ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور
ترد الأوامر الشرعية -كما هو مقرر في علم الأصول- على جهة الوجوب، وهذا هو الأصل فيها، كما ترد على جهة الندب وهذه المرتبة أقل من سابقتها من حيث توجه الطلب. والواجبات تنقسم باعتبارات متباينة إلى: واجب مطلق وواجب مؤقت ؛ وواجب محدد وغير محدد؛ واجب معين وواجب مخير ؛ واجب قضاء وواجب ديانة ؛ واجب عيني وواجب كفائي . كما أن المندوب أيضا ينقسم إلى: السنة المؤكدة ، والنافلة ، والسنة الزائدة .
ويشهد لهذا التفاوت بين الأحكام في مجال الأوامر
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أنه قـال: الإيمان بضـع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) >[1] .
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ، يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال أو أفضلها أو أي الإسلام خير... وما إلى ذلك من الصيغ المفيدة في آحادها ومجموعها تفاوت رتب الأعمال، وقد كانت الأجوبة تختلف من شـخص لآخر كما يعلم من مجموع الأحـاديث التي وردت بذلك، وهو ما يشهد «للتوسط» في الأحكام ويؤكده، إذ لو كان الجواب واحدا دائما لربما حرص الصحابة، رضوان الله عليهم، على امتثاله، ولو كان في ذلك
[ ص: 118 ] إهمال لما سواه، بما عهد عنهم من المسابقة إلى الخيرات، فيقع الإفراط والتفريط، فجاءت الأجوبة مختلفة ليظل المسلم يتقلب في منازل العبودية متمثلا جميع الأحكام بقدر الاستطاعة من غير ميل أو تغليب لجانب على آخر إلا أن يكون الظرف أو المصـلحة يقتضيان ذلك، أو كونه الأنفع في حقه، أو غير ذلك مما ذكره العلماء في توجيه اختلاف أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم للسائلين.
قال
الإمام النووي ، رحمه الله، عند شرحه لواحد من هذه الأحاديث التي ورد فيها الجواب عن خير الأعمال في الإسلام ناقـلا عن العلماء: «إنما وقع اختلاف الجواب في خير المسلمين لاختلاف حال السائل والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهم، لما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك.. في الموضع الآخر إلى الكف عن إيذاء المسلمين..»
>[2] .
وهذا الإهمال أو التساهل الذي ذكره النووي بما يعني الانحراف عن الوسط في امتثال أحكام الشريعة يحدثنا عنه بتفصيل أكبر
الإمام أبو حامد الغزالي معتبرا إياه نوعا من الغرور في التدين، فيقول تحت أصناف المغترين: «وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض، ترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وبصلاة الليل، وأمثال هذه النوافل، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت، وينسى
( قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ) >[3] ؛
[ ص: 119 ] وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور»
>[4] ، فانظر رحمك الله كيف اعتبر عدم مراعاة رتب الأحكام داخلا تحت باب الشر وهو الذي سميناه بالانحراف عن جادة الوسط، ثم يعطينا أمثلة أخرى فيقول: «بل قد يتعين في الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان أحدهما يضيق وقته والآخر يتسع وقته، فإن لم يحفظ الترتيب كان مغرورا...»
>[5] .
وقد كان
العلامة ابن القيم ، رحمه الله، منصفا ودقيقا حين رجح أفضلية العبادة بالظرف الذي تقع فيه ويحتاج إليها «فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل إلى تركه الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار.. والأفضل في وقت حضور الضيف.. القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب.. والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة.. الاشتغال بمساعدته.. فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب الوقت...»
>[6] .
ومن وصايا
سفيان الثوري : «وإن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة...»
>[7] .
[ ص: 120 ]