنع منه، على وجه يومئ عند الجاهل إلى أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع بغاية الإمكان، والعالم يدرك أن المقصـود الوسط،
[ ص: 111 ] لأن الطبع إذا طلب غاية الشـبع فالشـرع ينبغي أن يمدح غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثا والشـرع مانعا، فيتقاومان ويحصـل الاعتدال، فإن من يقدر على قمع الطـبع بالكلية بعيد، فيعـلم أنه لا ينتهي إلى الغـاية، فإنه إن أسـرف مسـرف في مضادة الطبع كان في الشرع أيضا ما يدل على إساءته ...
فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا يحس بألم الجوع ...
وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط وهو الاعتدال»
>[1] .
[ ص: 112 ]