التكلف مدعاة للغلو مجلبة للشر
والتكلف: معالجة الكلفة، وهي ما يشق على المرء عمله والتزامه لكونه يحرجه أو يشق عليه، ومادة التفعل تدل على معالجة ما ليس بسهل، فالمتكلف هو الذي يتطلب ما ليس له أو يدعي علم ما لا يعلمه
>[1] .
وهو اسم لما يفعل بمشقة أو تصنع أو تشبع، ولذلك صار التكلف على ضربين، محمود، وهو ما يتحراه الإنسان ليتوصل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلا عليه ويصير كلفا به ومحبا له، وبهذا النظر يستعمل التكليف في تكلف العبادات.
والثاني: مذموم، وهو ما يتحراه الإنسان مراءاة وإياه عنى بقوله تعالى:
( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) (ص: 86) ،
( وقول النبي صلى الله عليه وسلم : أنا وأتقياء أمتي برآء من التكلف ) >[2] ،
وقوله:
( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286) ،
أي ما يعدونه مشقة فهو سعة في المآل نحو قوله:
( وما أنا من المتكلفين ) (ص: 86)
أفاد انتفـاء جميع التكلف عن النبي صلى الله عليه وسلم . فالمعنى هنا: ما أنا بمدع النبـوءة باطـلا من غير أن يوحـى إلي وهو رد لقولهم:
( كذاب ) (ص:4) ، وبذلك كان كالنتيجة لقوله:
[ ص: 138 ] ( قل ما أسألكم عليه من أجر ) ، لأن المتكلف شيئا إنما يطلب من تكلفه نفعا، فالمعنى: وما أنا ممن يدعون ما ليس لهم
>[3] .
وفي الصحيحين عن
ابن مسعود أنه قال: «يا أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، قال الله لرسوله:
( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) .. وأخذ من قوله:
( وما أنا من المتكلفين ) ، أن ما جاء به من الدين لا تكلف فيه، أي لا مشقة في تكاليفه وهو معنى سماحة الإسلام، وهذا استرواح مبني على أن من حكمة الله أن يجعل بين طبع الرسول صلى الله عليه وسلم وبين روح شريعته تناسبا ليكون إقباله على تنفيذ شرعه بشراشره؛ لأن ذلك أنفى للحرج عنه في القيام بتنفيذ ما أمر به
>[4] .
" ولقد وصف ابن مسعود، رضي الله عنه ، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاعتدال فقال: أولئك أصحاب
محمد كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه وإتمام دينه، فاعرفوا فضلهم واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم "
>[5] .
( وعن ابن عمر رضي الله عنه ، قال: خرج رسول الله في بعض أسفاره فمر على رجل جالس عند مقراة له (أي حوض ماء) ، فقال عمر: يا صاحب [ ص: 139 ] المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «يا صاحب المقراة لا تخبره، هذا متكلف، لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور ) >[6] . " وعن
سليمان بن يسار : أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه
عمر وقد أعد له عراجين النخل، فقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه وقال: أنا عبد الله عمر، فجعل له ضـربا حتى دمي رأسـه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي "
>[7] .
فهذا منهج في المعرفة والاهتمام بالعلم وما ينفع، وفي الأمة اليوم أوقات تمضي وأوراق تسود وأموال تنفق على كثير من المعارف التي هي كناسة الأذهان وربما تعدى الأمر إلى التطاول والاستهانة بالمقدسات بحجة حرية الفكر وغيرها.. فكم في الأمة ممن هو شر من صبيغ وممن هو في حاجة إلى مثل فعل عمر بصبيغ وأشد.
وقد تحدث
ابن الجوزي ، رحمه الله، على نوع من أنواع التكلف فقال: «إذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف، فإن كثيرا من العلماء يأنفون من قول لا أدري، فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئلا يقال:
[ ص: 140 ] جهلوا الجواب، وإن كانوا على غير يقين مما قالوا، وهذا نهاية الخذلان. وقد روي عن
مالك بن أنس أن رجلا سأله عن مسألة فقال: لا أدري، فقال: سافرت البلدان إليك، فقال: ارجع إلى بلدك وقل: سألت مالكا فقال: لا أدري. فانظر إلى دين هذا الشخص وعقله كيف استراح من الكلفة وسلم عند الله عز وجل ، ثم إن كان المقصود الجاه عندهم فقلوبهم بيد غيرهم.
والله لقد رأيت من يكثر الصـلاة والصـوم والصـمت ويتخشع في نفسـه ولباسه، والقلوب تنبوا عنه، وقدره في النفوس ليس بذلك. ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محـبته. فتدبرت السـبب فوجدته السريرة، كما روي عن
أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير صلاة وصوم وإنما كانت له سريرة، فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر»
>[8] .
ومن هذا المعنى ما ذكره
الشيخ الألوسي ، رحمه الله، عند تفسير قوله تعالى:
( لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين ) (التـوبة: 44) فقال: «وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفا ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما فإن الاستئذان في مثل هذه المواطن أمارة التكلف والتكره،
[ ص: 141 ] ولقد بلغ من كرم الخليل، صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وأدبه مع ضيوفه أنه لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيء للضيافة بمرأى منهم، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسـوله عليه الصلاة والسلام ، بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة،
فقال سـبحانه:
( فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ) (الذاريات: 26) ،
أي ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به»
>[9] .
( وعن شقيق ، قال: دخلت أنا وصاحب لي على سلمان رضي الله عنه ، فقرب إلينا خبزا وملحا، فقال: «لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التكلف لتكلفت لكم»، فقال صاحبي: لو كان في ملحنا سعتر، فبعث بمطهرته إلى البقال فرهنها فجاء بسعتر فألقاه فيه، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال سـلمان: لو قنعت بما رزقت لم تكن مطهرتي مرهونة عند البقال ) >[10] .
وقـد روى
ابن حبان تحت: ذكر الإخـبار عما يجب على المـرء من تـرك التكـلف في دين الله بما تنكـب عنه وأغضـى عن إبـدائه،
( عن سعد بن أبي وقاص ، أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أعظم الناس في المسلمين جرما من سأل عن مسألة لم تحرم فحرم على المسلمين من أجل مسألته ) >[11] .
[ ص: 142 ]