القضاء بالراجح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية
هذا الضابط من أكثر المعاني تعبيرا عن حضور الوسطية في الفكر الأصولي، إذ يتقرر بموجبه الالتفات إلى الرأي المرجوح متى أثار في نفس الفقيه قوة واحتمالا لما قام عليه من الأمارات والقرائن، وهو ما يقتضي العطف عليه بالنـزول عند بعض مقتضياته، فيما اصطلح عليه بمراعاة الخلاف.
ويرتد «مراعـاة الخـلاف»
>[1] ، في جوهـره إلى ما جاء في المعـيار عن
ابن العربي ، رحمه الله، قوله: «القضاء بالراجح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية، بل يجب العطف عليه بحسب مرتبته،
( لقوله عليه السلام : الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة ) >[2] ، قال: «وهذا هو مستند مالك فيما كره أكله فإنه حكم بالتحليل لظهور الدليل وإعطاء المعارض أثره»
>[3] ، والحديث الذي ساقه في هذا النص للاستدلال على حجية مراعاة الخلاف له سبب ورود يوضحه وهو كما أخرجه أهل الصحاح والسـنن: " أن
سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة اختصما في ابن وليدة زمعة، سـعد يدعي أنه ابن أخـيه
عتبة ، وعبد بن زمعة يدعي أنه أخوه لأنه من أمة أبيه، فقضى بينهما رسـول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكر سـابقا، وقال:
( هو لك يا عبد بن زمعة واحتـجبي منه يا سـودة ) "
[ ص: 133 ] فألحق الولد بصـاحب الفراش-زمعة- وأمر
سودة بنت زمعة بالاحتجاب لما رأى من شبهه
بعتبة . فجعل له حكما بين حكمين.
قال
ابن دقيق العيد في التعليق على هذا الحديث: وقد اسـتدل به بعض المالكية على قاعدة من قواعـدهم وأصـل من أصـول المذهب، وهو الحكم بين الحكمين، وذلك أن يأخذ مشابهة من أصول متعددة فيعطي أحكاما مختلفة ولا يمحض لأحد الأصول: وبيانه من الحديث: أن الفراش مقتض إلحاقه بزمعة والشبه البين مقتض إلحاقه بعتبة، فأعطى النسب بمقتضى الفراش وألحق بزمعة، وروعي أمر الشبه بأمر سودة بالاحتجاب منه، فأعطى الفرع حكما بين حكمين، ولم يمحض أمر الفراش فتثبت المحرمية بينه وبين سودة ولا روعي أمر الشبه مطلقا فيلحق بعتبة»
>[4] .
وعلى هذا الأساس عرف
الشاطبي ، رحمه الله، مراعاة الخلاف بأنه: «إعطاء كل واحد منهما -أي من الدليلين المتعارضين- ما يقتضـيه الآخر أو بعض ما يقتضيه»
>[5] .
كما عرفه
الشـيخ ابن عرفة ، رحمه الله، بقريب من هذا فقال هو: «إعمال دليل في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضـه دليل آخر»
>[6] ، وقد
[ ص: 134 ] مثلوا له: بأن
مالكا ، رحمه الله، استدل بدليل يقتضي فسخ نكاح الشـغار، فدليله هذا يدل على الفسـخ (المدلول) ، ولزوم المدلول وما ينتـج عن القول به: هو نفي التوارث بين الزوجين المتزوجين بالشغار. لكن مالكا، رحمه الله، أهمل هذا اللازم وعمل بلازم مدلول المخالف الذي يقتضي عدم فسخ نكاح الشغار إذا وقع
>[7] .
وهكذا ترى أن الفقيه قد ينـزل عن بعض متطلبات رأيه ومقتضـياته إلى بعض ما يقتضـيه رأي المخالف. فلا يتمحض الحكم لأحد الرأيين أو الدليلين المتنازع فيهما، وهذا معنى ابتناء مراعاة الخلاف على التوسـط والاعتـدال، وهو ما عبر عنه بالحـكم بين الحـكمين أو دوران الفرع بين أصلين.
ذلك أن الفقيه إذا دار الفرع عنده بين حكمين فألحقه بأحدهما فقد أبطل شبهه بالثاني من كل وجه، فإذا ألحقه بهما جميعا ولو من وجه كان ذلك أولى من إلغاء أحدهما، وهو ما يعني عدم الميل والانحراف إلى أصل أو دليل أو رأي وترك الآخر المقابل بالكلية.
بل إذا ترجح عنده رأي قدمه وعطف على المرجوح بحسب مرتبته، كما قال ابن العربي فيما نقلناه عنه سابقا. وقد شرح الإمام الزركشي وجهة النظر هذه القائمة على التوسط ملاحظا في ذلك خلاف علماء الأصول في مسألة «هل كل مجتهد مصيب» فقال: «يستحب الخروج منه
[ ص: 135 ] -أي الخلاف- باجتناب ما اختلف في تحريمه وفعل ما اختلف في وجوبه، إن قلنا كل مجتهد مصيب لجواز أن يكون هو المصيب.
وكذا إن قلنا: إن المصـيب واحد لأن المجتهد إذا كان يجوز خلاف ما غلب على ظنه ونظر في متمسـك مخـالفه، فرأى له موقعا، فينبغي أن يراعيه على وجه..»
>[8] .
وقد استشكل جماعة من أشياخ المالـكية العمل بمراعاة الخلاف، ووجهوا له جملة من الانتقـادات، الأقرب منها إلى ما نحن بصدد تقريره قولهم: «كيف يترك العالم مذهبه الصحيح عنده، ويفتي بمذهب غيره المضاد لمذهبه؟ هذا لايسوغ له إلا عند الترجيح وخوف فوات النازلة فيسوغ له التقليد ويسقط عنه التكليف في تلك الحادثة؟!»
>[9] .
والجـواب كما ذكـره غـير واحـد من العلمـاء: أن الخـلاف إنما يراعى إذا كان مأخـذه قويا، بأن تكافـأت الأدلة أو قاربت من ذلك، أما ما ضعف مدركه ودليله فإنه لا يعتد به، وهذا جريا على قاعدة التوسط دائما -كما مر بيانه في اعتبار الأدلة-: «فمن قوي مـدركه اعتد بخلافه وإن كانت مرتبـته في الاجـتهاد دون مرتبة مخـالفه، ومن ضعف مدركه لم يعتد بخلافه، وإن كانت مرتبته أرفع »
>[10] .
[ ص: 136 ]